أندري غوندر فرانك (1929-2005) هو عالم اجتماع ومؤرِّخ اقتصادي أميركي ذو أصول ألمانية، وكان عضواً في اللجنة الاقتصادية لأميركا اللاتينية والبحر الكاريبي (CEPAL) التي ساهمت دراساتها في تأسيس «نظرية التبعية» التي تطورت في السبعينيات إلى نظرية النظم العالمية (أو المنظومات العالمية). هذا المقال تلخيص لمقالتين لفرانك هما «تنمية التخلُّف» (1966)، و«علم اجتماع التنمية وتخلُّف علم الاجتماع» (1967).
مقدمة
أدّت فوارق الدخول واختلافات الثقافات إلى أن يرى العديد من المفكرين في عالم اليوم «مجتمعات واقتصادات مزدوجة» لكل منها تاريخها الخاص وبنيتها الخاصة، فالمجتمعات والاقتصادات الأولى، المتقدمة، هي تلك التي دخلت في علاقات اقتصادية حميمية مع العالم الرأسمالي، وبالتالي أصبحت حديثة، رأسمالية، ومتقدمة بفضل هذا الاتصال. بينما المجتمعات والاقتصادات الثانية، المتخلّفة، هي تلك التي كانت منعزلة، تحيا على أساس الكفاف، إقطاعية أو ما قبل رأسمالية، وبالتالي متخلّفة. تخدم هذه الرؤية «المزدوجة» تكثيف وإدامة نفس ظروف التخلُّف التي قامت من أجل معالجتها، والواقع ينافي تلك الرؤية ببساطة لأن «النظام الرأسمالي توسّع خلال القرون الماضية بشكل فعّال وكامل حتى في أكثر القطاعات عزلة... في العالم المتخلف».

تمتد علاقة المركز والطرف داخل كل دولة من خلال تفاوت التطور بين مركز الدولة المتطور وأطرافها المتخلفة، وعلى هذا الأساس يقوم استقطاب بين المناطق المتطورة والأخرى المتخلفة يتمثل في علاقة غير متكافئة. وهذه المناطق المتطورة تصير طرفاً للمراكز الرأسمالية المتقدمة في العلاقات على الصعيد العالمي. ويجري إدماج قطاعي التصدير والاستيراد للدول المتخلفة بالاقتصاد العالمي حيث «تربط سلسلة كاملة من كويكبات المراكز والأطراف جميع أجزاء النظام (الرأسمالي) بأكمله من مركزه الحضري في أوروبا أو الولايات المتحدة إلى أبعد نقطة في ريف أميركا اللاتينية».
«عندما نفحص بنية المركز والطرف هذه، نجد أن كل الأطراف... تعمل كأداة لامتصاص رأس المال أو الفائض الاقتصادي من تابعيها وتنقل جزءاً من هذا الفائض إلى المراكز العالمية التي تتبعها... ويعمل كل مركز، قومياً ومحلياً، على فرض البنية الاحتكارية والعلاقة الاستغلالية لهذا النظام والحفاظ عليهما... طالما أنهما يخدمان مصالح المراكز التي تستفيد من هذه البنية العالمية والقومية والمحلية لتعزيز نموّها وإثراء طبقاتها الحاكمة».
لا يمكننا فهم ميول البنية الرأسمالية العالمية (بنى التنمية والتخلُّف) إلا إذا حاولنا فهمها من خلال تطورها التاريخي المستمر، و«لا يرجع التخلُّف إلى بقاء المؤسسات القديمة ووجود نقص في رأس المال (والتكنولوجيا) في المناطق التي ظلت معزولة عن مجرى تاريخ العالم. بل وعلى العكس من ذلك، كان التخلُّف ولا يزال نتاج نفس العملية التاريخية التي ولَّدَت أيضاً التطور الاقتصادي: تطور الرأسمالية نفسها».

خمسُ فرضيات أساسية كقاعدة للنقد
يشير فرانك إلى خمس فرضيات مستنبطة من الملاحظة الإمبريقية والاستنتاج النظري اللذين مفادهما أن الدول المركزية تميل لأن تتطور وتنمو، بينما تميل الدول الطرفية لأن تتخلَّف. الفرضية الأولى مفادها أنه «على عكس تطور المراكز العالمية التي ليست طرفاً لأحد، فإن تطور المراكز القومية وغيرها من المراكز التابعة (المناطق المركزية في الدول الطرفية)، مقيَّدٌ بحالتها الطرفية».
