أقول بداية: علي القادري مخاتل لا يريد أن يكرر العبارة الماركسية كما هي في مصادرها. ففي العنوان أعلاه يستخدم كلمة «العنف» وضرورته في الرأسمالية، والمقصود بحسب سياق المقالة هو «العسكرة» والإمبريالية وعلاقتهما الضرورية بالرأسمالية الاحتكارية ورأس المال المالي، فهما صورتان أو شكلان يظهر بهما رأس المال المالي ويعيد عبرهما تراكمه وتوسعه. وبديهي أن يكون العنف أقدم من الرأسمالية، والعنف «قابلة التاريخ» كما قال ماركس، أي ولّادته، وهو الاسم الذي أطلقه سقراط على أمّه أو نفسه، ومن لم يعرف أمه فهو لقيط، ومن لم يعرف أباه فهو ابن. «ومن عرف نفسه فقد تألّه» بحسب قول أرسطو الفيلسوف. وكان فريدريك إنغلز قد خصص في كتابه الموسوعي التعليميّ الهام «أنتي- دوهرنغ» أكثر من فصل لمناقشة دور العنف في التاريخ. ففي القسم الثاني من الكتاب وتحت عنوان: الاقتصاد السياسي، وهو الذي كتبه ماركس بشكل رئيسي، نقرأ: 1-الموضوع والمنهج (في الاقتصاد السياسي) 2-نظرية العنف 3-نظرية العنف (بقية أو تتمة) 4-نظرية العنف (خاتمة) 5-نظرية القيمة. ونلفت نظركم إلى مجيء القيمة بعد العنف والنهب والتراكم الأولي للرأسمالية في ظهورها على المسرح الأوروبي.
وأخيراً عبّر قادة روس عن أن الحرب في أوكرانيا بما معناه هي ولّادة نظام عالمي جديد متعدد الأقطاب، وهدم للعالم القديم الذي تسوده الإمبريالية تحت القيادة الأميركية. ففي مقال له على موقع «الشؤون الدولية» قال مدير إدارة التخطيط في الخارجية الروسية، أليكسي دوربينين: إن العملية العسكرية الروسية الخاصة هي علامة فارقة في الطريق إلى نظام عالمي جديد.
في الجزء الأوّل يتحدّث القادري عن العنف على التجريد والمقصود به هو «العسكرة والإمبريالية». وكان نيكولاي بوخارين في كتابه «الإمبريالية والاقتصاد العالمي» قد كتب أن «العسكرة والإمبريالية» سمتان للرأسمالية الاحتكارية وهذا القول يُظهر خطأ القادري الذي يربط العسكرة بالإمبريالية، في الوقت الذي تظهر فيه العسكرة والإمبريالية كسمتين رئيسيتين لرأس المال المالي أو الرأسمالية الاحتكارية أي شكلين لوجودها. يقول بوخارين بالحرف: «ففي عصرنا الراهن، ومع بلوغ الصراعات الاقتصادية درجة غير اعتيادية من التوتر، فإننا نشهد عربدة تسلح مجنون لم يسبق لها مثيل، وهكذا يتضمن قانون رأس المال المالي، كلاً من الإمبريالية والعسكرة " (بوخارين، الإمبريالية).
أيضاً يخاتل القادري حين يذكر في هذا الجزء الأوّل من مقالته أن «الذات» هو رأس المال، وأن الموضوع هو السلعة، ليعود ويصحح الأمر حين يتحدث عن «الطبقة المستغِلّة» والمقصود من ذلك هو الطبقة السائدة أو الحاكمة وهي البورجوازية الإمبريالية، حيث تكون هي الذات ويكون رأس المال علاقة استغلال وعملية ذات سيرورة كاملة لاستغلال هذه الطبقة للطبقات الأخرى بخاصة الطبقة العاملة في المراكز الميتروبولية وشعوب البلدان المتخلفة في هوامش النظام. وتكون السلعة هي الحاضر الأبرز، وهي خلية النظام الرأسمالي وبذرة تناقضاته وعلامته الكبرى. وقد فرّق ماركس بين النقود، من جهة، وبين رأس المال، من جهة أخرى، بالقول إن النقود مقولة بسيطة، ورأس المال مقولة مركّبة، وهو سيرورة اجتماعية اقتصادية كاملة.
لكن يبدو أن لهذه الأخطاء وظيفة، وهي أكثر من سهو لمفكر معروف. فهي نزوع نحو نوع من الديماغوجية أو الغوغائية، التي تنسجم مع تفكير بورجوازي صغير، والقادري يميل إلى الاستهتار بضبط العبارة والاتجاه نحو الديماغوجية الاشتراكية القومية، ما يجعل شعبيته كبيرة في هذه الأوساط.
