- 1 -
وصف أحد مسؤولي «الأونروا» في قطاع غزة مشروع رقمنة الأرشيف بـ«الأهم في تاريخ الوكالة». لأنها تمكّنت من الأرشفة الإلكترونية لأكثر من نصف مليون صورة، والمئات من مقاطع الفيديو، إضافة إلى مسح ضوئي لـ 20 مليون وثيقة، وتوفيرها عبر موقعها على الإنترنت. وأنها بدأت بتحديث الأرشيف الرقمي على الإنترنت لملفات اللاجئين انطلاقاً من مقر «إسكوا» في بيروت، التي تعدّ المكان الأنسب لاستكمال عمل الأرشيف التقليدي، وتفضيل لبنان على مناطق عملياتها الخمس (الضفة الغربية بما فيها شرق القدس المحتلة وسوريا والأردن وغزة) لأن لبنان يمتلك ميزات فنيّة دون المناطق الأخرى، في توفر المواد والبيانات والمسح الضوئي المنجز وأرشفته على الإنترنت وحفظ الوثائق بشكل أكثر أماناً؛ وخاصة تلك التي تعود إلى فترة ما بعد النكبة.
- 2 -

يقال «إذا ضاعت الوثيقة ضاع التاريخ»، مع ذلك لا يمكن حماية التاريخ من خلال التوثيق فقط، فالتاريخ مسألة سياسية وجماعية، ولأنه تاريخ سياسي، حمايته مسألة تستند إلى عملية التوثيق ولا تعمل دونها أو نقيضاً لها! علماً بأن ما تقوم به «الأونروا» هو جزء يسير من الأرشيف الفلسطيني وليس كلّه، وعندما يتعلّق الأمر بالصدقية، كونه تسجيل وثائق وخصوصيات وحيوات رقمية تدلل على استنتاجات ومعطيات لمجريات الأحداث والأحاديث، كذاكرة متحولة من الشفوية إلى الرقمية ومن الفردية إلى الجمعية، ولكن يكون الانفصام وخسارة الصدقية، عندما يتم توثيق الرواية وتبنّيها من جهة، والوقوف على الحياد بين روايتين متناقضتين، إحداهما حقيقية تمتلك وثائقها، وأخرى مزيفة تدّعي الحقيقة. ومثل عدم تدريسها قرارات الأمم المتحدة ذات الصلة بفلسطين، مثل القرار 194 مثلاً المتعلق بحق العودة، أو قرار الأمم المتحدة الذي رأى أنّ الصهيونية شكل من أشكال العنصرية، أو تقوم «الأونروا» بمراجعة مواد التعليم لضمان ما وصفته «التقيّد التام بأرفع مبادئ الأمم المتحدة»، وتحجم عن تعليم تاريخ وجغرافيا فلسطين، تبتر الذاكرة عن أكثر من مدرسة تابعة لها تقوم فيها بتعليم أكثر من 500 ألف طفل لاجئ، في خطوةٍ خطيرةٍ للغاية ورضوخاً للضغوط، والمساومة على الذي يتعلق بالرواية الفلسطينية، مثل إلغاء أيّ ذكر للقضايا السياسية التي تتعلّق بالثوابت الفلسطينيّة؛ من قبيل عدم التركيز على إظهار رمزية مدينة القدس كعاصمة لدولة فلسطين، والاستعاضة عن ذلك بالتأكيد على كونها مدينة للديانات السماوية الثلاث.
- 3 -

أثيرت أسئلة وهواجس عديدة مع اللجنة المشرفة مباشرة، التي شرحت ووضحت وردت على التساؤلات المشروعة، ما الهدف ولماذا في هذا الوقت بالذات؟ وما يعني شجرة العائلة؟ وتفرعات شجرة العائلة وأصولها التي تمتد إلى يوم النكبة. وكما ذكر فريق العمل ذاته، أن وكالة «الأونروا» منذ تأسيسها هي المسؤولة عن تسجيل اللاجئين والحفاظ على سجلاتهم التاريخية، تأكيداً لدورها التاريخي كشاهد أممي على النكبة... ومهمّتها تسجيل كل لاجئ غير مسجل وتربطه بشجرة العائلة، وربطهم بأفراد أسرهم الحاليين، إذ إن هؤلاء كان يشطب تسجيلهم في حال الوفاة حتى عام 2010. السيدة دوروثي كلاوس، مديرة دائرة الإغاثة والشؤون في «الأونروا»، تحاول التشكيك الدائم بأعداد اللاجئين الفلسطينيين المقيمين والمستهدفين من الخدمات، والفارق بين المسجل والمقيم، إذ تبنّت فتح سجلات اللاجئين، وأرشيفهم الذي طرح مخاوف عديدة نظراً إلى حساسية الوضع. بعدها اعتمدت «الأونروا» على المسح الضوئي بالمشروع من أجل الحفاظ على الملايين من الوثائق، وتسجيل وتوثيق سيرة أكثر من سبعة ملايين لاجئ فلسطيني وحقوقهم، علماً بأن «الأونروا» شرعت في ذلك قبل نحو عشر سنوات، لتحويل أرشيفها التقليدي إلى رقمي، بحجة الخشية من تعرّضه للتلف أو الإحراق أو القصف. التحديث استوجب الآن كلفة تدفعها ألمانيا الاتحادية وبلجيكا.
- 4 -

