حديثنا هنا عن مذكرات صائب سلام التي صدرت للتوّ في ثلاثة أجزاء بعنوان: «صائب سلام: أحداث وذكريات». وقلتُ من قبل إن الأجزاء الثلاثة هي يوميّات دوّنها صائب ونشرتها العائلة كما هي من دون تصحيح أو تنقيح أو تحرير، مع أنها تنقل صورة معبّرة عن مكنونات صائب سلام وتفكيره في محطات تاريخيّة هامّة شارك هو في صنع بعضها.تستحقّ هذه المذكّرات أن تنالَ نصيبها من الاهتمام بالنسبة لتاريخ لبنان المعاصر وتاريخ الحرب الأهليّة لكن حجم المذكّرات قد يكون السبب في عدم صدور مراجعات لها. موقع «أساس» (لمالكه نهاد المشنوق) نشر عنها لكن الكاتب اختار أن يصوّب على المرحلة الحاليّة من خلال نتفٍ من مذكرات صائب. وقد عايش صائب أحداثاً جساماً في تاريخ المنطقة والتقى بشخصيّات محليّة وعربيّة وعالميّة، ويكتب في اليوميّات عن «السياسي الألماني، ريبنتروب» (ص. 123) وكيف أنه ألحّ في طلب مقابلة صائب لكن صائب أبى لرفضه مسايرة الأجنبي. لكن لا أدري إذا كان صائب يتحدّث هنا عن وزير خارجيّة هتلر، يواكيم فون ريبرنتروب، لأن ليس هناك من أثر في المراجع عن زيارة له إلى بيروت. ويقول إنه لم يكن يثق لا بالألمان ولا بالإنكليز الذين «لا يريدون بنا خيراً سواء في لبنان أو في كافة الدول العربيّة». ويردّ صائب التهمة عن عائلته بأنها كانت من «أنصار الإنكليز» لأن ثقافة أفراد العائلة كانت إنكليزيّة (وكان تصنيف السياسيّين يومها بناء على معيار مماشاة الفرنسيّين مقابل مماشاة البريطانيّين).

وهناك إشارة مفيدة في يوميّات صائب إلى أصل لقب البكويّة في بيروت، فيقول إن «البكويّة لم تكن أصلاً في القاموس السياسي-الاجتماعي لأبناء بيروت. فأنا ما عرفتُ والدي إلا «أبو علي» أو «أبو علي أفندي» (ص. 132). وصائب على حقّ في أن بيروت لم تعرف الاستزلام السياسي الذي عرفته مناطق أخرى من لبنان مثل الجنوب وعكّار والبقاع وكسروان وزغرتا. ويشير صائب إلى دور الاستعمار الفرنسي والإنكليزي في تمويل ودعم أشخاص محدّدين من «عملائهم من المسيحيّين ثم تعمّمت بواسطة بعض الزعماء الجدد، لمحاربة وجهاء بيروت بواسطة خير الدين الأحدب من طرابلس ورياض الصلح من صيدا واقتحام الساحة البيروتيّة. و»الزعامة» مسألة طارئة في الحياة السياسيّة والاجتماعيّة لبيروت، حيث كانت صفة الوجاهة هي السائدة قبلاً» (ص. 131). وقد تكون صفة «الوجيه» موازية لصفة «الأعيان» الذين تحدّث عنهم المؤرّخ ألبرت حوراني في كلامه عن بلاد الشام تحت حكم العثمانيّين. لكن صائب لم يشرح لنا كيف أنه قبلَ في كل سنوات زعامته بلقب البيك ولم يتنكّر له في حياته السياسيّة. لكن العلاقة بين الناخبين وبين النوّاب في بيروت كانت أكثر ديموقراطيّةً وإلفة من العلاقة بين الناخبين في مناطق أخرى من لبنان. وكان بيت صائب بصورة خاصّة مفتوحاً أمام المراجعين في مختلف أوقات اليوم (وكان يُقال في مديح صائب سلام وتمييزه عن زعماء سنّة آخرين أنه كان «فاتح بيته»).