لنأخذ هذا المقتطف من مقالة القادري «العنف كضرورة رأسمالية» في قسمها الثاني:
«الذات – العلاقة هي القيمة التي تتكون في التبادل والتي تتمثل بتناقضات. التناقض الأول: ويكمن في العمل الاجتماعي الضروري المتجسد في سلعة موضوعية ليست لها قيمة استعمالية لصانعها. التناقض الثاني: يتمظهر في أننا نصبح أمام تناقض بنى العمل الاجتماعي الضروري والقيمة الاستعمالية للشيء، وهذه حالة غير مسبوقة "كظاهرة اجتماعية"، إذ ترتبط بسلخ اليد العاملة عن وسائل الإنتاج. فتطور الملكية الخاصة بالمعنى الرأسمالي هو جوهر علاقة رأس المال بسلب حق الملكية من الطبقة العاملة، وهذا السلخ هو القاعدة المادية للاستلاب. نحن هنا نتكلم عن الملكية الخاصة، ونلفت إلى أن الملكية الشخصية ليست مآلاً، بل هي نقطة المرتكز في عملية الإنتاج، وهي ترتبط بالاستهلاك، وهاتان مسألتان مختلفتان» (انتهى كلام القادري).
تمثّل هذه العبارة الفكر الديماغوجي الذي يأخذ صياغات علمية اجتماعية تاريخية ماركسية ويعيد كتابتها، يثير البلبلة والفوضى، ويتركها كعصف مأكول، بعد أن كانت العبارة مضبوطة ومحكمة. مثله في ذلك مثل جورج وسوف وهو يؤدي أغنية لعبد الحليم حافظ؟ أو مطرب شعبي سوري يحاول أداء أغنية لسعدون الجابر.
نبدأ بعبارة القادري: «الذات-العلاقة هي القيمة». ونحن نعلم أن الذات الخالقة للقيم هي قوة عمل العامل (قوة عمل العمال) ضمن شروط نمط الإنتاج الرأسمالي وعلاقات الملكية الخاصة الرأسمالية لوسائل الإنتاج. في كنف علاقات الملكية الخاصة الرأسمالية ومن خلال علاقة الاستغلال الطبقي للبروليتاريا من قبل البورجوازية يتم إنتاج سلع نافعة أو قيمة. قوة العمل ضمن هذه الشروط هي الخالقة للقيمة. في عبارة القادري يتم الخلط بين المنتوج الذي هو السلعة النافعة أو القيمة وبين شروط إنتاجها بهذا الشكل. هكذا تكون صياغة القادري خاطئة؛ القيمة ليست هي «الذات-العلاقة»، القيمة هي سلعة نافعة يتم خلقها من قبل الذات العاملة (قوة العمل) ضمن علاقة تاريخية محددة هي علاقة التملك الرأسمالي لوسائل الإنتاج. بهذا التملك لفائض القيمة من قبل الطبقة البورجوازية الحاكمة، تغدو هذه الأخيرة هي الذات والبروليتاريا شيء، سلعة تشتريها كقوة إنتاج حية.
يكتب ماركس: «إن القيمة الاستعمالية لا تتحقق إلا بالاستعمال أو الاستهلاك. والقيم الاستعمالية تؤلف المحتوى المادي للثروة، أياً كان شكلها الاجتماعي. وفي شكل المجتمع الذي نشرع تواً في معاينته (المجتمع الرأسمالي) تشكل القيمة الاستعمالية الحامل المادي للقيمة التبادلية» (كما الصوت يحمل المعنى في الكلمة المنطوقة). ويضيف: «تبدو القيمة التبادلية، للوهلة الأولى (بدو خادع)، على أنها علاقة كمية، أي النسبة التي يتم بموجبها تبادل قيم استعمالية من نوع معين بقيم استعمالية من نوع آخر» يقتبس ماركس هنا من لو ترون في كتابه «في المنفعة الاجتماعية.. الفيزيوقراطيون» طبعة دير باريس 1846، الكلام التالي: «تكمن القيمة في علاقة التبادل القائمة بين شيء معين وشيء آخر، بين كمية من منتوج وكمية من منتوج آخر». ويبدو أن القادري يأخذ وجهة نظر ترون المبتذلة السطحية بالقول إن القيمة علاقةٌ، وخاصةٌ ذاتية للسلعة أو لجسد البضاعة؛ «الذات-العلاقة هي القيمة». لنتابع تعليق ماركس على عبارة ترون. يقول ماركس: «تبدو القيمة التبادلية، للوهلة الأولى (بدو خادع)، على أنها علاقة كمية، أي النسبة التي يتم بموجبها تبادل قيم استعمالية من نوع معين بقيم استعمالية من نوع آخر»، أي بمثابة علاقة تتغير بغير انقطاع بتغير الزمان والمكان. لذلك تبدو القيمة التبادلية شيئاً عرضياً ونسبياً تماماً، بالتالي فإن الحديث عنها باعتبارها قيمة ذاتية (باطنية أو جوانية)، أي القول بأن القيمة التبادلية جوّانية، كامنة في السلع، يبدو من قبيل تناقض في التعريف» (رأس المال، مجلد 1 ص 65).
السلعة تحمل تناقضات؛ أو بعبارة أدق: السلعة وحدة أضداد، فهي تجسد قيمة استعمالية أي شيء نافع لمشتريها ومستهلكها، من جهة، وتحمل قيمة تبادلية من جهة أخرى، جهة البائع.
