«البرنامج بكلمة مختصرة هو الإرادة العامة. وهو بهذا المعنى يعكس التطلعات والمصالح العامة للشعب»، هذا ما جاء في مقدمة البرنامج السياسي لـ«الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين» الذي أقرّه مؤتمرها الثامن في أيار 2022. ولأن فصائل الحركة الوطنية الف لسطينية تعاني ضعفاً في صوْغِ برامجها، وفي وضع الخطط التنفيذية لها، سوف أنطلق من فهم «الجبهة الشعبية» لماهية البرنامج لتسليط الضوء على قضية رئيسية في النشاط السياسي الفلسطيني.
هل البرنامج هو الإرادة العامة؟
يضع الحزب، أيّ حزب، برنامجه ليحقِّق الغاية التي أُنْشِئَ من أجلها، والتي غالباً ما ينصّ عليها دستوره (النظام الداخلي). وقد يكون من الحكمة أن توضَع ثلاثة برامج؛ الأوّل استراتيجي، والثاني مرحلي متوسط المدى، والثالث قصير المدى (بين مؤتمرين). وأهم عناصر أيّ برنامج هي الأهداف والخطة التنفيذية التي تتوخّى تحقيقها. ولا يخضع الاستراتيجي للتغيير إلّا نادراً، وإذا أُجرِيَت عليه بعض التغييرات فتكون غير جوهرية، إلّا إذا انقلب الحزب على نفسه. أمّا المتوسّط والمرحلي، فإنهما عرضة للتغييرات المتواصلة بناءً على الدروس المستقاة من التجربة، والممارسة، وكذلك تغيُّر الظروف، ليتناسبا أكثر مع ضرورة تحقيق ما هو استراتيجي. وبما أننا نتحدّث عن المؤتمرات الحزبية، فإن هذا يعني أن البرنامج الذي يقرُّه المؤتمر يستهدف الفترة بين مؤتمرين، على اعتبار أن عقد المؤتمرات الدورية هو شرط أساسي لانتظام الحياة الحزبية.
بناءً على ما تقدّم، أرى القولَ بأنّ «البرنامج هو الإرادة العامة» يجانب الصواب. فالإرادة، وإن كانت ضرورية لتحقيق أي برنامج، إلا أنها لا تختصره، فما هي إلا جزءٌ منه، ويظهر ذلك من خلال الحرص والإصرار على استثمار كل عوامل القوة والطاقات المتوفرة والكامنة، على أحسن وجه، للوصول إلى الأهداف المحدّدة. كما تظهر الإرادة في انصهار الأعضاء، وبالذات في المراتب القيادية، في البرنامج، مترفّعين عن كلّ ما هو شخصي (السعي للمراكز القيادية لمصلحة معنوية أو مادّية أو حبّ السلطة)، وكذلك في جعل تقويم البرنامج والخطة التنفيذية دوريّاً، بما فيه أداء وممارسة المعنيين بذلك. وفي نهاية الأمر، يجب توفّر الإرادة للقيام بالتصويب اللازم من خلال معالجة الشوائب وتعزيز الإيجابيات للسير بثقة أكبر نحو الأهداف المنشودة.
الإرادة وحدها لا تصنع برنامجاً، إذ يجب أن تترافق مع الكفاءة في التخطيط، ووضع البرامج، والقراءة الصحيحة للواقع، واستخدام الوسائل والأساليب الناجعة، وكل ما يناسب تحقيق الأهداف. ومن ناحية أخرى، وبما أنّنا بصدد برنامجٍ حزبي، فالحديث يجب أن يكون عن إرادة الخاصة بالحزب لتحقيق أهدافه لا عن الإرادة العامة. فالحزب يعبّر عن إرادته وتطلعاته وفهمه الخاص للمصالح العامة، وعليه أن يخوض نضالاً مريراً ليتمكّن من إقناع الأغلبية بصحة برنامجه، فتتبنّاه وتمنحه الثقة ليعبّر عنها، وعن إرادتها. وأخيراً، الإرادة العامة هي إرادة جميع الفئات والشرائح المتوافقة على إطارٍ وبرنامجٍ يجمعان ممثليها كافةً من أحزابٍ ومنظّمات وشخصيات. لذلك، نجدُ القول بأن البرنامج هو الإرادة العامة خطأٌ ما كان يجب على واضعيه أن يقعوا فيه، علماً أنّهم في مجال آخر ذكروا أن البرنامج «يحدّد الفكرة التي يقوم عليها الحزب ويحدد الأهداف العامة التي يحددها لنفسه».