وفي قسم يستحق التوقّف عنده، يميّز صائب بين «الميثاق الوطني» و«الصيغة» ويفصل أنه كان هناك خلط (مغالِط) مقصود بين المفهومين. يشرح صائب أن «الميثاق» غير المكتوب كان عبارة عن توافق وتفاهم إسلامي-مسيحي على «نبذ الاحتلال والحماية الأجنبيّة» عن لبنان (ص. 137). أمّا «الصيغة» فهي تلك التي وزّعت المناصب العليا بين الطوائف مع أرجحيّة صارخة للموارنة. وربط «الصيغة» بـ«الميثاق» كان مقصوداً من قبل زعماء الموارنة من أجل إضفاء طابق القدسيّة والنهائيّة على التوزيع المختلّ للمناصب العليا لصالح طائفة واحدة. وكان بيار الجميّل الأب شديد التمسّك بالصيغة لأنها بالنسبة إليه، وإلى باقي زعماء الموارنة، كانت تكريساً للسيادة السياسيّة لطائفة إزاء باقي الطوائف. وصائب يشرح أن «الصيغة»، بعد فصلها عن «الميثاق» الوطني تصبح مجرّد صيغة في الحكم قابلة للتعديل والتغيير.
وتزيل يوميّات صائب الكثير من الأوهام عن شخصيّة رياض الصلح التي تعرّضت للكثير من التبجيل والتعظيم من قبل مؤسّسي الجمهوريّة الحديثة. واغتيال الصلح ساهم في خلق شخصيّة تاريخيّة بعيدة كل البعد عن شخصيّة رياض الحقيقيّة (هناك سير تبجيليّة كثيرة عن رياض الصلح، واحدة من قبل باتريك سيل وأخرى من قبل أحمد بيضون). يشير صائب إلى «ألاعيب» و«مقالب» رياض ويعترض على الوصف السائد آنذاك لتلك الألاعيب بالدهاء السياسي الذي عُرف عنه. وفي الزمن الحالي، يُطلق البعض صفة التفكير الاستراتيجي وبعد النظر على وليد جنبلاط في وصف تقلّباته وانعدام مبدئيّته. والصلح كان يستسهل (على طريقة أحمد فتفت والسنيورة خلال حرب تمّوز) طمس الحقيقة. رياض الصلح هو الزعيم العربي الذي طمأن الصحافيّين العرب قبيل النكبة بأن هناك خطّة سريّة للجامعة العربيّة للحفاظ على فلسطين. وصائب يذكّر أن رياض الصلح استعان بفريق من الإعلاميّين المُطيعين الذين كانوا «يطبّلون ويزمّرون له في الصحف والمجالس» (ص. 141). هذا الاعتماد على الإعلام في رفع المقام أتبعه في ما بعد—لكن على نطاق أوسع بكثير—رفيق الحريري منذ أوائل التسعينيّات.
كل خشونة صائب سلام، وفظاظته في العمل السياسي، تزول عندما يتكلّم عن زوجته تميمة مردم بك. هنا، وفي كل سنوات اليوميّات، يظهر صائب العاشق الحنون والرقيق والمخلص. لا تظهر تميمة في اليوميّات كما تظهر زوجات السياسيّين في مذكّراتهم، أي ديكور منزلي لا يستحق الإشارة أو التنويه من قبل أزواجهنّ. تميمة تظهر كشريكة لصائب الذي لا ينفك في اليوميّات عن الإشادة بها والتعبير عن الامتنان لها. ويتحدّث بشيء من التفصيل عن أسباب وظروف زواجه، هو الذي كان قد نبذ الزواج بعد آخر علاقة حب له (سبق الحديث عنها في حلقة ماضية). تتضمّن اليوميّات رسائل حب عفويّة لتميمة ويستفيض في الحديث عن زواجه «السعيد». يقول عن تميمة إنها «الغالية الحبيبة، والزوجة وصاحبة الفضل» في «العيشة الزوجية الحميمة» وفي تكوين «العائلة الهانئة» (ص. 147). وحدها تميمة تتجسّد في الكتاب لما فصّله زوجها من وصف لشخصيّتها ودورها وفضلها عليه. هذا الحب الذي كنّه صائب لتميمة يذكّر بحب رونالد ريغان لزوجته نانسي.
