إنه لمن دواعي سرور الماركسي العربي أن تظهر منصة ناطقة بالعربية مهتمّة لأمر اليسار عموماً واليسار الماركسي خصوصاً، وتضع مهمة لها في عددها الثالث؛ مهمة استعادة الجوهر الثوري للفكر الماركسي، وتخليصه من الشوائب الانتهازية والتوظيف المضاد لأحزاب اليمين واليسار في الغرب الإمبريالي. وتوظيف هذه «الاستعادة» لجوهر الماركسية الثورية في الصراع بين شعوب الشرق الأوسط ومنها شعوب الأقطار العربية، من جهة، وبين النظام الإمبريالي بقيادة الولايات المتحدة من الجهة الأخرى. واستخدم هنا مفهوم الشعب بالتقابل مع الدولة القطرية. وهناك استخدام آخر لمفهوم الشعب بالتقابل مع مفهوم الأمّة، فنقول: شعب عربي، وشعب فارسي وتركي وآخر روسي وفرنسي، الخ.

نقرأ بداية في ترويسة الحوار: هيئة «اشتباك عربي» في حوار مع الأستاذ الجامعي والمفكر العربي د. علي القادري. مثّل هيئة «اشتباك عربي» في هذا الحوار المفكر والأكاديمي العربي د. سيف دعنا. وسيف دعنا معروف بمداخلاته وتحليلاته عبر قناة «الميادين» وبدعمه للمقاومة العربية والفلسطينية ضد إسرائيل. واضحٌ في عمل الترويسة إعطاء المنصب الجامعي تعزيزاً إضافياً، علّه يقدّم قيمة علمية مضافة. فعلي القادري أستاذ جامعي ومفكر عربي، بينما محاوره د. دعنا مفكر وأكاديمي. وهذا الترتيب قد يعوض ما فات في القسم الأول من التعريف.
جاء في التقديم للحوار: «يحدث الصراع الطبقي في مجال المفاهيم أيضاً». وكأن كاتب التقديم بهذا القول يدخل في حوار داخلي (مونولوغ) مع مقولة لينين: «كل صراع طبقي هو صراع سياسي». حيث يريد صاحب التقديم القول: إن الصراع الطبقي لا يقتصر على المستوى السياسي (بما في ذلك بناء الحزب السياسي الماركسي الثوري)، بل يشمل أيضاً الصراع النظري -الأيديولوجي.
والصراع الطبقي بطبيعته له وجوه ومستويات ثلاثة، هي: السياسي (قيامة الحزب الثوري) والنظري –الأيديولوجي، و«الاقتصادي» (النضال النقابي). يجري التركيز هنا في هذا الحوار على النضال النظري-الأيديولوجي. وفحوى هذا التركيز على المستوى النظري-الأيديولوجي القول: إنه يمكن للفرد أن يكون ماركسياً ثورياً مناهضاً للإمبريالية، حتى ولو كان أكاديمياً يدرّس في جامعة أميركية شمالية. وهذا أمر وارد في تاريخ الماركسية. إن التركيز على البعد الأيديولوجي يؤكد ذلك، ويؤكده أيضاً مضمون الاستشهاد بالاقتصاديّ–السياسيّ الهنديّ بروبات باتنياك الذي يقول بمركزية الصراع الأيديولوجي، بخاصة أن أحزاب اليمين الرأسمالي في الغرب تستعمل مفاهيم يسارية مع تغيير دلالاتها (كلمة حق يراد بها باطل) والهدف من ذلك تجريد اليسار والقوى التقدمية من أسلحتها الأيديولوجية؛ «تجريدها من أدوات مهمة في الصراع النظري-الأيديولوجي خصوصاً والصراع الطبقي/ الاجتماعي السياسي عموماً».