بسبب فقدان الثقة بين مجتمع اللاجئين والمجتمع الدولي، نتيجة فشله في تطبيق القرارات ذات الصلة بحلّ قضيتهم وتحقيق حقهم بالعودة، ومنذ الخمسينيات بدأ شعار «إذا لم تستطع حل المشكلة عليك بتذويبها»، يأخذ صداه لدى دوائر معادية، إذ فشلت محاولات حل قضية اللاجئين كقضية سياسية، ما يفسر ما يجري من عملية تشتيت وتفكيك مشكلة اللاجئين عن طريق اختصارها إلى مشاكل اجتماعية إغاثية، لذلك من الطبيعي أن يثير هذا الأمر المزيد من التساؤلات مشروعة:
- من حيث المسألة المهنية: عدة مخازن للبيانات الشخصية هي بحوزة من؟ وتحت ضمانة من؟ ولماذا استبعد المستوى الفلسطيني من أولي الأمر والقيادة والتمثيل للعلم والإشراف؟ وأول تبرير أن الأرشيف بحوزة إسرائيل! وسرقته من مركز الأبحاث عندما دخلت بيروت؟! ليقال إذاً لماذا تخافون من تسريب المعلومات؟؟
- من حيث المحتوى: السيرة الذاتية والبيومترية والمعلومات الداعمة، والمسح الضوئي، إلى جانب أدوات متعددة تستخدم البيانات، لكنها غير كافية لتحقيق ضمانة الحماية للبيانات وإمكانية استهدافها كمواد عينية للبحث عن حلول للاجئين غير الحق.
التخوف ليس في أدوات وتكنولوجيا وكوادر العمل الذين هم محل ثقة، ولا في نظام التسجيل ومكانه، أو طريقة التسجيل عن بعد online. بما في ذلك التسجيل العادي والتسجيل الحيوي، جمع الوثائق والسماح للشخص نفسه بأن يلتقط صورته ويرسلها لتوثق ضمن السجلات. بل هو مسعى إسرائيلي يحاول البناء لسرقة المعلومة بالاستعانة بذوي السطوة لاستخدامها أو نقلها بقرار أممي من وكالة «الأونروا» إلى المفوضيّة السامية لشؤون اللاجئين (UNHCR).
- 5-

ثلاثة محاذير في حيّز السياسة:
- إدارة البيانات، «التطبيق» فقط يخدم اللاجئ الفلسطيني، بما في ذلك إعداد التقارير والتحليل لتقديم الخدمات والمساعدات وبرامج الدعم. البيانات تحوّل قضية اللاجئين من سياسية بامتياز إلى إنسان ديجيتل أو مسألة إغاثية بحتة.
- إدارة الحالات: يتربص باللاجئ دعاة تصفية قضية اللاجئين، لذلك وإن كان من أهمية لتأمين المعلومة الدقيقة لتستند إليها مراكز الأبحاث، إلا أن البحث يحري لتفكيك مجتمع اللاجئين، إن كان في الداخل أو الخارج؟ له حقوق مواطنة أو حالة لجوء؛ إعادة التوطين وانعدام الجنسية أو هناك جنسية أخرى. من الحالات ما يمكن تشريحها لبناء سياسات عليها. هناك من طرح على وكالة «الأونروا» أن تقتصر مسؤوليتها على الذين لا جنسية لهم.
- إدارة الهوية، نفس الجهات التي تدرس تفكيك المجتمع تعمل على تفكيك صفة اللاجئ من تصنيف إلى توصيف اللاجئ، من يتدخل لتعريف من هو اللاجئ؟ من هو الفلسطيني، هناك تمويل مشروط بالهيكلة، كما موضوع الإنابة وغيرها، تفكيك وتجزئة مفهوم اللاجئ، ألا يؤشر هذا بالتمهيد إلى اللعب بمفهوم «الأونروا» كشاهد على قضية وطنية، إلى حصرها بالتوثيق، أو إسقاط العهدة الدولية كخدمات توكل لمؤسسات أخرى؟
- 6-

حصيلة أكثر من 70 سنة من الذاكرة الفلسطينية، ليست بحوزة «الأونروا» وحدها التي توثّق كماً من الخزائن الرقمية، التي تحفز الحكومات والشركاء الداعمين للاجئين للاستفادة من هذه البيانات، أقلها في رسم السياسات، كونه توثيقاً إلكترونياً شفافاً ومفتوحاً وغُب الطلب. لأن أخطر أنواع السياسة هو السياسة الباطنية وغير المعلنة والتي تعلن عكس ما تضمر، تنفذ الأهداف بالحيلة، والتي لا تعتمد على مبدأ المواجهة المباشرة، حتى لا تصطدم بعوامل الرفض، كل شيء يفعل الآن يراد منه تصفية قضية اللاجئين، والحرص الدولي ليس على إطعامهم بل على هضمهم.
كل شيء يفعل الآن يراد منه تصفية قضية اللاجئين، الحرص الدولي ليس على إطعامهم بل على هضمهم