في قسم يستحق التوقّف عنده، يميّز صائب بين «الميثاق الوطني» و«الصيغة» ويفصل أنه كان هناك خلط (مغالِط) مقصود بين المفهومين


لا يجامل صائب في الحديث عن تعصّب الزعماء المسيحيّين والبطريركيّة المارونيّة. يذكر في هذا الصدد أيّوب ثابت، بالرغم من أنه كان متهماً بالإلحاد وكان (حسب صائب) «يدّعي» الانتساب إلى الطائفة البروتستانتيّة. ثابت أصدر مرسوماً في رئاسته حدّد فيه المقاعد النيابيّة بناء على الأعداد غير الدقيقة في إحصاء 1932، والذي أعطى—أو سوّغ—الحظوة السياسيّة المسيحيّة في الحكم. ويعارض صائب ما ورد في المرسوم من حيث إضافة أعداد المغتربين إلى جداول الانتخاب. وصائب على حق في أن حق الانتخاب يتلازم مع واجب دفع الضرائب لكن زيادة أصوات المغتربين كان—ولا يزال حتى الانتخابات الأخيرة—حيلة يلجأ إليها زعماء الموارنة لترجيح الكفّة ضد الزيادة العدديّة المحليّة للمسلمين. ويحدّثنا صائب عن زمن 1924 عندما وصل تحالف اليسار إلى الحكم في فرنسا وكيف أن الجنرال «سراي» اليساري العلماني أراد إلغاء الطائفيّة وقسّمَ لبنان إلى 13 دائرة انتخابيّة يتشكّل فيها مزيج من المسلمين والمسيحيّين. يقول صائب عن تلك الفترة: «فما كان من الموارنة المتعصّبين، والبطريركيّة المارونيّة على رأسهم، إلا إعلان الاستنفار العام بين صفوف الطائفة، وتشكيل وفد ذهب إلى باريس» (ص. 126) ونجح في إقناع الحكومة بإلغاء المراسيم العلمانيّة للبنان. طبعاً، محاولة الجنرال «سراي» كانت الاستثناء لأن فرنسا هي التي هندست النظام الطائفي اللبناني وكرّسته في القوانين والأعراف.
وصائب صريح في كلامه عن تعصّب البطريرك عريضة إذ يقول عنه: «وكان البطريرك عريضة لا يفوّت مناسبة مع مسلم إلا ويذكر أمامه أن «الأرْآن» (أي القرآن) يأمر المسلمين بأن لا يأمنوا المسيحيّين، فأنتم «لا تأمنون لنا ونحن لا نأمن لكم». وعبثاً حاولنا أن نشرح له كيف أن القرآن يجلّ سيّدنا المسيح وسيّدتنا مريم ويقول إن أقربهم مودّة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى… فيبقى مصرّاً على موقفه بقوله: «لا تجرّب أن تقنعني يا ابني» (ص. 171). هذا الجانب من المصارحة في الكراهية الطائفيّة مخفي في كتب التاريخ وفي سير السياسيّين اللبنانيّين الذين يفضّلون مشهد عناق القسّ والشيخ الفولكلوري.