يشكل المستوى السياسي من وجهة نظر البروليتاريا، المستوى المهيمن على بقية المستويات (الأيديولوجي والاقتصادي). بكلام آخر، فإن الهدف الأساسي لبناء وعي نظري وأيديولوجي مستقل للبروليتاريا هو بناء تنظيم سياسي مستقل عن إرادة البورجوازية الحاكمة. لكن من دون إنتاج علم نظري بالواقع المعاصر لا يمكن بناء هذا الاستقلال في الوعي، بالتالي لا يعود من معنى لبناء الحزب السياسي، لأن بناء تنظيم سياسي من دون وعي نظري مستقل، سيكون بالضرورة تابعاً في وعيه وبرنامجه وسياساته للوعي الطبقي البورجوازي السائد. فبناء الوعي المستقل؛ العلمي التاريخي بالمجتمع، غايته بناء الحزب السياسي المستقل عن سياسات البورجوازية المسيطرة. لكن هنا، في هذا الحوار، يتم التركيز على المستوى الأيديولوجي والنظري بعيداً من مشروع بناء الحزب الثوري المستقل عن سياسات البورجوازية. وقد يكون ذلك علامة على نقص في شروط قيامة هذا الحزب، وقد يكون قصور في الفكر الأكاديمي وعيب مقيم فيه، وهو أحياناً عدم ربط الفكر بالممارسة.
يقول كاتب التقديم: «وبرغم أن حوار هذا العدد يتخذ من الصراع على مفهوم الإمبريالية تحديداً وتوظيفه في الصراع الدائر عبر أدوات يسارية الرطانة إمبريالية الوظيفة، محوراً لنقاش هذه القضية، إلا أن المستهدف فعلاً وأساساً هو المنظومة الفكرية الماركسية وجوهرها الثوري والمعادي للإمبريالية ككل». لكن لماذا يتكلف أستاذ علم الاجتماع والدراسات الدولية في جامعة ويسكونسن الأميركية وعضو مجلس الأمناء والهيئة الإدارية لمركز الأبحاث العربية، عناء الدفاع عن «المنظومة الفكرية الماركسية وجوهرها الثوري والمعادي للإمبريالية ككل»؟ هذا السؤال ستتم الإجابة عليه في سياق تقدم الملاحظات. والسؤال نفسه يذكرنا بماركسية الأستاذ والأكاديمي الراحل الطيب تيزيني، مع أنه لم يكن ينتمي إلى حزب ماركسي ثوري، وكان يعمل في كنف بورجوازية اشتراكية قومية.
يبدو أن الصراع على «استعمال» الماركسية كأداة أيديولوجية بين «اليسار» الماركسي الإمبريالي، أو «اليسار الاستعماري»، من جهة، وبين «اليسار الاشتراكي القومي»، من جهة ثانية، هو الحاضر الأكبر في هذه المبارزة.
يقول لسان حال «اليسار الاشتراكي القومي»، وهو لسان حال كاتب التقديم: الهدف من هذه «الأدوات يسارية الرطانة إمبريالية الوظيفة» هو احتواء وتدجين تيارات وأحزاب ماركسية عدة ومفكرين ماركسيين كثر على مدى العالم، تستهدف الماركسية في كينونتها الثورية كنظرية معادية للإمبريالية ومناصرة لمقاومة شعوب الجنوب للاستعمار والإمبريالية».
لكن شعوب الجنوب، ومنها شعوب الأقطار العربية، هي، ولأكثر من نصف قرن، ترزح تحت حكم البورجوازيات الطرفية، وهي ليست في وضع طبقي أو سياسي مستقل يجعلها تدافع عن مصالحها بشكل مباشر، وتقاوم الاحتلالات الاستعمارية، والتحكم الإمبريالي، وهي بهذه الوضعية المستقلة. كما أن هذه البورجوازية الطرفية دجنت من جانبها الأحزاب الشيوعية العربية «الرسمية»، أو المُكرّسة، إذا استعرنا العبارة المسيحية.
هذا التجريد للصراع، جنوب-شمال، وشرق-غرب، لا يفيد النظرية الماركسية ولا ثوريتها المهدورة، بل يفيد في تكريس الدوغمائية في خطاب «اليسار الاشتراكي القومي»


إن مقاومة «الحشود» المفقرة في البلدان المتخلفة للإمبريالية تتوسطها في الواقع وبالضرورة سيطرة البورجوازيات الطرفية. هذه المقاومة وهذا النضال للطبقات الشعبية من عمّال وفلاحين فقراء وفقراء المدن للإمبريالية موسطة بوجود سيطرة البورجوازية الطرفية. ومن المفروض أن تشكل هذه الوساطة وهذه السيطرة جوهر التحليل الماركسي للتناقض الأساسي العالمي السالف الذكر.