الفرضية الثانية مفادها أن «الأطراف تشهد أكبر تطور اقتصادي لها، وخاصة تطورها الصناعي الرأسمالي الأكثر كلاسيكية، إذا كانت... روابطها بمراكزها في أضعف حالاتها». وهذه الفرضية تناقض الأطروحة القائلة بأن تطور الأطراف يقوم على انتشار رأس المال والتكنولوجيا والمؤسسات من قبل المراكز الرأسمالية. والفرضية الثالثة مفادها أن «المناطق الأكثر تخلفاً... هي تلك التي كانت لها روابط أوثق بالمراكز في الماضي». هذه المناطق كانت في الأساس أكبر مُصدِّري البضائع الأولية وأكبر مَصدرٍ لرأس المال للمراكز الرأسمالية. هذه الفرضية تناقض الأطروحة القائلة بأن مصدر تخلُّف مقاطعة معينة هو عزلتها ومؤسساتها الموروثة عن مرحلة ما قبل الرأسمالية، «مشاركة هذه المناطق في نمو النظام الرأسمالي العالمي، أعطاها، تحديداً في عصرها الذهبي، بنية التخلُّف النموذجية للاقتصاد الرأسمالي التصديري».
ذهب كل من فيبر ودوركايم إلى «بناء نظرية بديلة للنظام الاجتماعي من خلال البدء بأجزائه بدلاً من الكل»، وهذا هو الإجراء الذي اتبعه بارسونز مقلّلاً من أهمية الاستغلال


الفرضية الرابعة مفادها أن شكل الملكية المتعاظمة Latifundium ولد أساساً كمشروع تجاري أقام لنفسه مؤسسات تساهم وتعزز من استجابته لزيادة الطلب العالمي والقومي من خلال توسيع حجم أراضيه ورأسماله وعُمّاله من أجل زيادة منتجاته. والفرضية الخامسة مفادها أنه يمكن العثور على شكل الملكية المتعاظمة – الذي يظهر منعزلاً، وقائماً على الكفاف، وشبه إقطاعي، والذي تنخفض قدرته الإنتاجية – في الاقتصادات الزراعية وتلك القائمة على استخراج وتصدير المواد الخام التي تنخفض نشاطاتها الاقتصادية بشكل عام. تتعلق هاتان الفرضيتان بما حدث أثناء التحوّل من المؤسسات ما قبل الرأسمالية، وما يحدث أثناء الكساد الاقتصادي. ويكمن سبب «تراجع المشاريع الزراعية التي كانت مربحة في السابق، والتي كان رأسمالها، وفائضها الاقتصادي المنتج حالياً ما زال ينتقل إلى أماكن أخرى من قبل المُلّاك والتجار الذين غالباً ما يكونون نفس الأشخاص أو العائلات» إلى الفرضية الخامسة على وجه التحديد.

مقاربات التنمية الثلاث
سنناقش ثلاث مقاربات للتنمية. الأولى، «المؤشر النموذجي المثالي»، حيث يتم «تجريد السمات العامة للاقتصاد المتقدِّم كنوعٍ مثالي، ثم تجري مقارنتها بالسمات النموذجية المثالية لاقتصاد ومجتمع الفقراء». ويمكن إيجاد هذه المقاربة عند بيرت هوسليتز وتالكوت بارسونز. أمّا المقاربة الثانية، «الانتشار»، فيقوم فيها الغرب «بنشر المعرفة والمهارات والتنظيم والقيم والتكنولوجيا ورأس المال إلى دولة فقيرة، حتى يصبح مجتمعها وثقافتها وأفرادها بمرور الوقت متغيراتٍ من تلك التي جعلت المجتمع الأطلسي ناجحاً اقتصادياً». ويمكن إيجاد هذه المقاربة عند مانينغ ناش وهوسليتز. أمّا المقاربة الثالثة، «النفسية»، فتتمثل في «تحليل العملية كما تجري الآن في ما يسمى بالدول النامية... وتؤدي إلى فرضية على نطاق أصغر، وإلى منظور مستقبلي وليس منظور تاريخي للتغيُّر الاجتماعي».