ثم يحدّثنا صائب عن شخصيّة أحمد سامح الخالدي. والخالدي هو من القلائل الذي حظوا بلفتة خاصّة من صائب من حيث الودّ ووصف دقيق للشخصيّة (يصفه بـ«الصديق الظريف كل الظرف» (ص. 147)، وهو يعترف—على غير عادة—بأنه استفاد «كثيراً من معاشرته». والخالدي تزوّج من شقيقة صائب، عنبرة سلام الخالدي، وهو والد سلافة ووليد وأسامة ورندة وطريف (لم تحصل ذريّة عنبرة سلام الخالدي على الجنسيّة اللبنانيّة التي اقتناها مقابل مبالغ ماليّة الكثير من الفاسدين العرب والأجانب—حتى توماس براك الذي سُجن في أميركا وهو ملاحق اليوم بتهم القبض من النظام الإماراتي للترويج له في سياسات إدارة ترامب حصل على الجنسيّة اللبنانيّة بتدبير ما من وزير الداخليّة آنذاك، نهاد المشنوق). وتعترف عنبرة في سيرتها أنه كان هناك اعتراض من قبل العائلة السلاميّة عندما تقدّم أحمد سامح لخطبتها ربما لأنه كان متزوّجاً (بحسب مصدر عائلي). لكن أحمد سامح كان زميلاً وصديقاً لمحمد سلام (شقيق صائب وعنبرة) في الجامعة الأميركيّة في بيروت وهو أعطى موافقته على الزواج وأقنع باقي أفراد العائلة. والمصاهرة بين عائلتيْ الخالدي وسلام امتدّت: محمد سلام تزوّج من فاطمة الخالدي وعاصم سلام تزوّج من سلافة الخالدي، ووليد الخالدي تزوّج من رشا سلام. وأحمد سامح كان مربياً وعالماً اجتماعيّاً بارزاً وكانت «الكليّة العربيّة» في فلسطين من أحدث معاهد التعليم في كل العالم العربي—وأسهم هو في مدّهها بمؤلّفات للاعتماد في المنهج الدراسي. ويُقال إن أحمد سامح الخالدي هو أول من ترجم فرويد إلى اللغة العربيّة. أحمد سامح كان من روّاد الدعوة للتعليم باللغة الوطنيّة (أذكر عندما التحقت بالمدرسة الابتدائيّة في مدرسة الـ«آي سي» في بيروت في الستينيّات أن معظم أساتذتي كانوا معلّمين في «الكلية العربيّة» قبل النكبة، وكانت كتبنا المقرّرة من وضع أساتذة في الكليّة العربيّة). ومن إسهامات أحمد سامح الخالدي أنه أسَّسَ مدرسة ابتدائية في جنوب لبنان في منطقة العزيّة والحنيّة جنوب مدينة صور.
ويتحدّث سلام عن حكومة الاستقلال الأولى وعن نشوب الخلاف بين المسلمين والمسيحيّين (أو بين زعمائهم بالأحرى) حول تصميم العلم الوطني. يقول إن المسيحيّين «وتيّارهم الممثّل بإميل إدة وغيره، وحزب الكتائب وعلى رأسه بيار الجميّل، طالبوا بأن يكون العلم اللبناني شبيهاً بالعلم الفرنسي، من حيث ألوانه الثلاث، بدلاً من العلم اللبناني الذي كان أثناء الانتداب مكوّناً من العلم الفرنسي نفسه والأرزة الخضراء في وسطه» (ص. 148). ويقول صائب إن المسلمين تشدّدوا «بمطالبتهم أن يتشكّل العلم اللبناني الاستقلالي من الألوان الأربعة: الأبيض والأحمر والأخضر والأسود، أي أن يكون شبيها بالعلم العربي المعروف من معظم الأقطار العربيّة آنذاك». كيف يتشكّل وطن عندما يكون قسم من زعمائه مصرّين على اعتناق علم الاستعمار على بلدهم؟ وحتى في النقاش حول تعديل الدستور بعد «نيل» الاستقلال من أجل إزالة كل الحظوة والمزايا التي كان يتمتّع بها المُستعمر، كان هناك نوّاب وقفوا ضد تعديل الدستور من أجل الحفاظ على هيمنة المُستعمر الدستوريّة (يذكر صائب من هؤلاء النواب الأحد عشر إميل إدة وأيوب ثابت وألفرد نقّاش وكمال جنبلاط).