يقول التقديم: في هذا العدد تحاور «اشتباك» الأستاذ الجامعي والمفكر العربي علي القادري صاحب دراسات وكتب استثنائية منها «التنمية العربية الممنوعة» و«تفكيك الاشتراكية العربية» والكتابان يشيران إلى الدور الحاسم للعقبة الإمبريالية «الخارجية» في منع «التنمية العربية» وفي تفكيك «الاشتراكية العربية»، مع أن الكتاب الثاني للقادري يأتي على ذكر الطبيعة البورجوازية للنخب الحاكمة في هذه البلدان، وطبيعة اشتراكيتها العقائدية الفظة التي تعيد التوزيع مؤقتاً مع عبادتها للملكية الخاصة ولرأس المال. بقول آخر، ساهمت «العقبة الخارجية» وطبيعة «الاشتراكية العربية» في هذا التفكيك.
يقول التقديم: «أخيراً يعمل الحوار على استعادة الجوهر الثوري للماركسية المتمثل بنظرية فائض القيمة وتجلياته في العصر الإمبريالي. كي يساعدنا في فهم ما نعتقد أنه التناقض الرئيسي في العالم، صراع الجنوب-الشمال».
بالنظر إلى الصراع الطبقي كمقولة حاكمة ومركزية في الفكر الماركسي، وبالنظر إلى تدويل الصراع الطبقي في عصرنا نتيجة لأسباب عدة، «فإن المبادرة الثورية ضد الرأسمالية، التي كانت تقوم بها البروليتاريا في البلدان المتقدمة في أيام ماركس، انتقلت إلى أيدي الحشود الغفيرة، وهي الحشود التي تناضل لتحرر نفسها من السيطرة والاستغلال الإمبرياليين، كما أن متطلبات هذا الصراع الطبقي الدولي هي التي تلعب الدور الحاسم المتزايد في تقرير استخدام الفائض، بالتالي في تحديد طبيعة المجتمع كله في الدولة الإمبريالية القائدة؛ أي في الولايات المتحدة الأميركية» (هذا ما يقوله بول باران). ونظراً لخطر نتائج هذا الصراع على المستوى الدولي، وتأثيره الكبير على رأس النظام الإمبريالي، كان لا بد من طرح مسألة الطبيعة الطبقية لقيادة تحرك الحشود هذا في كل بلد من البلدان المتخلفة. إن دراسة الطبيعة الطبقية لهذه القيادة يدخل في صلب النضال الثوري ضد الإمبريالية، وفي صلب استعادة الفكر الماركسي لجوهره الثوري.
يظهر «التناقض الرئيسي» العالمي لعصرنا تناقضاً بين شعوب البلدان المتخلفة ومنها شعوب الأقطار العربية من جهة، وبين النظام الإمبريالي موسَّطاً بسيطرة تاريخية لبورجوازيات طرفية لأكثر من نصف قرن من جهة أخرى. بينما يظهر هذا التناقض لدى هيئة «اشتباك» تناقضاً بين تجريدين: الشمال المتقدم والجنوب المتخلف. هذا الشمال الذي يقوم بنهب فائض القيمة من الجنوب، وهنا نقترب من «الفهم التجاري» للإمبريالية متضمناً مسألة النهب وتدهور حدود التبادل بين الشمال والجنوب، ونكون في صحبة مدرسة التبعية وسمير أمين في فهمنا للتخلف. أي أن الدولة «البورجوازية الطرفية» ليست مسؤولة ولا تلعب أي دور في هذا التناقض وهذا الصراع. مع أن التجربة التاريخية خلال نصف القرن المنصرم، أكدت، من دون لبس، أن توسّطها في هذا الصراع أسهم في تكريس التخلف الاقتصادي الاجتماعي، وفي حالات أخرى فلّ من حدة الصراع وجعله رخواً بالمعنى التاريخي. ما يعطي المقارنة بين التجربة الفييتنامية والتجربة الناصرية في الصراع والمواجهة مع الإمبريالية الأميركية والبريطانية والفرنسية، ومع الصهيونية، بعداً راهناً.
بالطبع هذا التجريد للصراع، جنوب-شمال، وشرق-غرب، لا يفيد النظرية الماركسية ولا ثوريتها المهدورة، بل يفيد في تكريس الدوغمائية في خطاب «اليسار الاشتراكي القومي» المستمرة على امتداد الأقطار العربية، لأكثر من نصف قرن.