1- المؤشر النموذجي المثالي
هي طريقة في مواجهة التطور الاقتصادي والتغيُّر الثقافي من خلال «إحصاءات المقارنة للنماذج المثالية القطبية»، وعادة ما تسمى بمقاربة «الفجوة» حيث تقوم بـ«طرح السمات النموذجية المثالية أو مؤشرات التخلُّف من تلك الخاصة بالتنمية، وما يتبقى هو إذاً برنامجك للتنمية». ويمكننا التفريق بين نموذجين لهذه المقاربة، الأول «متغيرات النمط» عند هوسليتز، والثاني «مراحل النمو» عند والت روستو، وخلاصتهما أن «التخلُّف حالة أصلية يمكن أن تُميَّز بمؤشرات تقليدية، وبالتالي فإن التنمية تتكوّن من التخلي عن هذه الخصائص وتبنّي خصائص البلدان المتقدمة».
- متغيرات النمط: استمد هوسليتز هذا النموذج من «الأنواع المثالية» عند ماكس فيبر، وخاصة تلك التي طوّرها بارسونز في كتابه «النسق الاجتماعي». متغيرات النمط هي «أنواع الخيارات المتاحة للأشخاص الهادفين؛ إنها انشطارات... يمثل كل منها نهايات قطبية متطرفة»، ومنها متغيِّر، «العالمية والتفرُّد» الذي مفاده أن كل فرد عليه، عندما يقوم بفعل معين، أن يتصرف وفقاً لمبدأ إمّا مقبولٌ عالمياً (الدور) أو مخصص لموقف محدد. ومتغيِّر، «الإنجاز والنَّسَب»، حيث يركز الفرد أثناء قيامه بفعل معين على الجوانب المحققة من قبل الفرد الآخر مثل المؤهلات الشخصية أو خصائص النسَب مثل العمر والطبقة الاجتماعية... ومتغيِّر «الخصوصية والانتشارية» الذي يأخذ الفرد فيه في اعتباره عوامل محددة مثل التعارض في عقد ما أقامه أو التزامات الانتماء إلى عائلة. ومقصد هذا النموذج «تمكين عالم الاجتماع من تحديد الخيارات النموذجية المتخذة، خاصةً تلك من النوع المؤسسي... (كما) أوجه التشابه والاختلاف بين الثقافات، أو قد يتم تقييد استخدامها للإشارة إلى... الأنظمة المتفرعة من النوع المؤسسي». يطرح هوسليتز أن «البلدان المتقدمة تُظهر متغيرات النمط الخاصة بالعالمية والتوجيه الإنجازيّ والخصوصية الوظيفية، بينما تتميز البلدان المتخلفة بالنقيض، أي التفرُّد والنسَب والانتشار الوظيفي. وعلى البلدان المتخلفة، من أجل تحقيق التنمية، أن تتخلص من متغيرات نمط التخلُّف وأن تتبنى متغيرات التنمية».
يدّعي هوسليتز أنه «في المجتمعات المتقدمة، تكون الأدوار محددة وظيفياً وليست منتشرة، وتساعد خصوصية الدور على تحقيق التنمية، بينما يؤدي انتشاره إلى العكس». وهوسليتز هنا يقوم بتجاهل بنية الأدوار، فـ«بنية أدوار «الخصوصية الوظيفية» في المجتمع... تهيمن فيها النخب الحاكمة... على الصناعة العسكرية... وفيها يأتي الجزء الأكبر من المشتريات العسكرية من نصف دزينة من الشركات العملاقة التي توظف أعداداً كبيرة من الضباط العسكريين المتقاعدين الرفيعي المستوى».
يُشخّص هوسليتز البلدان المتخلفة باعتبارها متفرِّدةً وليست عالمية. ومع ذلك، فإن إلقاء نظرة على الإيديولوجيا التربوية لأي بلد متخلف يظهر عالميته، كما أن الإضرابات العامة، والنضال الوطني، والدعم الواسع للحركات المعادية للاستعمار والإمبريالية، هي أمثلة على الوعي العام الذي يميل للعالمية في البلدان المتخلفة. لكن العالمية لا تتعمق على أي حال في الدول المتخلفة كما في الدول المتقدمة.