ولا تدوم العلاقات الحسنة بينه وبين غيره من السياسيّين، الخصوم منهم كما الحلفاء. عبد الحميد كرامي، مثلاً، شكّل دعماً مبكراً لصائب، لكن صائب سرعان ما سينقلب عليه. عبد الحميد كرامي استوطن في منزل عائلة سلام في بيروت لدعم ترشيح صائب في أول انتخابات بعد الاستقلال، ويقول مصدر في العائلة السلامية أن دعم عبد الحميد رجّحَ فوز صائب آنذاك. في المقابل، يقول صائب عن عبد الحميد إنه بعد تشكيله للحكومة في عام 1945 وقع أسير الاحتضان المسيحي: «ويظهر أن عبد الحميد، بعد تكليفه تشكيل الحكومة، بهرته السلطة والجاه، فانغمس فترة في أجواء ما كان يُسمّى وقتها بـ»الحيّ الشرقي» في بيروت، إذ أصبح نجماً لامعاً عند إخواننا المسيحيّين» (ص. 165). وقسوة حكم صائب على عبد الحميد مستغربة لأن ولاية عبد الحميد لم تستمرّ إلا بضعة أشهر فقط (من كانون الثاني/يناير حتى آب/أغسطس). وعبد الحميد، مثل كثيرين، ينسى أفضال صائب، إذ يقول: «وهذه واحدة من حوادث كثيرة ومتكرّرة تعكس، في علاقتي مع عبد الحميد كرامي تأييداً له من قبلي وجحوداً منه نحوي، سامحه الله» (ص. 169). حكمَ صائب على عبد الحميد أن له مواقف سلبيّة نحوه، لأنه لم يدعم ترؤسه لوفد برلماني. والطريف أن صائب يؤمن أن عبد الحميد، كما رشيد من بعده، لم يقوَ على تحمّل أعباء الحكم. ويذمّ صائب أيضاً بعبدالله اليافي وينوّه بمساعدته له فيقول: «ورغم كل المواقف السابقة لعبدالله اليافي المؤيّدة للانتداب، ورغم العزلة التي فرضتها عليه الأوساط الشعبيّة، اقترحتُ أن ينضم اليافي إلى الوفد» (ص. 166). ثم كيف يكون اليافي معزولاً شعبيّاً وهو كان في كل تلك الحقبة في الأربعينيّات والخمسينيّات نائباً ووزيراً؟ ويصف صائب اليافي العروبي الناصري بـ«فرنكو فيلي».
وتظهر برودة وجفاء صائب بصورة بارزة أو عرضيّة في اليوميّات. هو مثلاً يقول إن شقيقه «محمد وزوجته» رافقاه في تدشين أوّل خط طيران بيروت-قبرص. لكن لماذا لا يعرّف زوجته شقيقه محمد بأنها كانت فاطمة الخالدي (أم هاني) وكانت عميدة في عائلتي الخالدي وسلام، وكانت قياديّة في وسطها؟ والذي تسنّى له (مثلي) مشاهدة صور عائليّة لـ«أم هاني» يتبيّن قوّة شخصيّتها في سن مبكرة وهي تقف بين إخوتها. ويقول وليد خالدي (في مراسلات عائليّة خاصّة اطلعتُ عليها) إن فاطمة الخالدي كانت أكثر ذكاء من معظم إخوتها اللامعين، حسين وفخري وحسن وغالب ويعقوب وإسماعيل وأحمد سامح وإن سبب عدم حصولها على شهادات تعليم هو عدم وجود مدارس جيّدة للبنات في منطقة يافا حيث كانت العائلة تقيم لأن الحاج راغب الخالدي كان قاضياً للمنطقة. ويذكر أفراد عائلة سلام والخالدي حس الفكاهة وسرعة البديهة والحنكة السياسية التي كانت