نسمع كثيراً من القوى الفلسطينية وصفاً لاتفاق أوسلو ومشروعه بأنه بات متقادماً. مثالاً على ذلك؛ جاء في البرنامج السياسي الذي أقرته «الجبهة الشعبية» في مؤتمرها الثامن الأخير «أن خيار أوسلو بات اتفاقاً متقادماً تجاوزه الزمن». أرى هذا الوصف ملتبساً، وحمّال أوجه، ولا يعطي طريقاً واضحاً للتعامل مع هذا الاتفاق. فالمتقادم يعني أنه أصبح قديماً وعفى عليه الزمن أو مُنتهي الصلاحية، لكنّه يظلُّ قائماً ويحتل حيّزاً في الواقع، ما دام لم يُلغَ أو يُستبدل بآخر. كما لا يعني تقادم الشيء وعدم صلاحيته أنه تم التخلّي عنه وبات خارج الخدمة؛ فكم من تاجرٍ يبيع بضاعة منتهية الصلاحية، وكم من مستهلكٍ يخاطر باستعمالها! ينطلق المنادون بتقادم أوسلو من أن الاتفاقيّات الناتجة عنه لم تُطَبَّق، ومن أنها لم تؤدِّ، بنهاية المرحلة الانتقالية، إلى الحل النهائي، ومن أنّ الوقائع التي يكرّسها الطرف الصهيوني على الأرض تنسف أية إمكانية لهذا الحل. يبني هؤلاء وجهة نظرهم على أساس نصوص الاتفاقيات وليس على جوهر ما تمثّله في الواقع العملي. وهنا لا بد من أن نسأل أنفسنا السؤال التالي: هل أبرم الكيان الصهيوني، وهو الطرف الأقوى في معادلة أوسلو، الاتفاقيات بنِيّةِ السير نحو حلٍّ دائمٍ للصراع الدائر في فلسطين على مدى أكثر من قرن؟ أم أنه كان يرى فيها فرصة لاحتواء عدوّه، وتغيير نمطِ الصراع وعناصره وأدواته، ليتناسب أكثر مع الرؤية الصهيونية والأميركية له؟ فمُجرَّد أن يكون إعلان المبادئ في أوسلو قد تركَ جميع عناصر الصراع الرئيسية للتفاوض المستقبلي، يجعلنا متيقّنين أنّ ما تمَّ حلّه لا يتعدى سوى إزالة العوائق من أمام التفاوض المباشر بين الطرفين، ونقل الصراع من واقع الاشتباك عن بعد إلى الاشتباك المتلاحم والمتداخل. وتحت عنوان مفاوضات الحل النهائي، أبقى الاتفاق الكيانَ الصهيوني حراً من أي قيدٍ مستقبليٍّ، وفي المقابل، وضع مصير الفلسطيني رهينة الموافقة الإسرائيلية. هذا عدا أنّه قد أنشأ سلطةً خاضعة كلياً للاحتلال في كلّ شؤونها، بما فيها الاقتصادية والخدماتية والأمنية والمصادر المالية. وبنتيجة ذلك، باتت مقوّمات حياة الفلسطيني رهينة بيد عدوّه، وأدى هذا إلى انعكاسات اجتماعية خطيرة أهمها ظهور فئة اجتماعية وازنة ترتبط مصالحها مع الاحتلال. وتحوّلت الضفة الغربية وقطاع غزة (رغم انسحاب قوات الاحتلال منه) إلى سجنٍ كبير يُدار، عموماً، بحسب شروط أوسلو. خلاصة القول، إن المعنى الحقيقي لأوسلو لا علاقة له بحل الصراع العربي-الصهيوني في شقّه الفلسطيني وإنما بنقله من شكلٍ إلى آخر ليناسب الاحتلال أكثر. وفي ظل تكريس وقائع صار من الصعب تجاوزها، مثل السلطة وملحقاتها، التي أصبحت جزءاً من الحياة اليومية الفلسطينية في الضفة والقطاع، كما لم يسلم فلسطينيّو الخارج من آثارها السلبية كذلك، لقد أصبح أوسلو واقعاً مُعاشاً، ولا نستطيع أن نعتبر أن الزمن قد عفى عليه. إنه موجودٌ في تفاصيل حياتنا وعلينا أن نواجه الحقيقة برفضه قولاً وعملاً، لا بالتأقلم معه. فالمواجهة السليمة للمرض لا تكون بالاكتفاء بمعالجة عوارضه، بل بالتوجّه نحو المرض ذاته، والعمل على إيجاد الوصفة المناسبة التي يمكنها القضاء عليه.