يدّعي هوسليتز أن «البلدان المتخلفة تولي القليل من الاهتمام للإنجاز الاقتصادي في تحديد المكانة، وأن القيادة السياسية تُحدَّد أساساً بواسطة معايير النسَب»، وعلى هذا الأساس يرى أن السلطة السياسية في البلدان المتخلفة تقع في أيدي «أوليغارشية تقليدية أو حتى إقطاعية». لكنه فشل في رؤية أنه «في جميع البلدان الرأسمالية المتخلفة، تكمن السلطة وراء العرش، سواء كانت عسكرية أو مدنية (إذا كانت في أيدٍ وطنية أساساً) في أيدي الأشخاص الذين يشغلون مناصب عليا في المنظومة الاقتصادية، وخاصة أولئك الذين لديهم أعمال تجارية ومالية وعلاقات مع المراكز المتقدمة». وعلى العكس ممّا يقوله هوسليتز، فقد حصلت القوى التي تعتلي الأدوار الاقتصادية والسياسية على مناصبها، واحتلتها في كل من آسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينية، وهكذا فإن «تعيين الدور في الأدوار الأكثر أهمية اقتصادياً وسياسياً، في البلدان المتخلفة، يتحقق ولا يُنسَب... يتحدد النجاح المالي، في الاقتصادات الاحتكارية المتخلفة أكثر من الاقتصادات المتقدمة، من خلال المضاربة الناجحة والابتزاز، ويكون توزيع الدخل الناتج أكثر تفاوتاً». ويشير ذلك إلى أنه «على عكس ما يقوله هوسليتز، فإن توزيع المكافآت في البلدان المتخلفة يعتمد قليلاً على النسَب وأكثر على الإنجاز».
يرى هوسليتز أن الأدوار في الدول المتخلفة منتشرة وظيفياً وليست خصوصية. لكن فرانك يشير إلى وجود «سلسلة كاملة من الأدوار الوسيطة في المجتمعات المتخلفة –يشغلها أفراد من الطبقات الوسطى مثل ضباط الجيش وبيروقراطيي الحكومة والمديرين التنفيذيين المبتدئين والإداريين ورجال الشرطة وغيرهم– محددة بالكامل وظيفياً. ويخدم شاغلوها... لجعل النظام الاستغلالي بأكمله يعمل في المصلحة المنتشرة والخاصة بأولئك الذين حققوا السيطرة». وإذا فحصنا أنماط الأدوار الاجتماعية في الدول المتقدمة والمتخلفة على حدٍّ سواء، سنستنتج أن «الخصائص التي ينسبها هوسليتز وآخرون إلى البلدان المتقدمة والمتخلفة تقدم تصوراً مشوّهاً وغير ملائم للواقع الاجتماعي... فهذا أو ذاك من أنماط المتغيرات... غير مهم لوصف، أو غير حاسم لتحديد، أيّ من التنمية أو التخلُّف».
«لكل الأدوار، في تحليل هوسليتز، نفس الوزن تقريباً في وصف وتحديد التخلُّف. وهكذا فإن وصفة هوسليتز للتنمية هي أن الحد الأقصى لعدد الأدوار، بغضّ النظر عن ماهيتها، يتغير من كونه خصوصياً ومعتمداً على النسَب ومنتشراً، ليصبح عالمياً وقائماً على الإنجاز ومحدداً وظيفياً. وكلما زاد هذا التغيُّر الكمي للأدوار من نمط إلى آخر، زادت التنمية». لكن علينا ألا نعطي كل الأدوار الوزن نفسه، وهوسليتز في تحليله يتهرَّب من الفحص المحدد للأدوار الاقتصادية والسياسية العليا، فإذا أعطى لتلك الأدوار وزنها الصحيح، فلن يكون قادراً على تشخيص مجتمع تهيمن فيه النخبة الحاكمة وتسعى من خلال التصنيع العسكري الحكومي لنهايات خصوصية بأنه عالمي ومعتمد على الإنجاز ومحدد وظيفياً، ولن يستطيع تشخيص مجتمع تتحكم في اقتصاده وسياسته وقوته العسكرية أوليغارشية تنطلق من منافع تجارية احتكارية على أنه ذو خصوصية ومعتمد على النسَب وانتشاريّ وظيفياً.