لقد شنت دولة الاحتلال حرباً على الذاكرة الفلسطينية، على الأرشيف، وعلى «الورق»، منذ احتلال فلسطين عام 1948 حتى اجتياح بيروت عام 1982، سرق الاحتلال الإسرائيلي نحو 38 ألف فيلم، و2.7 مليون صورة، و96 ألف تسجيل، و46 ألف خريطة وصورة جوية من أرشيف الفلسطينيين، ووضع بعضها في أرشيف «الجامعة العبرية». وفي غزوها لبنان عام 1982، استكملت الاستيلاء على جميع مقتنيات مكتبة مركز الأبحاث، التي تحتوي على مئات الكتب النادرة والمراجع والمخطوطات الثمينة، بالإضافة إلى مقتنيات الأرشيف من ملفات وأشرطة «ميكرو فيلم»، إلى جانب مصادرة آلات تصوير وأجهزة تسجيل وأشرطة مُسجلةٍ كتاريخ شفوي، وتسجيلات صوتية مع أعلام الثقافة الوطنية الفلسطينية، لتكون هذه الحرب معلنة ضد الذاكرة ومع «الورق».

- 7 -

لقد أطلق العديد من المبادرات الوطنية لحماية وأرشفة تاريخ الشعب الفلسطيني ومراحله في مسيرة النضال الوطني التحرري، فالذاكرة الشفوية لا تكفي وحدها للذود عن الحق، ولا بد من سلاح التوثيق، وخاصة أن الحفاظ على الإرث التاريخي لا يقل أهمية عن غيره من أشكال المقاومة. تبدأ عملية إنتاج قضية فلسطين كمعنى وذاكرة وهوية ورواية من سردية اللاجئ تحديداً، وقد لفتني ما قاله الدكتور سليمان أبو ستة معلقاً على مشروع الأرشفة: «لو يدري ديفيد بن غوريون بما تفعلون لخرج من قبره»! لأنه لو نطقت الأرقام حتماً سنهزم محاولات إلغاء السردية الفلسطينية، فالأرقام لها لسان ويمكن أن تنطق ولذا ترعب بن غوريون ليخرج من قبره. قيل إنها لم تعد أرقاماً ميتة، وأصحابها صاروا أحياء حتى لو غادروا الحياة، وقضيتنا لم تمت فهي قضية حيّة ومن لحم ودم وحلم؛ وليست مجرد خرافة طوتها السنون.
سرق الاحتلال الإسرائيلي نحو 38 ألف فيلم، و2.7 مليون صورة، و96 ألف تسجيل، و46 ألف خريطة وصورة جوية

ولاكتشف بن غوربون وأحفاده وتوابعه أنهم عاشوا كابوساً يقول «يموت الكبار وينسى الصغار»، ربما مات الكبار، أو معظمهم، ولكن لم تمت حكايتهم، إن استطعنا أن نحفظها من أجل الصغار. كان بن غوريون يتمنى أن تتحول ذاكرتنا إلى رماد، أو غبار أو أرقام في قاموس عرب النفط والذل والنسيان. يا ليته يخرج من قبره، فالجرائم لا تسقط بالتقادم.

- 8 -

الذاكرة الفلسطينية لا تشيخ، والأهم أن لا تهمل ولا تضيع أو تسرق. وتفادياً لضياع الأرشيف بعد سرقته كما حدث مع أرشيف «منظمة التحرير» في بيروت، لا بد من نظام ضمانة وطنية بحثية متخصصة وآمنة، حتى لا نقع في سرقة من نوع آخر، ولا ننسى أننا في زمن الحرب السيبرانية والقرصنة الإلكترونية و«العنف الرقمي»؛ لقد أنشأ الكيان وحدات خاصة في قوّاته المسلحة مسؤولة عن الحرب الإلكترونية أو حرب المعلومات. كذلك في زمن التخمة المعلوماتية التي تحشو عقول البشر بالغثّ والسمين، والحقيقي والمزيّف. لذلك خزين البيانات ممكن أن يكون نعمة أو نقمة.
يتوقف الأمر على القدرة بتحصن البيانات واستثمارها معاً، وقد تبدأ من مسميات عدة، طلب المعلومات للبحث أو معلومات لدعم مشاريع تنموية وكذلك لمواءمة وضع الموازنات وفق نسبة المستفيدين، والاستناد المعرفي لتقديم الخدمات والمساعدات، لذلك وضع الشروط مسألة ضرورية لتقديم ما يلزم، إن كانت المعلومات متاحة للجميع، سواء كانت مراكز البحث والدراسات وصنّاع القرار والمنظمات والسفارات والدول. ودائماً يطرح السؤال المتكرر: ماذا عن إشكالية الأمن المعلوماتي التي لم تعد في هذا الجانب حكراً على المؤسسات صاحبة العلاقة؟

* روائي، وعضو المكتب السياسي لـ«الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين»