جدّد نبأ وفاة رئيس الاتحاد السوفياتي السابق ميخائيل غورباتشوف نهاية آب الفائت سجالات «نهاية الحرب الباردة» وسياساته التي «غيّرت التاريخ» وعلاقاته مع نظيره الأميركي رونالد ريغن ومسائل عدة ارتبطت بسيرة زعيم كبير في مرحلة مفصلية، بالمعنى الحقيقي، في تاريخ العلاقات الدولية، ما زالت تداعياتها قائمة بعد خروجه من السلطة بنحو ثلاثة عقود كاملة. وكان «العالم الثالث»، لا سيما أفريقيا، على محك إرهاصات هذه التداعيات منذ سني حكم غورباتشوف الأولى بعد توليه الأمانة العامة للحزب الشيوعي (1985)، كما لاحظ عراب أيديولوجيا الانتصار الرأسمالي فرنسيس فوكوياما -في قراءة مبكرة للغاية (Foreign Affairs, Spring, 1986) أن خطاب غورباتشوف الأوّل للحزب بصفته أميناً له (المؤتمر رقم37، تشرين الأول 1985) قد تجاهل تماماً الاحتفاء بمنجزات بلاده في جنوب شرقي آسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينية، كما أنه تجاوز بجرأة تعهدات ليونيد بريجنيف الشهيرة (في مؤتمري 1976، و1981) بحلول اشتراكية راديكالية لقضايا التنمية الاقتصادية ودور موسكو العسكري في منع «تصدير الثورة المضادة»، واكتفاء غورباتشوف في تقريره بإبداء «التعاطف مع تطلعات الشعوب التي جرّبت ثقل وذل ربقة الاستعباد الاستعماري»، ودعوة «برنامج الحزب» لدول الاتجاه الاشتراكي مثل أنغولا وإثيوبيا لتطوير اقتصادياتها بالأساس عبر جهودها.
(أ ف ب )

مقتطفات من «حول بلادي والعالم»
قدّم غورباتشوف رؤى تاريخية وسياسية موجزة وسريعة في كتابه «حول بلادي والعالم» (ترجم إلى الإنكليزية في العام 2000) قسمها إلى ثلاثة أقسام: ثورة أكتوبر؛ وفترة حكمه للاتحاد السوفياتي وما بعد استلام يلتسن للسلطة وحل الاتحاد السوفياتي؛ والعالم وفق عنوان بلاغي: الفكر الجديد: أمس واليوم وغداً، اختتمه بعنوان فرعي مثير للدهشة «بداية التاريخ؟». ولم تحظ أفريقيا وقضاياها في القسم الأخير المخصص لتناول مواقف الاتحاد السوفياتي وسياساته الدولية سوى بإشارات بالغة التعميم والندرة والارتباط بضرب أمثلة متكررة، بدءاً من ذكرها الخجول في الفصل 20 بعنوان النظام العالمي الانتقالي، واعتبر فيه أن «دول أفريقيا جنوب الصحراء تمثل أكبر عامل مجهول في إجمالي المعادلة»، بعد نقاش عن المرحلة الانتقالية ومحددات المدة التي ستستغرقها ومن بينها مواقف القوى المتقدمة «سواء كانت ستفضل التعاون على قدم المساواة أم الهيمنة في العلاقات الدولية»؛ مما سيؤثر في تسوية المشكلات المتعلقة بالقضاء على الفجوة السوسيواقتصادية والتكنولوجية بين الشمال والجنوب، والدول الغنية والمتخلفة، والتطورات في أوروبا «لا سيما الفضاء ما بعد السوفياتي»، وإقليم آسيا- الباسفيك، لا سيما الصين، والعالم العربي والشرق الأوسط، وصولاً إلى ملاحظته الصادمة بشأن أفريقيا.