وتتم استعادة هذا الخطاب المجرد عن الطبقة والسلطة، مرة أخرى، على لسان محاور القادري؛ لسان «اشتباك» حيث يقول: كما أفهم الموضوع، وكما فهمت منك ومن كتاباتك، فإن الماركسية الأوروبية تعمل على تغييب وحتى تحريف، الجانب الأكثر ثورية في فكر كارل ماركس عبر قراءة غير سيسيولوجية (المقصود غير اجتماعية، أو تشييئية) أوّلاً، وعبر شرح يقترب من تفكير (رجل الحسابات؛ أي المحاسب) لنظرية القيمة (في إشارة إلى أعمال دافيد هارفي). كيف نفهم نظرية القيمة بعلاقاتها بصراعات أهل الجنوب المستمرة في مواجهة النهب والحروب والخراب؟ أو كيف نضيء على الجانب الحقيقي والثوري في نظرية القيمة لصالح فهم التناقض الأساسي في العالم بين الشمال والجنوب؟ هذا يفترض أو يتضمن كما أظن، استعادة الطابع الثوري، وهو الطابع الحقيقي لنظرية القيمة الماركسية؟».
أوّلاً، يجب التفريق بين السيسيولوجيا كعلم وصفي تسجيلي انطباعي، كما ظهر عند أوغست كونت، والذي لم يعره ماركس أدنى اهتمام، وبين العلم الاجتماعي التاريخي عند ماركس، حيث يقوم هذا العلم بتحليل وكشف حقيقة نمط الإنتاج البورجوازي القائم وغيره من الأنماط السابقة، مع دراسة شروط ظهوره التاريخي وبنيته وشروط موته.
وثانياً، نتساءل بدورنا: لماذا كل هذا الحرص من قبل «اليسار الاشتراكي القومي» العربي على استعادة «الجانب الحقيقي والثوري» للنظرية الماركسية؟ طبعاً الجواب متضمن في الفقرة المقتطفة السابقة: لـ«فهم التناقض الأساسي في العالم بين الشمال والجنوب». لكن المتابع يرى أن هدف هذه الاستعادة «لجوهر الماركسية الثوري» ليس بناء الحزب الثوري الماركسي، ولو كان ذلك كذلك لجرى ليس فقط نقد الماركسيين الأوروبيين الاستعماريين، الذين يهاجمون «النظم القومية التقدمية»، خدمة للإمبريالية والاستعمار، بل نقد الماركسيين «البيروقراطيين» المأخوذين بالمدرسة «السوفياتية» البيروقراطية، الذين حوّلوا عبارة ماركس-أنغلز ولينين إلى أوثان وحجارة مقدسة لا تسمن ولا تغني من جوع، في الصراع النظري والأيديولوجي الماركسي ضد الإمبريالية. واللافت في الحوار أنه لم يأتِ بتاتاً على ذكر «الماركسية السوفياتية» ودورها التاريخي في التخلف النظري والأيديولوجي للماركسية الثورية، كما لم يأتِ على ذكر دور الأحزاب الشيوعية «الرسمية» المكرّسة في الأقطار العربية وفي المشرق العربي في هذا التخلف! ويمكننا فهم هذا الغياب على أرضية تحالف هذه الأحزاب البيروقراطية المدجّنة والمحنّطة مع النظم «القومية التقدمية»، أي تبعية فكر وإرادة هذه الأحزاب تاريخياً لسلطة «البورجوازية الاشتراكية القومية» الحاكمة.
أخيراً أقول: لا يمكننا نقاش مسألة الإمبريالية خارج العلاقة الإمبريالية بين البورجوازية الإمبريالية في المراكز الميتروبولية الرئيسية وبين البورجوازيات الكولونيالية الحاكمة في البلدان الرأسمالية الطرفية المتخلفة ومنها الأقطار العربية، بحيث تظهر سلطة «البورجوازية الطرفية» إمّا كوسيط في التناقض الرئيسي بين شعوب هذه الأقطار وبين النظام الإمبريالي، أو تظهر كصورة للعلاقة الإمبريالية، أي تظهر كسيطرة محلية تمثّل وتعزز سلطة الإمبريالية. وأي حديث عن إعادة اكتشاف «جوهر الماركسية»، لا يأخذ في حسابه هذه العلاقة وهذه الوساطة وهذا التمثيل، هو مجرد إعادة إنتاج لفكر ماركسي مدجَّن يعمل تارة في خدمة البورجوازية الإمبريالية في المراكز الميتروبولية، وتارة أخرى في خدمة البورجوازية الكولونيالية المسيطرة في بلدان الأطراف الرأسمالية المتخلفة.

* كاتب سوري