يعتمد تحليل هوسليتز بشكل كبير على «النسق الاجتماعي» لبارسونز، لكنه يرفض البنى، وخاصة بنية التخلُّف. وعلى حد قول بارسونز: «لم يعد ينصبُّ التركيز البنيوي الأساسي على... نظرية الاستغلال، بل على بنية الأدوار المِهَنيَّة». وهذا التحليل يركز حصراً على المجموع الحسابي للأدوار الاجتماعية لا على البنى الاجتماعية والسياسية والاقتصادية. يرى فرانك أن هوسليتز وبارسونز وروّاد النظرية البنيوية الوظيفية لا يحرِّفون نظرية كارل ماركس فقط، بل إنهم أيضاً يبتعدون عن ماكس فيبر، ويهجرون التحليل السوسيولوجي الكلاسيكي؛ «بنيوية وشمولية بارسونز تقتصران على تحليل نموذج مجرَّد تماماً لأي من جميع المجتمعات الواقعية أو المُتخيَّلة، وليس على دراسة أي مجتمع حقيقي قائم». ويتلخص موقفهم في أن «التنمية والتخلُّف يرتبطان ببنية النسق الاجتماعي، ويمكن تغيير بنية النسق ببساطة عن طريق تغيير بعض أجزائها أو خصائصها». ولولا ابتعاد هؤلاء عن الكليَّة والبنيوية في التحليل، لكانوا رأوا ببساطة أن «هذه الأدوار وشاغليها ليسوا أكثر من مظاهر البنى الحقيقية للتنمية والتخلُّف».
خلاصة نقد فرانك لهذا النموذج تتمثل في أن وجود وزيادة الأدوار المعتمدة على النسَب والانتشارية في الأعمال والحكومات والدوائر العسكرية في الولايات المتحدة لم يجعلا هذه الدولة متخلفة، وأن إنجاز أدوار محددة وظيفياً والسعي للمبادئ العالمية بين أوساط رجال الأعمال والعسكريين في أميركا اللاتينية لم يُنميا تلك الدول. ويشير تحليل هوسليتز إلى أنه كلما نَمت الطبقة الوسطى زادت التنمية، لكن «لم يحدث التطور الاقتصادي والتغيُّر الثقافي لبلد متخلف من خلال تعزيز وصعود الطبقات الوسطى (أو متغيرات أنماطها) لأنه... من المستحيل مادياً حدوث ذلك نظراً إلى بنية النظام: ذلك يؤدي فقط إلى مزيد من تخلف الأغلبية».

وفقاً لفرانك، فإن هذه المقاربات الثلاث غير مناسبة حتى نظرياً، حيث لا تستطيع تعريف الكل الاجتماعي المحدِّد لأنها لا تأخذ في حسبانها تاريخ الدول المتخلّفة


- مراحل النمو: يشير نموذج «مراحل النمو» عند ناش وروستو إلى وجود «فجوة» بين خصائص التنمية والتخلُّف تتضمن مواصفات المراحل المتوسطة وخصائصها، ويمكن إيجاز تلك المراحل فيما يلي: (أ) مرحلة المجتمع «التقليدي» الذي تطورت بنيته من خلال وظائف إنتاجية محدودة قائمة على تكنولوجيا وعلم ما قبل نيوتن. (ب) مرحلة المجتمع «قيد التحوّل» حيث تتولّد وتنمو الظروف السابقة للإقلاع من خلال استغلال منجزات العلم الحديث التي تأتي نتيجة احتكاك ذلك المجتمع بمجتمع متقدم. (ج) مرحلة «الإقلاع» حيث يُقضى تماماً على كل عوامل مقاومة التحوّل والنمو، وتهيمن القوى التي تعمل على تحقيق التقدم الاقتصادي، ويصبح النمو ظرفاً طبيعياً، وترتفع نسبة الاستثمار الإنتاجي، ويطوَّر واحد أو أكثر من قطاعات الصناعة المستدامة مع معدل عالٍ للنمو ووجود مؤسسات سياسية واجتماعية تستفيد من ذلك التوسع. (د) مرحلة نضج المجتمع. (هـ) عصر الاستهلاك الجماهيري الضخم.