وضرب غورباتشوف، في سياق تناوله السطحي إلى حد كبير للتطور المرتقب في ظل العولمة ونمو التنوع المتزامن معها وفق نصوص صمويل هنتنغتون في عمله «صدام الحضارات» وفرضية الصراع الحتمي في القرن الحادي والعشرين، مثالاً بـ«الصراعات الدموية في القارة الأفريقية»: «أوقن أن تناقضات معينة، بل وصراعات بين أقاليم وثقافات متنوعة قد وقعت من دون شك على مدار التاريخ. لكن رغم أنه لا يمكن استبعاد مثل هذه المشكلات في المستقبل فإنها لا تبلغ اليوم الحدة التي يشير لها هنتنغتون»، ورأى أن أغلب الصدامات البارزة والخطيرة تقع اليوم داخل الحضارات وليس في ما بينها، وهذا ليس مفاجئاً نظراً إلى «التنوع المتزايد في التعددية داخل الحضارة الإقليمية وظهور تناقضات جديدة بين قطاعات مختلفة من هذه الحضارات»، قبل أن يوصي في موضع آخر (وأخير لذكر أفريقيا في مؤلفه) بأنه من دراسة تجارب العصر الحديث في الشرق الأوسط وأفريقيا وجنوب شرقي آسيا ويوغسلافيا السابقة وإقليم القوقاز فإننا «نتوصل إلى إمكان إقامة هيئات خاصة خاضعة للأمم المتحدة والمنظمات الإقليمية من أجل الأمن والتعاون لمنع الصراعات الإقليمية أو وقفها عن طريق الديبلوماسية، وكذلك، عند الضرورة، عبر الوسائل الاقتصادية والعسكرية».
واتسق تصور غورباتشوف «المثالي» السابق مع دعمه العام، منذ المؤتمر السابع والعشرين في آذار 1986، مبدأ تسوية الصراعات (بما فيها الأفريقية) ودعوته إلى «تسوية سياسية عادلة للأزمات الدولية والصراعات الإقليمية»؛ وتبلورها أفريقياً في أيار ببيان سوفياتي أنغولي مشترك يشير إلى ضرورة تسوية «الوضع المتفجر في أفريقيا الجنوبية بالسبل السلمية»، تلاه بشهر تقريباً إعلان نائب وزير الخارجية ف.م. فازيف ميل الاتحاد إلى «سعي جماعي مكثف» عن سبل تأمين السلام في الإقليم. وأكد غورباتشوف خلال استقباله لرئيس زامبيا كينيث كاوندا في تشرين الثاني 1987 في موسكو رغبة موسكو في لعب «دور إيجابي» في هذه العملية.

العالم الثالث والغرب و«الفكر الجديد»
وضع غورباتشوف، ضمن حزمة إصلاحاته المعقدة، مفهوم «الفكر الجديد» (novoye mysshleniye) كمكون رئيس في سياسة موسكو الخارجية تشمل مفهومي «إعادة البناء» و«الانفتاح». وتمثّل هذه العناصر الثلاثة معاً دعماً متبادلاً لهذه السياسة، وأن «الفكر الجديد» في السياسة الخارجية يسهم في إعادة بناء الاقتصاد السوفياتي، بينما يسهم الإصلاح الاقتصادي الداخلي وتأثير الانفتاح السياسي على تطبيق السياسة السوفياتية الخارجية وتوجيهها. وحلل البروفيسور بيتر زويك (مؤلف الكتاب الشهير عن العلاقات السوفياتية الخارجية-1990) سياسة غورباتشوف الخارجية، في مقال مهم (Political Science and Politics, حزيران 1989)، تجاه العالم الثالث (بحسب صياغة غورباتشوف المتضمنة لأفريقيا وآسيا وأميركا اللاتينية) وتحولاتها بإيجاز ودقة بالغين بأن غورباتشوف بدأ سياساته الخارجية بتماسك كبير آل سريعاً إلى «فك ارتباط نشط». وكان «العالم الثالث» المجال الأول الذي تأثر سلباً بتوجهات غورباتشوف الذي قام في الجمعية العامة للجنة المركزية للحزب الشيوعي في العام 1985 (والتي اختارته أميناً عاماً للحزب) بالعمل على خفض الالتزام السوفياتي تجاه العالم الثالث من دعم مادي وسياسي لحركات التحرر إلى إبداء «التعاطف» معها، بحسب غورباتشوف. ورأى معاصرون أن تعبير «التعاطف» كشف مدى تراجع الدعم السوفياتي لهذه الحركات طوال العقود الثلاثة السابقة على وصول غورباتشوف (أي من منتصف خمسينيات القرن العشرين).
وكان غورباتشوف قد وصف «الفكر الجديد» بأنه إعادة تقييم لنظرية السياسة الخارجية السوفياتية في «العصر النووي»، وقال بقدر لا يستهان به من التعالي والغرور: «لقد استغرق الأمر زمناً حتى طوّر مجتمعنا وقادتنا السوفيات اهتماماً بنمط التفكير الجديد»، إذ أصبحنا أخيراً «نرى الأمور كما هي، واقتنعنا بتلك المقاربات والطرق الجديدة» المطلوبة لحل المشكلات الدولية في عصرنا الحالي، وفي صلب هذا الفكر «الدور الجديد للقيم العالمية»، واعتبر أن سياسة تعزيز أو «تصدير» الثورة العنيفة أمر ليس مرغوباً فيه فحسب لكن غير مقبول، وأن الثورة يجب أن تثور من أحوال موضوعية ووطنية. وبحسب زويك، فإن التغيّر الأبرز في سياسة العالم الثالث السوفياتية كان تركيز غورباتشوف الضيّق على قضية الأمن الإقليمي. إذ تراجعت أهداف غورباتشوف في هذه المنطقة الشاسعة وتركزت في المسألة الأمنية مع تطوير علاقات ثنائية مع كل دولة على حدا وليس وفق المفهوم السوفياتي التقليدي عن «دول العالم الثالث» والدول التي تتبنى النظم الماركسية- اللينينية وبناء شبكة من «العملاء»، الأمر الذي اتسق في المحصلة مع اهتمام غورباتشوف بسياسة التنمية المحلية (داخل الاتحاد) على حساب «المغامرات الخارجية».
قام في العام 1985 بالعمل على خفض الالتزام السوفياتي تجاه العالم الثالث من دعم مادي وسياسي لحركات التحرر إلى إبداء «التعاطف» معها


وفي مقابل انفتاح غورباتشوف على حلول وسط مع واشنطن في القضايا العالمية دأبت واشنطن على البناء على هذا الانفتاح لتحقيق مكاسب أكبر في القارة الأفريقية كما كشف مثلاً في وقت مبكر (شتاء 1989) البروفيسور دونالد روتشيلد في مقال حول فكر غورباتشوف الجديد وخيارات الرئيس جورج بوش في أفريقيا (Issue: A Journal of Opinion, 1989)، ودفع بوش بعيداً عن أسر رؤية سلفه رونالد ريغن للحرب الباردة (النزعة العالمية - globalist) وهامش المناورة الضيق أمامه في القارة الأفريقية «مع الأخذ في الاعتبار قيود الموارد الاقتصادية العامة التي تواجهه»، ومحاولة ترقية سياسة إدارة ريغن الأفريقية المتمحورة حول مواجهة الوجود السوفياتي والتي نظرت للقضايا الأفريقية على أنها جزء من التنافس بين الشرق والغرب وتجاهل المخاوف الأفريقية الهامة مثل التنمية الاقتصادية وتقرير المصير والمساواة العرقية وحقوق الإنسان والممارسات الديموقراطية، وسط إرهاصات قادت إلى موجة التحول الديموقراطي في أفريقيا منذ العام 1989، وحققت واشنطن من ورائها مكاسب ونفوذاً غير مسبوقين.

الاستجابة الأفريقية إزاء تغيّرات سياسة «العالم الثالث»
تمثّل جزء رئيس من السياسة السوفياتية الجديدة في عهد غورباتشوف في إعادة هيكلة علاقات موسكو الاقتصادية مع «العالم الثالث»، الأمر الذي بدا أكثر وضوحاً في خفض المعونات السوفياتية لحلفائها فيه. وفي العام 1989، أنفق الاتحاد السوفياتي نحو 19 بليون دولار، أو 1.4% من ناتجه القومي الإجمالي، وهو مبلغ متدن بالقياس للمعونات الغربية، لا سيما أنه يتضمن برامج المساعدات العسكرية السوفياتية التي كانت تستحوذ بالفعل على الجزء الأكبر من المساعدات السوفياتية للعالم الثالث (كما تجلى منذ مطلع الثمانينيات في حقيقة أنه رغم سخاء مساعدات موسكو لأنغولا وموزمبيق فإنها لم تؤد إلى تطور تنموي واضح كون هذه المساعدات عسكرية بالأساس)، وتراجعت أهمية المساعدات السوفياتية لأفريقيا، لا سيما بعد مطالبة غورباتشوف بالأخذ في الاعتبار «القدرات الحقيقية» لبلاده.
وقد ظلت أفريقيا ساحة خلفية «تقليدية» للتنافس السوفياتي - الأميركي حتى نهايته ومنذ أن تبنّت العديد من دول القارة سياسة الاصطفاف الكامل (أيديولوجياً وسياسياً، من دون تحقيق تنمية اشتراكية مستهدفة شكلياً) خلف الاتحاد السوفياتي كما في تجربتي بنين والصومال؛ لكن تقييم هاتين التجربتين يكشف، ضمن خلاصات أخرى، عن اصطفاف «نخبوي» غير متبوع ببرامج اجتماعية حقيقية على النمط السوفياتي، مما يبرز تشوهات الاستجابة الأفريقية للسياسة السوفياتية حتى قبل غورباتشوف.
