لم تكن الانتخابات النيابية الأخيرة، والحرب الهجينة التي شنّت على بيئة المقاومة لسنوات مضت، محطة كاشفة لفهم طبيعة ومستوى عمق علاقة بيئته فيه، ولن تكون. فالبحث في هذه العلاقة التفاعلية يبدو أمراً مثيراً ومحفّزاً. من هي هذه البيئة ومن هو هذا الحزب؟ وكيف تتشيّد هذه العلاقة التبادلية أو التفاعلية أو بالأحرى «الذاتية» إذا ما صحّ المصطلح؟ إن الإجابة على أسئلة مركزية كهذه لا تني تحتاج لمعرفة خط المقاومة في لبنان ونموذج حزب الله كحركة إيمانية في متنه فحسب، بل أيضاً تحتاج، وبشكل أوْلى، معرفة وفهم خصائص البيئة التي يحيا فيها حزب الله وينمو، وصيرورتها، وما تقلّبت فيه شخصيتها لقرون وعقود متمادية بينما كانت تنتظر ولادة نموذج ساهمت في صناعته بفارغ الصبر وبالصبر الجميل. إن المجتمع الذي تقلّب في المجاهدة وبناء الأمل لقرون، وحالما تنضج ظروف معيّنة أو تتلاقى شرائط تاريخية من نوع خاص، سيولّد مصداقاً وتجلّياً من تجليات ترقيه وحضوره، وهو ما حصل كما أنبأت الأحداث.
لقد التقت، عشيّة الألفية الثانية، جملة عناصر ضرورية وظروف تاريخية. وجدت القيادة الإيمانية التي انعقد الانتظار عليها، ووجد النهج والمشروع الذي ينسجم مع حقيقة وهوية هذه البيئة وانتمائها، ووجدت القضية الحقة التي شكلت الفرصة لإطلاق المكنونات الفكرية والجهادية والثقافية والنمط الجمعي، فانتقلت هذه العناصر بالبيئة من الضمور إلى الحضور ومن السير النفسي إلى السير الخارجي. ومن نافل القول إنّ فراغ الساحة ساعد بتزايل الحالة وتمايزها، إذ وجّه الأنظار بحثاً عمّن يترشح لهذا الدور الاستثنائي لمواجهة نموذج الهيمنة بأعلى موجاته وضروبه. فالتقت على القضية الحقة فلسطين التي تتكثّف عندها كل المعاني والقيم العليا «العدالة والحرية والسيادة والاستقلال؛ واستعادة الذات الجماعية، فكان الصراع مع الكيان الصهيوني المحتل معبر استعادة المبادرة التاريخية لهذا المجتمع وتظهير مخبوءاته وما اختزن لدفع عجلة التاريخ وإعادة تعريف المفاهيم.
وأتت الانتصارات التي عُقدت على جبين هذه المقاومة منذ انطلاقتها لتعزّز صوابية حدس هذه البيئة وطموحاتها وآمالها. فما تحقق للمقاومة هو أشبه بمعجزة زادت في «المؤمل منه والمعقود عليه»، فالذي أُنجز بمواجهة إسرائيل، باعتبارها خلاصة عقل وقيم واتجاهات الهيمنة العالمية، كبيرٌ جداً ويحمل في جنباته بذوراً لبشائر كبرى. وأن تجتمع قوة الدم والمظلومية إلى قوة السيف وتوالي الانتصارات لهو أمر يسترعي التأمل.
وعلى خط آخر، يلحظ المتتبع للشخصية الجماعية لهذه البيئة -مجتمع المقاومة- يلحظ أنّها امتازت بحيوية سوسيو-اجتماعية فريدة رغم المظالم، فلم تتقمّصها العقد. وامتاز كبار علماؤها بالاجتهاد والسعة والحرية الفكرية، زد عليه أنّ كبار هؤلاء، منذ الشهيد الأوّل الجزيني والعلامة الكركي وصولاً إلى السيد عبد الحسين شرف الدين والسيد موسى الصدر والسيد محمد حسين فضل الله، وما بينهم الكثير، كانوا من مدرسة تميّزت عن غيرها من التجارب العربية والإسلامية بأن لازمت السياسي بالديني ورفضت الفصل بينهما في إطار نموذج وبرادايم فكري خاص. بل يمكن الادعاء أن نظرية «ولاية الفقيه»، أو السيادة الشعبية الدينية التي تطرح اليوم في إيران، كانت من ضمن رؤى الشهيد الأوّل وطروحاته التي صدّرت إلى بلاد فارس حينها.
لقد شكلّت الهوية التاريخية لهذه البيئة، واللحظة التي تلاقت فيها هذه العناصر، أو لنقل الشرائط الثلاث، والظروف التي أحاطت بذلك، شكّلت محرّكاً للذاكرة الجماعية فأعطتها مداها في «نصرة المظلوم ومقارعة الظالم بعد تعيينه». فالطاقة الكامنة التي خُمرت لقرون، تراها اكتشفت ذاتها في نموذج حزب الله (لا نقصد التنظيم بما هو هو إنما الحالة المقاومة المؤمنة الهادفة الحكيمة)، فاستولدت حزب الله من رحم صيرورتها بعدما تقلّبت بين صبر جميل وانتظار بنّاء وأمل واقع.