خلل في مهام البرنامج
تشكّلُ المهام، التي يضعها الحزب لنفسه، واحداً من أهم محتويات برنامج المؤتمر الحزبي. فهي التي، في حال إنجازها على نحوٍ جيّد، تمثّل المؤشّر العملي على التقدّم نحو الهدف. والمهمّة هي الفعل المنوي القيام به لتحقيق إنجازٍ معيّن يساهمُ في جعل الحزب يقترب من تحقيق هدفه أو أهدافه. ومن صفات المهمة الحزبية أن تكون ممكنة التحقيق، وهذا يعني أنّ الحزب يملك القدرات والمستلزمات الكافية لإنجازها. وفي حال كان تحقيق المهمة يتطلّب وقتاً أطول من الفترة بين مؤتمرين، لا بد من تجزئة هذه المهمة إلى مهام مرحلية. وللنجاح في إنجاز المهمّة، يجب أن تكون واضحة، ودقيقة، ومحدّدة المخرجات التي يجب أن تكون قابلة للقياس. كما يجب أن تُرفق بخطة تنفيذية مفصّلة: من سيقوم بهذا العمل أو ذاك، وكيف، ومتى، وماذا سيُنجَز، وكلّ هذا ضمن جدولٍ زمني معيّن.
لفت انتباهي أن «الجبهة الشعبية»، في مقدمة المهام وقبل تعدادها، تذكُر أن هذه المهام هي «مهام الشعب الفلسطيني في كلّ أماكن وجوده». وهذا أكبر خطأ في البرنامج؛ فكلّ حزب يضع المهام لنفسه ضمن تصوّره لمهام عموم الحركة الوطنية.
حدد البرنامج السياسي للجبهة المهام في 18 مهمة لم أجد فيها الصفات المذكورة أعلاه، وسوف آخذ أولاها مثالاً، وهذا نصّها: «العمل على استعادة مكانة ودور منظمة التحرير الفلسطينية بوصفها الممثل الشرعي والوحيد لشعبنا في جميع أماكن وجوده، والإطار السياسي الذي يجسّد الشخصية الوطنية المستقلة، والذي يضم الطبقات والفئات الوطنية كافة ذات المصلحة الحقيقية في تحقيق برنامج الثورة الفلسطينية وأهدافها، والعمل على إعادة بناء المنظمة على أسس ديموقراطية راسخة وإعادة الاعتبار لبرنامجها وميثاقها، والعمل على تعزيز الوحدة الوطنية وتطويرها وتوطيدها في إطار المنظمة».
بعد قراءة متأنّية لهذا النص، يبرز السؤال الآتي: ما هو المقياس الذي نستطيع من خلاله القول إن مكانة المنظمة ودورها، المفترض استعادتهما، قد تحقّقا أم لا؟ فإذا كان الدور والمكانة يُقاسان بالصفة التمثيلية، أي الممثل الشرعي والوحيد، فإن هذه الصفة كانت موجودة، ورسميّاً ما زالت، ومع ذلك لم تَحْمِنا من أوسلو ومن كل الجرائم التي ارتُكبت باسم هذه الصفة. ويصحُّ القول نفسه بالنسبة إلى إعادة بناء المنظمة، فعبارة «الأسس الديموقراطية الراسخة» بدون تحديد تفاصيلها يقبل بها «المتفرِّدون بالقرار» بدون جدال، وقد يبادرون قبل غيرهم إلى وضعها في «برنامج الإجماع». إن صياغة هذه المهمّة على هذا النحو يجعل من مخرجاتها غير محدّدة بدقة، وغير قابلة للقياس. وعدا ذلك، لم نعرف ما الذي ستقوم به الجبهة لإنجاز هذه المهمة، وكيف، وما هي الخطوات التنفيذية، ولم نعرف أيضاً المهلة الزمنية لإنجازها.
قد يقال إن لحركات التحرّر وضعاً خاصاً لأسباب أمنية، أو أن النجاح في إنجاز مهامّها يتطلّب السريّة في بعض المجالات. هذا صحيحٌ مبدئيّاً، لكن يجب أن لا يسري هذا على كل المجالات. وإذا كانت السرية ضرورية، فهذا لا يعني أنه يجب أن لا تُحدّد التفاصيل والخطط التنفيذية، بل يعني أن معرفتها تنحصر بدائرة معينة، وبحسب الاختصاص، في الحزب. خلاصة القول، إن سرّ نجاح البرنامج الحزبي يكمن في وضوح برنامجه ودقة أهدافه ومهامه لأن هذا ينمُّ عن حرصٍ وإرادة لتحقيقها، وهذا ما أتمنى أن تقوم به المنظمات الفلسطينية، وخاصة «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين».
لم يكن هدف هذه المقالة نقد برنامج المؤتمر الثامن للجبهة، بقدر ما كان تسليط الضوء على خللٍ يعتَوِرُ برامج جميع المنظمات الفلسطينية، وهذا يمثّل أحد أسباب أزمة الحركة الوطنية الفلسطينية الممتدة لعقود.

* كاتب وباحث فلسطيني