لكنّ النفاق لا يتوافق مع الإيمان، وكيف له أن يتوافق؟ قد يدخل الإنسان في دين ويتّبع جميع الطقوس وتبقى الشخصيّة بعيدة من مقتضيات الإيمان. جذر الإيمان لا يكمن في اتّباع الطقوس ولا في الدخول في دين، وإنّما في العلاقة الصادقة بالله، وهذه العلاقة لا يمكن لها أن تتمّ بشكل صحيح إلّا إذا انعكست في علاقة صادقة للإنسان بغيره، وعلاقة صادقة للإنسان بنفسه بحيث يتوافق فيه ما يضمر وما يُبدي، من دون ازدواجيّة.
الطقوس تعبير عن العلاقة بالله وبالآخرين وبالذات، وتجذير لها، لكنّها ليست الأصل. في الأصل كان الاهتداء، والاهتداء لا يكون بالقسر، كلمة الاهتداء نفسها منافية للقسر. الاهتداء يعني اكتشافاً وقبولاً شخصيّاً لما يتلمّسه الإنسان بكيانه، أي بعقله ونفسه ووجدانه، في جوّ من الاحترام لحرّيته كإنسان. بالاهتداء تبدأ العلاقة بالله وتستمرّ بألف طريقة وطريقة، منها الطقوس، ولكنّ محكّها هو العلاقة بالآخر الإنسان وحياته، والعلاقة لا يمكن أن تكون سليمة إن لم تكن صادقة، ولا يمكن أن تكون صادقة إن لم تكن حرّة. العلاقة بالله، محبّة الله التي منها تنبع عبادته، تفترض الحرّية شرطاً، لا يوجد محبّة من دون حرّية.
الدولة شكل من الحياة الاجتماعيّة أدواته القسر (قانون، شرطة، قضاء، إلخ.). مشكلة الدولة الدينيّة أنّها تفترض أنّها لها أن تدخل في حيّز الإيمان الشخصيّ، وهي حين تدخله لا يمكنها أن تفعل ذلك إلّا بأدواتها، أي بأدوات القهر. حين تستخدم الدولة أدواتها لتفرض على إنسان الضجيج في منزله في منتصف الليل، مثلاً، فهي تحدّ بالقسر من حرّيته بأن يفعل كلّ ما يشاء، ولكنّها لا تتدخّل في علاقته بالله؛ هي فقط تحدّ من جوامح نرجسيّته وتدفعه للأخذ في الاعتبار حياة غيره، مهما كانت علاقته بهم. أمّا حين تتدخّل لتفرض على إنسان طريقةَ لباس، أو صياماً، أو صلاةً، فإنّها تتدخّل في علاقة ذاك الإنسان الفريد بالله، وفي قناعاته النابعة من وجوده الذاتيّ الفريد، هي بالقسر تريد لو استطاعت أن تجبره أن يتصرّف بطريقة محدّدة تبعاً لتفسيرات الدولة للدين، وهي بالضرورة تفسيرات ظرفيّة وجزئيّة طالما أنّها لا تمثّل كلّ الأزمان (لا تمثّل ما سيقوله البشر في المستقبل) ولا تمثّل جميع الطوائف ولا جميع التفسيرات في طائفة معيّنة. وفي النهاية، ومهما كانت تلك التفسيرات الدينيّة صحيحة، فالدولة بأدواتها القسريّة تتدخّل بعلاقة ذاك الإنسان بالله: هي تحدّ من حرّيته في أن يؤمن أو لا يؤمن، وأن يحيا علاقته بالله كما يراها هو لا كما يراها غيره، وأن يتحمّل مسؤوليّته عن إيمانه الذاتيّ أمام الله. هي -مهما قلنا وبرّرنا- عدم اعتراف بالوجود الذاتيّ الشخصيّ الفريد لكلّ إنسان، ومحاولة سحق لها.
تحت القهر، يستتب النفاق، ولا يعود ممكناً أن نميّز بين ما هو صادق وما هو مزوّر
وإن كان القسر آتياً من الدولة، أم من مجموعة من الناس، فإنّ الأمر سيّان فالنتيجة واحدة: إجبار الإنسان أن يتصرّف في موضوع الإيمان بحسب ما يراه غيره، أي بحسب النفاق لا بحسب الصدق. إنّ انصياع الإنسان لتهديد دولة أو جماعة، هو انصياع لقهر خارجيّ، وفي هذا تحديداً يكمن دفع الإنسان إلى الازدواجيّة: تطبيق قهريّ ظاهريّ لما يراه آخرون (الدولة، مجموعة قاهرة)، وإضمار لما يعاكسه. هكذا، يُدفع الإنسان دفعاً إلى تزوير وجوده، إلى النفاق. وأيّ منطق هذا الذي يرضى باستتباب النفاق وسط جماعة تريد أن تكون مخلصة لإيمان، ومحامية عنه؟
تحت القهر، يستتبّ النفاق، ولا يعود ممكناً أن نميّز بين ما هو صادق وما هو مزوّر في التصرّف والمشاعر والعلاقات. حتّى الإنسان نفسه يضيّع هذا التمييز في ذاته، فإنّ التهديد يشعره بالضعف وهدر الكرامة، وهو ما يدفعه للهروب من هذا الشعور (وربّما كبته) بواسطة قناع خارجي اجتماعي يستر به هدر كرامته الذاتية. وفي محاولته لستر هذا الإذلال قد يندفع ليُزايد على غيره في الغيرة على التديّن والطقوس والمظاهر من أجل استعادة شيء من الشعور بالقيمة الذاتية بالاندماج بجماعة من خلال تبنٍّ ظاهريّ محموم وأصوليّ لمظاهر التديّن التي تحامي عنها. هذا الاندماج المتطرّف والظاهريّ بمبادئ الجماعة هو محاولة لإغراق شعوره الحقيقيّ بالهزيمة والتزوير والخوف والكرامة المهدورة بالقهر، وفي الوقت نفسه يشعره الاندماج بالحماية وسط جماعة لها السطوة. وفي هذه الحالة، النتيجة هي تزوير الوجود، فذاك الإنسان مغتربٌ عن غيره، فعلاقته بغيره مزوّرة لأنّه مدفوع بحكم القهر للنفاق، وعلاقته بالله مزوّرة لأنّها تتمّ من دون قناعة شخصيّة حرّة، والنتيجة ضياع الذات.
الدولة -وهي قاهرة حُكماً- والجماعات القاهرة، حين تتدخّل بعلاقة الإنسان بربّه، يمكنها أن تضمن انصياع الجميع للعلاقات الظاهريّة، ولكنّها بالتأكيد تخلق البيئة الحاضنة للنفاق الإيماني، وتزوير الوجود، وهذا من شأنه أن يُفسِد العلاقة الإيمانيّة بين الإنسان وخالقه التي لا يمكن أن تكون حقيقية إلا إذا كانت حرّة. الإكراه في الدين يُنتج النفاق الديني، وهذا بلا شك يُبعِد الإنسان عن الله. قد تُسعَدُ الجماعات القاهرة بسطح المظاهر، ويغيب عنها أنها خلقت كل الظروف لتبقى القلوب بعيدة من الله، وماذا ينفع الإنسان لو عاش المظاهر كلّها وخسر نفسه أو فقدها في التزوير الذي يُنتِجُهُ القهر في العلاقات. وحدها الحرّية تسمح بالصدق والقناعة في العلاقات، وتحترم فرادة كل إنسان.
* كاتب، وأستاذ جامعي