ذهب ممثّلو المنظمات الفلسطينية إلى الجزائر لتوقيع ما سمّوه «ورقة مصالحة». لماذا الآن؟ وما الجديد؟ وهل فيها شيء من الصلاح؟ هل من أملٍ في صفحة جديدة من العلاقات الفلسطينية-الفلسطينية؟ هل وحدة المنظمات الفلسطينية ممكنة؟كنت قد نشرت سابقاً مقالة بعنوان «الوحدة الفلسطينية المستحيلة» («الأخبار» 28/11/2020) قلت فيها إنّ وحدة الفصائل الفلسطينية «مستحيلة لأنّ المهيْمن على تمثيل الشعب فلسطيني، كان قد حسم أمره، منذ ما قبل أوسلو، للسير في الركب الأميركي، فدخل من بوابة اتّفاقية "السلام" مع المحتل إلى سجنٍ بمُسَمّى سلطة. حكم على نفسه، حكماً مؤبّداً، بالبقاء مقيّداً، لا يستطيع التحرُّر من قيده إذا ما اكتشف خطأه. أما الآخرون، فقد أثبتت التجربة، الممتدة لعشرات السنين، أنهم عاجزون عن الحفاظ على كياناتهم من دون الاتّكاء على التيار المهيْمن، وأنهم مضطرون، ولو بعد تمنُّعٍ، لمجاراته والقبول بما كانوا قد رفضوه سابقاً.
الهزيمة اللاحقة بنا اليوم، ليست وليدة الساعة، هي قديمة ومتنامية منذ عشرات السنين، وأبطالها هم الناطقون باسمنا. نعرفُ أنّ القائد الشهم يقدِمُ على الاستقالة إذا خسر معركة، أمّا قادتنا فيرفعون شارة النصر بعد كلّ هزيمة، وما أكثرها. إنّها لوحة كئيبة للمشهد الفلسطيني، لكنّ حياة الشعوب لا تستقيم مع الكآبة، فلا بدّ من مخرج، والمخرج بيد القوى الحيّة وليست المنتهية الصلاحية. والشعب الفلسطيني حيوي، ويملك من الطاقات والخبرات ما يكفي لتصحيح المسار، شرط أن تُستثمَر بطريقة صحيحة من قبل أداة صالحة».
لا أجدُ تغييراً جوهريّاً قد حصل عمّا كان قبل سنتين. لكن يبدو أن مأزق القوى الفلسطينية، إضافة لجهد الجزائر التي تحظى بتقدير واحترام جميع هذه القوى، قد ساهما في دفعها، وإن كان على استحياء، أن تقبل بالورقة الجزائرية. وإذا كان مسعى الجزائر مفهوماً، في ظلّ رئاستها للدورة التالية للجامعة العربية، إضافة لموقفها المُقدَّر من قضية الشعب الفلسطيني، فإن ذهاب المنظمات إلى هذا الاتفاق يطرحُ أسئلة أكثر من إجابات تتطلّبها المرحلة الحالية. والسؤال الأهم، لماذا أقبلت المنظمات على توقيع هذه الوثيقة وهي على علمٍ مُسبق أنّها لن تنجح في تحقيقها؟
مَنْ يتمعّن في خطاب أبو مازن في الأمم المتحدة يراهُ مليئاً بالخيبة واليأس، فهو قد أصبح بلا أدنى رصيد أمام شعبه، وكذلك أمام الكيان الصهيوني وراعيه الأميركي، على الرغم من كلّ التنازلات التي قدّمها لهما. وإذا كان في السابق قادراً، بطريقة أو بأخرى، على إدارة شؤون السلطة على أمل الوعود الأميركية والغربية الكاذبة، فإنه اليوم أصبح خالي الوفاض. يُضاف إلى هذا، أنّ الخلافات الداخلية المتنامية في حركة «فتح»، والتي باتت تشكّل نقطة ضعف مهمة في العمود الفقري للسلطة، شكّلت دافعاً، لقيادة السلطة و«فتح»، للجوء إلى اللعب على وتر «الوحدة الوطنية» الذي يدغدغ شعور وعواطف الشعب الفلسطيني بكل فئاته. إضافة إلى هذا، فإن أي حوار ينتهي باتفاق، حتى لو كان شكلِيّاً، هو عبارة عن تجديد «لشرعيتها» المتهالكة، وإرباكٍ وإضعافٍ لمعارضيها.