لا يأخذ هذا التحليل ماضي وحاضر المجتمعات المتخلفة في حسبانه، بل يأخذ حصراً تاريخ المجتمعات المتقدمة، وعلى هذا الأساس يعتبر أن التخلُّف مرحلة أصلية لما سمّاه المجتمعات التقليدية، وأن المجتمعات المتقدمة مرَّت بمرحلة التخلُّف في البداية. لكن تاريخ كل من المجتمعات المتخلفة والمتقدمة مترابط إلى أقصى درجة، وقد فحص روستو تطور البلدان المتقدمة على أساس أنها تطورت منعزلةً عن باقي العالم، وهذا خاطئ إلى أبعد حد، فقد «جاء التوسع الاقتصادي والسياسي لأوروبا منذ القرن الخامس عشر لدمج البلدان المتخلفة الآن في مجرى واحد من تاريخ العالم، ما أدى في نفس الوقت إلى التطور الحالي لبعض الدول والتخلُّف الحالي في دول أخرى».
من الصعب الآن العثور على أي مجتمع يعيش في المرحلة الأولى حيث «نجحت العلاقة بين المراكز الماركنتلية والرأسمالية... والمستعمرات في أن تحل بنية التخلُّف محل البنية الاجتماعية والسياسية والاقتصادية الموجود سابقاً... وحوّلت هذه العلاقة التاريخية كامل النسيج الاجتماعي لسكان الدول المتخلفة... (و) المتقدمة». ومشكلة المرحلة الثانية تتجلى –إذا أدركنا الدرجة العالية للتطور الحضاري والتكنولوجي في آسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينية التي كانت نتاج تأثير المراكز المتقدمة الآن– في أن تأثير المراكز لم يثمر عن أي تطور اقتصادي، كما لم يؤدِّ إلى «الإقلاع» نحو التنمية، ولا إلى المرحلتين الرابعة والخامسة. «إن اندماج هذه الأراضي والشعوب في النظام الماركنتلي العالمي المتوسع، ومن ثم الرأسمالي، بدأ في البداية تخلُّفهم؛ فضلاً عن أن مشاركتهم المستمرة في نفس النظام لا تزال تحافظ على هذا التخلُّف، بل وتعمّقه... كلما كان الاتصال السابق لهذه المناطق بالمراكز أكثر حميمية، كانت متخلفةً اليوم أكثر... إذا كانت البلدان المتخلفة الآن ستتبع حقاً مراحل نمو البلدان المتقدمة الآن، فسيتعين عليها أن تجد شعوباً أخرى لاستغلالها حدَّ التخلُّف كما فعلت البلدان المتقدمة الآن».

2- الانتشار
تحدث التنمية وفقاً لهذه المقاربة من خلال نشر «(أ) رأس المال، (ب) التكنولوجيا، بما في ذلك المعرفة والمهارات، (ج) المؤسسات، بما في ذلك القيم والتنظيم» من المراكز المتقدمة إلى الأطراف المتخلفة. وينتقد فرانك إحصاءات مؤيدي هذه المقاربة في أنها: أولاً «تَحجُب حقيقة أن الجزء الأكبر من رأس المال الذي تمتلكه البلدان المتقدمة في البلدان المتخلفة لم يُرسَل على الإطلاق من الأولى إلى الأخيرة، بل وعلى العكس من ذلك، استحوذت عليه البلدان المتقدمة في البلدان المتخلفة الآن»، وثانياً أن تلك البيانات لا تأخذ في الحسبان الانخفاض المعروف في المشاركة النسبية للبلدان المتخلفة في التجارة العالمية، ولا تدهور شروط التبادل التجاري الذي يكلف البلدان المتخلفة حالياً رأس مالٍ أكبر بكثير من إجمالي عائدات الاستثمار والقروض من البلدان المتقدمة، وثالثاً أن بيانات تدفق رأس المال الاستثماري لا تأخذ في حسبانها التدفق الأكبر لرأس المال من البلدان المتخلفة إلى البلدان المتقدمة. ويستشهد فرانك: «للاستثمار الأجنبي المباشر العديد من الآثار السلبية على ميزان المدفوعات والتكامل الاقتصادي وتكوين رأس المال في بلداننا؛ إنه يحدد إلى حد كبير طبيعة واتجاه تجارتنا الخارجية، ويُحفِّز المنافسة الاحتكارية، ويمتص الشركات الوطنية الضعيفة أو يُخضِعها له».