تقادم أوسلو والسلطة الفلسطينية
السلطة الفلسطينية هي أهمّ منتجٍ لأوسلو. لذلك، يمكن اعتبار طريقة التعاطي مع السلطة هي أهم مؤشّرٍ لحقيقة الموقف من أوسلو. فالانخراط في السلطة ومؤسّساتها يُعتبر قبولاً بأوسلو أو بالحد الأدنى رضوخاً لها. ومعارضة خيار أوسلو، باعتباره يضرب الحقوق الفلسطينية ويقوّضها، تقتضي استنباط أدوات ووسائل نضالية لا تخضع لشروط هذا الخيار ولا يمكن تجييرها لصالحه. السلطة بحكم نشأتها وتكوينها ووظيفتها فاقدة للاستقلالية، لذلك رفض الكيان الصهيوني، رفضاً قاطعاً، أن يكون اسمها «السلطة الوطنية الفلسطينية»، ما اضطر الطرف الفلسطيني للتنازل عن هذه التسمية، ولقبول شطب كلمة الوطنية ليصبح اسمها الرسمي «السلطة الفلسطينية». لم يكن الرفض الإسرائيلي اعتباطيّاً أو شكليّاً، بل كان نابعاً من موقفٍ مسبق بشأن المستقبل الفلسطيني. فكلمة وطني (national) تعني أن الشعب يتمتع بالحق الكامل في تقرير مصيره، بما في ذلك الدولة المستقلة الكاملة السيادة، وهذا ما لا يمكن للكيان الصهيوني قبوله يأيّ حال من الأحوال.
كما بات معروفاً، فإنّ السلطة، بكل مؤسساتها التشريعية والتنفيذية والإدارية، لا يمكنها القيام بوظائفها الطبيعية، أو أن يكون معترفاً بها دوليّاً، إذا لم تكن ملتزمة بشروط أوسلو. ومن المعلوم أن المصادر المالية الأساسية للسلطة ليست ذاتية، وتأتي من المنح والقروض الغربية، ومن أموال المقاصة التي يجبيها الكيان الصهيوني لصالح السلطة، من الضرائب على الواردات الفلسطينية عبر المعابر والموانئ، وتلك التي تُجبى من فلسطينيي الضفة والقطاع العاملين في الكيان الصهيوني. ولا يتم الإفراج عن أموال المقاصة إلا إذا كانت سلطات الاحتلال راضية عن سلوك المسؤولين الفلسطينيين. فبدل أن يكون هذا المصدر المالي نقطة قوة للطرف الفلسطيني أصبح عامل ابتزاز بيد الكيان ونقطة ضعفٍ فلسطينية. كما أن كل سبل الحياة في نطاق السلطة مربوطة بمشيئة الكيان الصهيوني بما في ذلك الماء والكهرباء والاتصالات (قال أبو مازن في خطابه الأخير في الأمم المتحدة أن إسرائيل تستولي حتى على مياه الأمطار التي تسقط على أراضي السلطة من دون أي رادع). خلاصة القول، إن السلطة الفلسطينية بحكم نشأتها، وكذلك ظروف وشروط تسييرها لا يمكن إلا أن تكون فاقدة للاستقلالية بغض النظر عن من يكون في سدة الحكم.
يُستنتَج ممّا سبق، أن الجمع بين معارضة خيار أوسلو والمشاركة في المؤسسات الناتجة عنه مهمّة مستحيلة. وأرى أن مشاركة غالبية القوى المعارضة لأوسلو في السلطة خطأٌ عظيم، لا بل هو خطيئة. إنّ الدليل الأكبر على هذا هو ما جرى بعد حصول حركة حماس على الغالبية في المجلس التشريعي؛ فلا هي استطاعت أن تحكم ولا أن تُقْدِم على إلغاء أوسلو. واليوم، وبعد مرور حوالى ثلاثين سنة على توقيع أوسلو، وبعد خيبة الأمل بالحصول على أيٍّ من أحلام الماضي، بما في ذلك حتى مُسمّى دولة، يلجأ البعض إلى مصطلح التقادم لوصف أوسلو هروباً من تحديد موقفٍ صريح من الاتفاق وملحقاته. إن معارضة أوسلو على هذا النحو ما هو إلا تكرار لتجربة المعارضة الفاشلة في منظمة التحرير الفلسطينية. إن الاكتفاء باعتبار أوسلو متقادماً لا يفي بضرورة إسقاطه ويُساهم في استمرار أزمة الحركة الوطنية الفلسطينية وتجدُّدِها.

* كاتب وباحث فلسطيني