تتمتّع بها. و«أم هاني» هي التي أوكلت أن تنتقل ملكيّة منزل المصيطبة إلى صائب بعد أن انتقلت إلى محمد عندما تمّ تقسيم الإرث بالقرعة. وهل أن تجاهل صائب لفاطمة الخالدي مرتبط بحقده الطويل والقاطع على ابنها، هاني سلام، والذي وصفه في اليوميّات في ركن ذمّ عدد من الأشخاص هكذا: «كما تنكّر لي ذلك الولد العاق، هاني سلام، الذي ربّيته» (ص. 1277). هكذا يصف صائب ابن شقيقه الذي ناصبه العداء والضغينة منذ أوائل الستينيّات حتى وفاته وفشلت كل مساعي أفراد عائلتيْ سلام والخالدي في رأب الصدع وإصلاح ذات البين بينهما. ولا يعرّفنا صائب كثيراً على شخصيّة، شقيقه، محمد سلام الذي قاد مؤسّسة «المقاصد» لتسع سنوات مفصليّة (ابتداء من عام 1949 حتى وفاته في عام 1958) وهو من المؤسّسين مع صائب وفوزي الحصّ لشركة «طيران الشرق الأوسط» (لا يذكره صائب عندما يتحدّث عن تأسيس شركة «طيران الشرق الأوسط» إذ يحصر الفضل بشخصه، ص. 171). ومحمد سلام هو كان أوّل من فتح أبواب مدارس «المقاصد» أمام الشيعة وطوّرَ المنهاج الدراسي وأشرف على إصلاح أبنية «المقاصد» نفسها، وتعاون مع أحمد سامح من أجل تحديث وعصرنة التعليم في المقاصد. واهتم بـ«بيت الأطفال» (في الحرج) اهتماماً فائقاً وجعل المدرسة نموذجيّة. وأدخل تعليم اللغة الإنكليزيّة كي يزيد من القدرات التنافسيّة لطلاب «المقاصد» مقارنة بخرّيجي مدارس الإرساليّات. ويقول وليد الخالدي (في مراسلات عائليّة خاصّة غير منشورة) أن محمد كان أكثر إخوته مناصرةً للقوميّة العربيّة وأنه ابتسمَ وهو يحتضر عندما سمع بخبر الوحدة بين سوريا ومصر في عام 1958.
لكن عندما يتعرّض أقرب أقرباء سلام لظلم منه فلا غرابة، إذ لحق بأبيه، أبو علي سلام، ذمٌ. يتحدّث صائب عن جانب في العلاقة بين سياسيّين لبنانيّين وبين إعلاميّين وكيف أن رياض الصلح وهنري فرعون كانوا يرسلون زعراناً لضرب ناقديهم بين الإعلاميّين ويقول إنه منع أنصاره من ضرب الإعلامي خيري الكعكي بعد أن انتقد صائب ويقول في هذا الصدد: «وكنتُ أوّل سياسي يضع حداً للتقليد الشائع بضرب الصحافي والمعارض، كما كان يفعل رياض الصلح وغيره، وحتى والدي من قبل، مع رجال صحافة عصره المتجنّين عليه، فقد كنتُ أستنكرُ دائماً هذا الأسلوب» (ص. 185). أي أن صائب لم يكن يمانع في ذمّ أبيه إذا كان ذلك في معرض مديح الذات، مع أن عادة ضرب الصحافيّين أتت بعد الحقبة السياسيّة التي عاش فيها أبو علي سلام. (طبعاً، عادة ضرب الصحافيّين أو قتلهم استمرّت بعد ذلك وأصبحت أداة مستخدمة بيد الدولة، كما حصل في عهد فؤاد شهاب ومكتبه الثاني الذي أمرَ بشطب وجه ميشال أبو جودة بالموسى).
(يتبع)

* كاتب عربي - حسابه على تويتر
asadabukhalil@