وعلى سبيل المثال، فإنه رغم التغيرات الراديكالية التي أعلن عنها نظام ماثيو كيريكو في عقده الأول (1972-1982) فإن التغيّر في سياسات بنين الخارجية – بحسب طائفة كبيرة من الباحثين- ظل سطحياً وغير متعمق في المشكلات البنيوية للبلاد مع إيلاء النظام اهتماماً أكبر بجوانب مظهرية مثل دولة ماركسية-لينينية شكلاً، تناقضت بشكل حاد مع استمرار الهياكل الحكومية الجامدة وغياب مشاركة حقيقية من أغلب السكان (وهم من الفلاحين) في الحياة السياسية التي ظلت نخبوية تماماً، إضافة إلى المكون غير الاشتراكي لقادة «الثورة» بالأساس، والاستغلال الانتهازي للشعارات الراديكالية من قبل كوادر نظام الحكم مع استمرار الاعتماد الكامل على فرنسا والغرب بشكل عام في الدعم المالي والعسكري حتى بعد محاولة باريس إسقاط نظام كيريكو في العام 1977 بدعم قوة مرتزقة.
أما في الصومال، فقد جسّد صعود الرئيس السابق سياد بري للحكم في العام 1969 بروز ساحة جديدة من ساحات الحرب الباردة في أفريقيا بعد مبادرة بري، في تحليل موثق قدمه الصومالي محمد حاج انجريس حول صعود وسقوط نظام سياد بري (2016)، باتخاذ قرارات فردية في سياسة بلاده الخارجية مثل إقامة علاقات ديبلوماسية مع فيتنام الشمالية والسماح لسفنها برفع العلم الصومالي مما دفع الولايات المتحدة لمنع معوناتها عن الصومال، بينما كان إقدامه على الاعتراف بحكومة ألمانيا الشرقية دافعاً لألمانيا الغربية (أحد أكبر مقدمي معونات التنمية للصومال بعد الاستقلال) ودول حليفة لها بوقف المساعدات الاقتصادية للصومال. وغيّر بري اسم بلاده إلى «جمهورية الصومال الديموقراطية»، وبعد عام واحد من انقلاب تشرين الأول 1969 أعلن بري تبني بلاده «الاشتراكية العلمية» لتكون الصومال دولة أفريقية رائدة في تبني بناء الدولة على النموذج السوفياتي، رغم أن بري لم يعرف عنه قبل الانقلاب أية ميول اشتراكية ولم يملك معرفة معقولة بأفكار كارل ماركس، ومن ثم فإن الخطوة لم تكن سوى وسيلة للتقرّب إلى الاتحاد السوفياتي الذي قدم لنظام بري مساعدات اقتصادية وعسكرية ضخمة للغاية مكّنته من البقاء في السلطة حتى «نهاية الحرب الباردة». ولم يكن مفاجئاً في المحصلة تزامن تداعي نظاما كيريكو (1989) وبري (1991)، وعدد كبير من النظم الأفريقية في واقع الأمر، مع فك ارتباط موسكو بالقارة وانهيار الاتحاد السوفياتي نفسه لاحقاً.

أفريقيا والاتحاد السوفياتي: نهاية عصر
في مواجهة التمدّد السوفياتي في أفريقيا، لا سيما في أنغولا والقرن الأفريقي في السبعينيات، بادرت إدارة ريغن (منذ العام 1981) بانتهاج سياسية أميركية أكثر قوة، وواصلت بتوجيه تشيستر كروكر، مساعد وزير الخارجية للشؤون الأفريقية، بعملية انخراط ديبلوماسي بهدف تعزيز التغيير السلمي وتحجيم «الوجود الشيوعي» في إقليم أفريقيا الجنوبية، واتبعت واشنطن سياسة «التقارب الإيجابي» مع بريتوريا، وربطت بين دعم المبادرة بانتقال نحو استقلال ناميبيا وانسحاب مصاحب للقوات الكوبية من أنغولا المجاورة، وحققت واشنطن بسياساتها تلك قدراً ملموساً من النجاح لا سيما منذ منتصف الثمانينيات.
وتزامن مع التفوق الأميركي في أفريقيا تحوّل الأخيرة، مع تراجع الخطابات السوفياتية الأيديولوجية إزاء قضايا القارة الأفريقية، وبالتزامن مع مرورها بما عرفت بأزمة الديون (لا سيما منذ منتصف الثمانينيات)، إلى سوق مهمة نسبياً أمام الصادرات السوفياتية بعد مرسوم التجارة الخارجية (1988) الذي فتح المجال أمام قيام شركات خاصة (تكوّنت عقب صدوره مباشرة أكثر من ثلاثة آلاف شركة) بتصدير منتجات الاتحاد مثل أجهزة التلفاز والغذاء والأدوية، مع تغاضي وزارة العلاقات الاقتصادية الخارجية عن مشترطات هذه العمليات. وتشكلت بحلول العام 1990-1991 مجموعة جديدة من الرأسماليين الروس عمقت صلات روسيا «الجديدة» مع العالم الثالث.