لقد كانت فكرة إمكانية إقامة سلطة وطنية في بطن حوت الاحتلال فكرة جنونية بالأصل، وهي اليوم، بعد تجربة أوسلو وسلطتها، أَجَن


أمّا القوى المعارضة لأوسلو، والتي ترفع لواء المقاومة، فإن أكبر خطأ اقترفته هو مقاربتها العقيمة للوحدة الفلسطينية. إذ كانت، وما زالت، ترى في منظمة التحرير والسلطة ممرّان إجباريّان لهذه الوحدة؛ فرفعت شعار إعادة بناء المنظمة وإصلاحها، ورأت في انتخابات المجلس التشريعي والرئاسة حلّاً لأزمة السلطة الفلسطينية. إنّ تغيير أي شيء من داخله مشروطٌ بتمتّع هذا الشيء بالاستقلال الذاتي، وبالتالي أن يكون التغيير خاضعاً للعوامل الذاتية الداخلية. لذلك، لا يمكن إصلاح السلطة أو تغيير وظيفتها من داخلها، لأن وظيفة هذه السلطة ووجودها يخضعان لإرادة خارجية عدوة، وفي أحسن الأحوال غير صديقة. فالسلطة كيانٌ مرهونٌ للتمويل الغربي والرضى الإسرائيلي، والمناطق المفترض أن تقوم عليها لا تملك المقوّمات الاقتصادية الذاتية المساعدة للتمرّد على مشيئة الاحتلال والغرب. وما يزيد هذا الكيان ضعفاً عزلته عن محيطه العربي وافتقاره لظهير مساند على حدودها. لقد كانت فكرة إمكانية إقامة سلطة وطنية في بطن حوت الاحتلال فكرة جنونية بالأصل، وهي اليوم، بعد تجربة أوسلو وسلطتها، أَجَن. هذه السلطة قالبٌ مصنوعٌ في الغرب وكلُّ ما يدخل فيه لا بد أن يتشكَّل بحسب مواصفاته.
أمّا بالنسبة إلى منظمة التحرير، وبسبب الاعتراف الدولي بها ممثّلاً شرعيّاً ووحيداً للشعب الفلسطيني، فقد اعتبرت قوى المعارضة أن المنظمة تشكل الإطار الأنسب للتعبير عن الوحدة الوطنية، ولذلك بذلت جهوداً مضنية لإصلاح وضعها لتكون معبّراً فعليّاً عن الوحدة الوطنية والحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني، وكان آخر هذه الجهود لقاء الجزائر. إنّ التمسّك بالمنظمة، بحجة الحفاظ على الاعتراف الدولي، خطأ كبير. فهذا الاعتراف مشروطٌ بالتزامات سياسية مناسبة للدول المؤثّرة في المجتمع الدولي، وبالذات الولايات المتحدة والغرب. لنفترض أن المنظمات الفلسطينية نجحت في الاتفاق على إعادة الاعتبار للميثاق الوطني للمنظمة، وإلغاء كل قراراتها غير المنسجمة معه. عندئذٍ، هل تعتقد القوى الفلسطينية أن الاعتراف سيظلُّ قائماً وكأن شيئاً لم يحدث؟ بكل تأكيد لا، وسيُسحب الاعتراف فوراً. يكفي أن أُذكِّر بانتخابات المجلس التشريعي وفوز «حماس» بالغالبية؛ فعلى الرغم من أن «حماس» لم تقم، في المجلس التشريعي والحكومة، بأي فعلٍ يناقض أوسلو، لم يقبل الغرب بالواقع الجديد وبدأ يحاصر سلطة «حماس» تدريجيّاً، إلى أن انتهينا إلى ما انتهينا إليه.
إذاً، وبعد أن تبخّرت كل وعود الدولة المستقلة، وبعد أن باءت كل محاولات الوحدة وإصلاح منظمة التحرير بالفشل، وبعد أن بدَتْ استجابة المنظمات المقاوِمة دون مستوى توقّعات الجمهور المقاوم، ولأن الشعب الفلسطيني قد ملَّ من مسلسل الحوارات غير المجدية وما عاد يثق بالمتحاورين، ولأن الواقع لا يقبل السكون، كان لا بد من مبادرات خارج أطر القوى الفلسطينية المعروفة، فشهدنا فدائيين فرديّين من نوعٍ جديد، وتطوّرت الظاهرة فنشأ ما بات يُعرف بـ«عرين الأسود». وأخيراً، يبدو أن الخروج من أزمة الحركة الوطنية الفلسطينية بات يتطلّب تفكيراً بحلولٍ من خارج الصندوق، صندوق السلطة، صندوق المنظمة، و«عرين الأسود» مثالاً.

*كاتب وباحث فلسطيني