بمجرد أن يؤسس رأس المال الأجنبي نفسه بفضل الامتيازات الليبرالية، يحصل على قروض بنكية تساهم في توسّع عملياته وبالتالي أرباحه التي «تُرسَل... على الفور إلى الخارج كما لو أن كل رأس المال الاستثماري قد تم استيراده... وبهذه الطريقة فإن الاقتصاد المحلي يعمل لتقوية رأس المال الأجنبي وإضعاف نفسه». وهكذا يدمِّر رأس المال الأجنبي أي محاولة لإقامة اقتصاد مستقل، كما يحوِّل الحياة الاجتماعية والسياسية، فيربط نفسه بأوليغارشيات محافظة من خلال روابط اقتصادية تعمل لصالح هيمنته على البلدان المستقبِلة.
كانت وما زالت المراكز الرأسمالية تحتكر التكنولوجيا، لكن «أثناء التطور التاريخي للنظام الرأسمالي... دأبت البلدان المتقدمة على نشر التكنولوجيا التي كان توظيفها في مستعمراتها الطرفية التابعة يخدم مصالح المراكز؛ ولطالما قامت المراكز بقمع التكنولوجيا التي تعارض مصالحها الخاصة... في البلدان المتخلفة الآن». والتكنولوجيا الحديثة اليوم تخدم كأساس لسيطرة الاحتكار الرأسمالي المركزي على أطرافه التابعة، فالمنافسة على الأسعار تعطي دفعة للمنافسة على الاختراع، ما يعني أن الصراع سيكون شديداً وأن الشركات العالمية هي فقط التي ستستطيع المزاحمة والنجاة.
إن انتشار المؤسسات ملازمٌ لنشر الليبرالية بكل تمثُّلاتها، و«الليبرالية الاقتصادية كانت ولا تزال منتشرة... إن تصديرها من المراكز هو تعبير عن مصالح ناشريها، واستيرادها من قبل البلدان المتخلفة هو تعبير عن مصالح دامجيها». وقد كانت العديد من الوكالات، مثل منظمة التجارة وصندوق النقد والبنك الدوليين، تقوم بتصدير التجارة الحرة من المراكز إلى الأطراف بغية تمكين الهيمنة عليها أكثر؛ «التجارة الحرة، مثل المشاريع الحرة، هي احتكار وقائي تحت اسم آخر». فمن الواضح أن «انتشار وتثاقف الليبرالية الاقتصادية بين البلدان المركزية المتقدمة (أو النامية) وأطرافها المتخلفة –وداخل البلدان المتخلفة– هما استجابةٌ للمصالح، ويُنتِجان عواقب يمكن تلخيصها في كلمة واحدة: الاحتكار».
يصاحب نشر الليبرالية الاقتصادية نشر الليبرالية السياسية والاجتماعية، والواقع أن «العلاقة بين القوى الاقتصادية والسياسية... أكثر حميمية في الدول المتخلفة عما هي عليه في الدول المتقدمة». أمّا الليبرالية الاجتماعية التي تتخذ شكل «الترقّي الاجتماعي» فليست إلا «حرية عدد قليل من الأفراد في الترقّي والاحتكار، وبالتالي تقييد تطور الكل الاقتصادي والسياسي والاجتماعي... والترقّي الاجتماعي في الواقع هو ترقٍّ «فردي» ولا يحوِّل البنى الاجتماعية». وهكذا فصعود الطبقات الوسطى، والترقّي الاجتماعي، «يوفران الدعم الاقتصادي والسياسي، لا لتغيير بنية الاقتصاد والسياسة والمكانة الاجتماعية، بل للحفاظ عليها وتعزيزها».

3- المقاربة النفسية
تقود هذه المقاربة إلى فرضيات على أساس وحدات صغيرة الحجم. ذهبت المادية التاريخية مع كارل ماركس، بناءً على دراساته للنظام الرأسمالي ككلٍّ، إلى أن «الاستغلال أساسٌ ضروري لهذا النظام، ولاستنتاج أن مثل هذا الأساس يولِّد استقطاب النظام». بينما ذهب كل من فيبر ودوركايم إلى «بناء نظرية بديلة للنظام الاجتماعي من خلال البدء بأجزائه بدلاً من الكل»، وهذا هو الإجراء الذي اتبعه بارسونز مقللاً من أهمية الاستغلال ومشيراً إلى أن النسق (كما سمّاه) يظهر فارغاً من أي استقطاب، بل إنه مُتناغم. وبالرغم من أن فيبر ودوركايم تخلّيا عن استنتاجات ومنهج وسياسة ماركس، فإنهما أكدا على الأهمية الحاسمة للبنية الاجتماعية، وفيبر بالأخص يؤكد أيضاً على التاريخ.