إنَّ الخطأ الذي لا يفتأ يقع به أغلب الدارسين والباحثين أو أولئك المستشرقون ويحتاج إلى دفع، هو توَهّمهم أنّ هذه الهوية أو تشكلها يتم من فوق


لكن يبقى أن نشير إلى أهمّ علامة فارقة من وجهة نظر الباحث، وهو أنّ ما ميّز هذه الحركة (أي حزب الله) في تفاعلها مع بيئتها أنها رشّدت الشخصية التاريخية وعمَّقت وعيها لصراع الحق والباطل وكيفية الخروج منها نحو الأهداف الكبرى، فنقلت المظلومية الخاصة إلى المدى الحضاري الإنساني العام بحسب الفهم الإسلامي الأصيل الذي تبنّته. نقلت غضب المظلومية والحنق الثوري إلى صراع المستضعفين والمستكبرين، فحنفت بالشخصية التاريخية للمجتمع من أي فهم خاطئ كان قد تراكم، وقوّمت ما اعوجّ منه عبر التاريخ ونقلت الإرادة العامة للبيئة من الانفعال الذي يرتبط عادة بالمظلومية إلى الفعل والنهوض والعفو والثقة بالذات وحب التحدي ومكث الكلام وحسن التشخيص. فانبرت منذ اللحظات الأولى، ومن دون مهادنة أو خوف أو تردد أو ضبابية، لتحديد الوجهة، فاستقامت قناتهم في مواجهة الهيمنة الأميركية والكيان الصهيوني أمام غالبية الحكومات العربية. وتمحور الهدف حول استنهاض المستضعفين وإنقاذهم، وفي هذا المقام تصبح كل من المقاومة والسياسة وسائل، وليست الإمارة هي المطلوبة أو الموقع والمنصب ولا التمكن بهدف إثبات الذات بل تمحورت الغاية حول طلب العدل والعدالة.
نعم، إنَّ الخطأ الذي لا يفتأ يقع به أغلب الدارسين والباحثين أو أولئك المستشرقون ويحتاج إلى دفع، هو توَهّمهم أنّ هذه الهوية أو تشكلها يتم من فوق، أي من الحزب، إلى تحت، أي إلى البيئة، والحقيقة أن المسألة أبعد من ذلك، فهي بناء مشترك يشكل المجتمع وهويته الأصيلة الجانب الغالب في قيامه. وترانا نغلّب القول إن الرجحان فيها هو لاتجاه من تحت إلى فوق، فالحزب بالنسبة لهم هو التمثّل الأبرز، حتى اللحظة، لشخصيتهم ولعصارة أمانيهم وطموحاتهم، ما يعني أن حزب الله هو الحالة التي أملوا بها واستولدوها، ولم يستوردوها كما يدّعي البعض فيخلط بين أمانيه ويسقطها على الواقع. لذلك إن من يدقق سيجد أن في أعماق كل نفس من أفراد هذه البيئة، وفي بنية كل عقل في هذه البيئة وفي هذا المجتمع، صورة نموذج رجل اسمه «حسن نصر الله».
إن هذه الحركة (حزب الله) بالنسبة لهم هي مظهر تشكيل المعاني التي يرومونها. هي تعبير عن نقلة نوعية في نظرتهم لذواتهم واستحضارهم لقيمهم وأصالتهم ومسؤوليتهم التاريخية. وليس تشكيلاً عسكرياً قوياً مقتدراً كما يراه البعض. إن حضور هذه الحركة بينهم هو إحساس بدورهم التاريخي الذي طالما انتظروه؛ وهو خروج من قلق طالما راودهم وتوجس وجودي ظل يطاردهم إلى حين انتصار تموز 2006 الذي كان إيذاناً بميلاد جديد بدأوا معه يعبّرون عن بعض جوانب هويتهم وملامح شخصيتهم الجماعية. والعقود المقبلة سوف تُضفي مزيداً من التعرّف إليهم وتبيين ذاتهم الجماعية.
بناء على ما تقدّم، وعلى ضوء رؤية تأصيلية للفهم الديني ومقاربة تجديدية لوعي حركة التاريخ، تمكّنت هذه الحركة من أن تكون «المتمم» لما بلغته هذه البيئة وشخصيتها التاريخية مستفيدة من ظرف ما، فانتقلت بها إلى القضية وإلى فلسطين وإلى البُعد الحضاري، إلى صراع اللياقة الذي من ينتصر فيه يحوز المشروعية ويكون أقدر على تفسير الحياة. لذلك يمكن القول إن حزب الله هو وليد هذا التخمّر والصيرورة التاريخية. هم ينظرون إليه كابن وأخ كبير، لا يتخلّون عنه ولا يمكن أن يتركوه مهما تعقّدت الأمور وبالغ العدو في سياساته وصراعه، فهل لأم أن تترك عصارة أحلامها ووليدها.
نختم القول إنه، في الذكرى الأربعينية، وعلى ضوء استقراء التجربة لعقود وتقييم عملية التفاعل، لن يكون الخطاب في الأربعينية إلّا لتكريس وتعميق معالم هذه الشخصية وعناصرها المضيئة وترشيد أبعادها، ربطاً بطبيعة التحديات المقبلة وتزاحماتها. ولن يكون إلّا بمزيد من الإصرار والعمل لتقديم النموذج التفاعلي الإنساني نحو بناء حضارة قادرة على النهوض بالإنسان واحترام إنسانيته وحريته والاستجابة لتحدياته.

* باحث لبناني