نتابع القادري في قوله: «التناقض الأول: ويكمن في العمل الاجتماعي الضروري المتجسد في سلعة موضوعية ليست لها قيمة استعمالية لصانعها». في حقيقة الأمر: القيمة التبادلية في السلعة المنتجة (الموضوعية) هي قوة العمل الضروري اجتماعياً لإنتاجها والظاهر بجسدها. وعبارته: ليست لها قيمة استعمالية لصانعها. أي لا يستطيع العامل الذي ينتجها الاستفادة منها بعد إنتاجها، بل المستفيد منها هو البورجوازي الذي يمتلك وسائل الإنتاج الاجتماعية ملكية خاصة. بالتالي العامل الأجير في حالة اغتراب أو استلاب عن منتوج قوة عمله.
التناقض الثاني، بحسب القادري، «يتمظهر في أننا نصبح أمام تناقض بنى العمل الاجتماعي الضروري والقيمة الاستعمالية للشيء، وهذه حالة غير مسبوقة "كظاهرة اجتماعية"، إذ ترتبط بسلخ اليد العاملة عن وسائل الإنتاج».
ولنعيد صياغة العبارة لتظهر البلبلة التي يحدثها القادري بعبارته. إن اغتراب العامل عن منتوج قوة عمله ضمن سيادة علاقات الإنتاج الرأسمالية، أي سيادة التملك الخاص لوسائل الإنتاج من قبل الطبقة البورجوازية، هو تناقض بين شكل التملك البورجوازي وقوة عمل العمال التي تنتج السلع لمصلحة البورجوازي. عند القادري يكون التناقض هذا بين قوة العمل وبين البورجوازيين هو تناقض بين بنى العمل الاجتماعي الضروري والقيمة الاستعمالية للسلعة، أي بين تجريدين. لأن التناقض لا يكون بين النمط البورجوازي والملكية الخاصة لوسائل الإنتاج (بنى العمل الاجتماعي الضروري)، من جهة، وبين القيمة الاستعمالية للسلعة، لأن النمط الرأسمالي بطبيعته منتج هائل للسلع النافعة الاستعمالية. ولولا ذلك لانتفى سبب وجوده.
هذه الديماغوجية غير مسبوقة في بلبلة نصوص رأس المال لماركس من قبل مراجع متهور. يقول القادري: «وهذه حالة غير مسبوقة "كظاهرة اجتماعية"، إذ ترتبط بسلخ اليد العاملة عن وسائل الإنتاج». ونحن نعلم أن سلخ المنتجين عن وسائل عملهم، هي عملية تقوم في أصل تراكم رأس المال (التراكم البدئي) وظهوره تاريخياً. لم يكتف رأس المال فجر التراكم البدئي في نهب بلدان بعيدة وذبح سكانها الأصليين كما في فتح أميركا من قبل الإسبان، بل يتم تجريد الفلاح المستقل من أرضه وماشيته ووسائل إنتاج عيشه ورميه مجرداً من كل ملكية لوسائل الإنتاج. وما أن ينجز رأس المال تراكمه البدائي بهذا السلخ للمنتج الفرد عن وسائل إنتاجه حتى يعيد إنتاج نفسه بشكل موسّع عبر نهب فائض القيمة التي تنتجها قوة العمل الحية، أي العمال. وهم الذين جردوا من قبل من ملكية وسائل إنتاج عيشهم وتم إلقاؤهم في سوق العمالة. ويضيف إليها نهب فائض الإنتاج من البلدان الرأسمالية التابعة في المرحلة الإمبريالية.
يكتب ماركس: «إذاً، ليس لقيمة استعمالية أو شيء نافع ما، من قيمة إلا لأن عملاً بشرياً مجرداً قد تجسد فيها. والآن كيف نقيس مقدار قيمتها؟ من الواضح أننا نقيسها بكمية "الجوهر الخالق للقيمة" بكمية العمل الذي يحتويه الشيء النافع. فالعمل الذي يؤلف جوهر القيم، هو عمل بشري متجانس، هو إنفاق لقوة عمل متماثلة واحدة. إن قوة العمل الكلية للمجتمع، التي تتجسد في مجموع قيم عالم السلع، تعد هنا قوة عمل بشرية واحدة متجانسة. وقوة الفرد تمتلك طابع قوة عمل اجتماعية وسطية (وسط حسابي) أي أن الوقت الذي يلزمها لإنتاج سلعة ما، لا يزيد على المعدل الوسطي، أي لا يزيد على وقت العمل الضروري اجتماعياً لإنتاجها. إن وقت العمل الضروري اجتماعياً هو الوقت اللازم لإنتاج سلعة ما في ظل شروط الإنتاج الرأسمالية الاعتيادية وبدرجة وسطية من المهارة وشدة العمل، السائدة في حينه» (رأس المال، مجلد1 ص 68).
أخيراً لا بد من الاعتذار للقارئ لصعوبة نقاش عبارة القادري.

* نشرت مقالة القادري في النشرة الإلكترونية لـ«كنعان» بتاريخ 24 آب 2021