يُسقط مؤيدو المقاربة «النفسية»، وعلى رأسهم ديفيد مكليلاند، «كل ادعاء وممارسة للبنيوية العلمية الاجتماعية. لقد جعلوا فيبر «فرويدياً» لدرجة أنهم لم يعودوا يتبعونه على الإطلاق». ويؤكد مكليلاند أنه «ليست البنية الاجتماعية (كما رأى فيبر)... ولا حتى الواجب والمكافأة في الأدوار الاجتماعية على أساس الإنجاز (كما رأى هوسليتز)... ولكن فقط درجة عالية من الدافع الفردي أو الحاجة إلى الإنجاز، هي ألف وباء التطور الاقتصادي والتغيُّر الثقافي... القيم أو الدوافع أو القوى النفسية هي التي تحدد في النهاية معدّل التطور الاقتصادي والاجتماعي... ويقترح مجتمع التحقُّق أن الأفكار هي في الواقع أكثر أهمية من الترتيبات المادية البحتة في تشكيل التاريخ».

خاتمة
تترابط تلك المقاربات الثلاث بشدة. الأولى، هي نموذج مثالي يضع الخصائص النموذجية المفترضة للتنمية، والثانية تهتم بكيفية انتشار هذه الخصائص النموذجية من البلدان المتقدمة إلى البلدان المتخلفة، والثالثة تخبرنا كيف أن الخصائص النموذجية، التي حددتها المقاربة الأولى، والمنتشرة وفقاً للمقاربة الثانية، يجب أن تُدمِجها البلدان المتخلفة إذا كانت ترغب في التطور.
هذه المقاربات «ترى مجموعةً واحدة من الخصائص، وتلاحظ بنية اجتماعية واحدة إن وجدت، وتبني نظرية واحدة لجزء واحد –مما هو نظام اقتصادي واجتماعي عالمي منذ خمسة قرون– وكذلك تبني نموذجاً ونظرية أخرى للجزء الآخر. وكل هذا باسم العالمية».
وفقاً لفرانك، فإن هذه المقاربات الثلاث غير مناسبة حتى نظرياً، حيث لا تستطيع تعريف الكل الاجتماعي المحدِّد لأنها لا تأخذ في حسبانها تاريخ الدول المتخلفة، ولا علاقة تلك الدول بالدول المتقدمة، ولا العلاقات في ما بين أجزاء العالم كله عموماً، فقد أخطأت في ما يتعلق بتاريخ وواقع الأجزاء المتخلفة والمتطورة في العالم على حدٍّ سواء، ويرجع ذلك إلى أنها لا تتوافق مع بنية النظام الاجتماعي العالمي. وعلاوة على ذلك فالسياسة التنموية لتلك المقاربات محافظة سياسياً وتقبل ببنية المكانات الاجتماعية القائمة. وبالتالي فنظرية مناسبة عن التطور الاقتصادي والتغيُّر الثقافي يجب أن تعكس بنية وتطور النظام –الذي دفع كلاً من بنى التنمية والتخلُّف– من منظورٍ تاريخي، كما يجب أن تكون ثوريةً وتساعد شعوب الدول المتخلفة في القضاء على تخلفها وبناء نظام آخر.
«إن لم تستطع البلدان المتقدمة نشر التنمية أو نظريتها أو سياستها في البلدان المتخلفة، فسيتعين على شعوب هذه البلدان تنمية مجتمعاتها. هذه المقاربات الثلاث هي ملابس الإمبراطور، عملت على إخفاء إمبرياليته العارية. وبدلاً من تصميم بدلة جديدة للإمبراطور، سيتعين على هؤلاء الناس خلعه عن عرشه وكسو أنفسهم».

المراجع
- Frank, A. G. (1966\2010). The Development of Underdevelopment. In S. C. Chew, & P. Lauderdale (Eds.), Theory and Methodology of World Development: The Writings of Andre Gunder Frank (pp. 7-17). United States of America: Palgrave Macmillan.
- Frank, A. G. (1967\2010). Sociology of Development and The Underdevelopment of Sociology. In S. C. Chew , & P. Lauderdale (Eds.), Theory and Methodology of World Development: The Writings of Andre Gunder Frank (pp. 19-73).

* باحث مصري