كما عُززت هذه التطورات عبر اتخاذ مقاربة غورباتشوف الأفريقية مسار التعاون مع واشنطن كما تبلور في قمته مع ريغن بالعاصمة الأميركية في كانون الأول 1987 ونظرها في اتباع «مقاربة متبادلة للصراعات الإقليمية»، بينما حدد الإعلان الأميركي- السوفياتي المشترك في آذار 1988 إقليم أفريقيا الجنوبية كأحد مجالات العمل المشترك الممكنة، وبعدها بثلاثة أشهر فقط حددت القمة السوفياتية - الأميركية التالية تاريخ 29 أيلول كموعد مستهدف لإتمام تسوية بخصوص أنغولا وناميبيا. وساهمت القوتان العظميان في صياغة بروتوكول برازافيل واتفاق نيويورك (كانون الأول 1988) الذي وقعت عليه أنغولا وكوبا وجنوب أفريقيا، وتضمن تطبيق هذه الاتفاقات للمرة الأولى مشاركة سوفياتية في عملية حفظ سلام تعاونية في القارة.
وفي إشارة مباشرة إلى أفريقيا جنوب الصحراء، وتعبيراً عن انقطاع تام عن سياسات الاتحاد السوفياتي الأفريقية، رأى وزير الخارجية السوفياتي حينذاك إدوارد شيفرنادزه أن تحويل قارات بأكملها إلى مجالات للصراع بين الشرق والغرب تحت لافتات الحقد الأيديولوجي (في إشارة ضمنية للماركسية اللينينية التي تبنتها موسكو كأداة مهمة في فرض سياساتها الخارجية طبقتها دول أفريقية رسمياً مثل بنين والصومال) يجلب البؤس لشعوب هذه القارات... (لكنه) يوجه أيضاً ضربة للمصالح الحيوية لشعوب الشرق والغرب.

خلاصة
يمكن فهم رؤى غورباتشوف للعالم الثالث، وتحديداً أفريقيا، بشكل أدق عند تفهّم الأوضاع التي تم فيها التعاون السوفياتي-الأفريقي على الأرض، واستجابات نظم الحكم وثيقة الصلة بالاتحاد السوفياتي حتى لحظاته الأخيرة، وربما تناقضات المقاربات الأفريقية لسلوك القوى العظمى وتفاعلاتها (وعلى نحو يتجلى راهناً بشكل متكرر يثير مخاوف حقيقية وتساؤلات حول «نضج» الدول الأفريقية بعد أكثر من ستة عقود على الاستقلال). كما أن تتبع أفكار غورباتشوف وربطها بسياساته منذ توليه الأمانة العامة للحزب الشيوعي يشير إلى ارتباكات قسرية اعترت مساره، ومن ذلك نقده (فورين أفيرز, 1987) لطبيعة الإمبريالية (بتفسيرات لينين) ودور العوامل الخارجية في تغيير طبيعة نظام اجتماعي ما، قبل توجهه إلى التقارب «الكامل» مع الغرب وفق فلسفة «الفكر الجديد»، متسائلًا أنه «في ضوء المرحلة الحالية من تطور العالم والمستوى الجديد من اعتماده المتبادل وتكامله» فهل من الممكن للعوامل الخارجية التأثير في هذه الطبيعة ومنع تجلياتها الأكثر خطورة؟ وهل بمقدور الرأسمالية الفكاك من النزعة العسكرية والتطور في المجال الاقتصادي من دونها؟ وهل يمكن للنظام الرأسمالي أن يمضي قدماً من دون تكريس الاستعمار الجديد الذي يعد حالياً أحد العوامل الأساسية لبقائه؟ بمعنى آخر هل يمكن لهذا النظام أن يبقى من دون ممارسات التجارة غير العادلة مع العالم الثالث؟. ويبدو في المحصلة أن واقعية غورباتشوف كانت صائبة بشأن «فك الارتباط» مع أفريقيا، وأن قادة دول «الاتجاه الاشتراكي» في الأخيرة لم يقرأوا دلالات التغيير التي حملها غورباتشوف وبشّر بها مراراً وظلوا حتى الساعات الأخيرة يعولون على توازنات حرب باردة كانت قد حسمت قبل سقوط غورباتشوف بأشهر طويلة.

* باحث مصري متخصّص في الشؤون الأفريقية