قبل شهر من الآن، كنت في أحد المخيمات الفلسطينية، والتقيت هناك بعدد من الأشخاص، بينهم كوادر في حركة فتح، وكان الحوار في معظمه يدور حول انتخابات اتحاد موظفي «الأونروا» في لبنان، وكان ثمة إجماع، أنها تأخذ منحى سياسياً بامتياز. انتهى الاجتماع إلى هنا، ولم يكن فيه جديد، وذهبت في حال سبيلي. لكن، بعد ساعات، وأنا جالس في بيتي، استعدت بعض تفاصيل النقاش، فلفتني التحالف القائم بين منظمة التحرير، تحديداً حركة فتح، وبين «جمعية المشاريع الخيرية الإسلامية» (الأحباش)، وهذا منطقي، بحكم أن «الأحباش» على خلاف عقائدي مع «الإخوان المسلمين»، وبالتالي مع حركة حماس - المشاركة بقدها وقديدها في انتخابات «الأونروا» ضمن لائحة حملت اسم «نقابيون مستقلون» مقابل قائمة المنظمة باسم «العودة والكرامة».
هذا التحالف، القائم على خلفية التناقض مع «حماس» كما أظن، لم يكن جديداً، فانتشار «الأحباش» في المخيمات يبدو كبيراً، والمتابع ينتبه أن حجمهم في بعض المخيمات تجاوز بعض الفصائل والقوى الفلسطينية، وهذا مفهوم نسبياً، فلهؤلاء مؤسساتهم ومساجدهم ومدارسهم. وهم يقدمون خدمات للمنتسبين والمنتمين إليهم، وإلى بعض أنصارهم، فنشر الدعوة الإسلامية، بحسب مفاهيمهم، يتطلب كل ذلك وأكثر، ومع الوقت، وبسبب كل تلك الأمور العملانيّة في تحركاتهم في المخيمات وغيرها، تمكنوا من خلق نسيج اجتماعي، يواظب على اللقاءات وتلقي الدروس الدينية، والمساهمة أيضاً في النشاطات والفعاليات الخاصة بـ«المشاريع»، ولا سيما في مثل هذه الأيام مع ذكرى المولد النبوي الشريف.
ما ليس «طبيعياً»، أن يتمكّن الفكر «الحبشي»، إن صح التعبير، من تنصيب أشخاص، لديهم صلات واضحة مع تنظيمات وفصائل فلسطينية، لها توجهات أيديولوجية واضحة، كفصائل اليسار الفلسطيني، أو ممن ليس لديهم أيديولوجية، كـ«فتح». وحسب العديد من الفتحاويين، وبعض الصفوف القيادية، فإن كوادر عديدة من «فتح»، تعمل أيضاً مع «المشاريع» وتتبنى فكر «الأحباش».
وعند التوقف عند الفكرة الأخيرة، فيمكن القول بسهولة، إن التناقض فعلياً، عند اليساريين، فهؤلاء يفترض أنهم يحملون فكراً يسارياً «تقدمياً»، لكنهم مع «جمعية المشاريع»، فإنهم مع الطرف الذي يسمونه «رجعية». أمّا عند الفتحاويين، فالأمر طبيعي، على اعتبار أن «فتح»، قبلت تاريخياً واستوعبت كل الأطراف وكل التوجهات، ولم تلفظ أي أحد، لا لدينه ولا لمذهبه، ولا لفكره، فهي بالتعريف والتأصيل «حركة وطنية قومية دينية إنسانية».
أمّا في حال نظرنا إلى الأمر من زاوية مغايرة، وهي زاوية الفعل في الجسم الداخلي للفصائل، فستكون المشكلة أوضح من جانب، وأعقد من جانب آخر، ففي تأصيل المشكلة، يبدو أن الفصائل تخلّت أو تقاعست عن دورها في تأهيل كوادرها، وتعبئتهم سياسياً وفكرياً بما ينسجم مع كل جهة، وبما ينسجم مع سبب وجود كل جهة، وهو فقط فلسطين.
المسألة الأدعى للنقاش في هذا الصعيد، هو العلاقة التي تربط «الكادر» في التنظيمات الفلسطينية مع تنظيمه، هل هي علاقة انتماء من أجل الواجب الوطني، أم هي علاقة، باتت مصلحية مرتبطة بمكتسبات مادية، تكبر أهميتها يوماً بعد يوم، في ظل هذه الظروف، مع الانتباه أن «الوعد الإلهي» لدى «الأحباش»، كجهة دينية، أقرب لانتباه هؤلاء الكوادر. وعلى أهمية «الوعد الإلهي»، إلا أن آلاف الشهداء قضوا في سبيل الله وفلسطين، وهم ينتمون إلى فصائل ليست دينية، ولم يكن الأمر مدعاة للنقاش حتى، بينما اليوم، صار هناك، من يحرم الترحم على شهيدة أو شهيد ليس مسلماً، وهذه مقابر الشهداء تشهد على الشهداء، بل في الحقيقة على زمن كانت فيه الثورة لا تميز بين الأديان.
وإن كانت «جمعية المشاريع»، العاملة في الأوساط الاجتماعية منذ نحو 40 عاماً، قد نجحت اليوم باستقطاب حشد كبير في المخيمات، فإن هذا ليس بسبب ما تطرحه وما تقدمه فقط، بل بسبب ما قصرت به الفصائل الفلسطينية في عملها الاجتماعي، على الأقل منذ ثلاثة عقود.
والسؤال الذي يطرح نفسه اليوم، وهو المفتوح على إجابات متعددة، ماذا لو، لأي سبب، حصل خلاف - لا سمح الله - بين «فتح»، على سبيل المثال لا الحصر، وبين «الأحباش»، أين سيقف الكادر «الفصائلي الحبشي» إذا صح التعبير؟ ولنا في التاريخ عبر يا أولي الألباب.

* كاتب فلسطيني