ما إن انتهت أعمال المؤتمر القومي العربي، والقومي الإسلامي، اللذين انعقدا في بيروت قبل أسابيع، حتى انبرت أقلام تنتقد وتشهّر وتشوّه حقيقة مضامين هذين المؤتمرين وأهدافهما. ومن بينهم الصديق الأستاذ الفضل شلق الذي تحدّث عن المؤتمر القومي العربي على أنه «مؤتمر السلطات» لا مؤتمر الشعوب العربية، وأن المؤتمر القومي الإسلامي هو «مؤتمر الفكر المستريح» الذي لا يحمل همّاً ولا يدعو إلى قضية. وإذا كنت أميّز قلم الفضل شلق عن غيره من الأقلام المغرضة، لوطنيّته وعروبته المعروفة تاريخياً، إلّا أن الصديق الأستاذ الفضل، المستريح وراء مكتبه، ربما صار بعيداً عن المناخ النضالي العربي اليومي الدؤوب المواكب لأحداث الأمّة، بل الفاعل في بعضها، فغابت عنه حقائق يومية نضالية كان الأجدر به أن يلاحقها من موقعه الفكري المنتمي، وألّا يتحوّل إلى متقاعد ينتقد الآخرين الممارسين بنجاحاتهم وفشلهم وصوابيّتهم وأخطائهم.حزنت كثيراً عندما قرأت له أن المؤتمر القومي العربي هو «مؤتمر السلطات الثقافية العربية». الأمر نقيض ذلك تماماً. هل يقصد الأستاذ الفضل أن أعضاء المؤتمر يمالئون السلطات العربية وأغلبهم قد أصبح «الطموح السلطوي» وراءه ولا همّ أو طموح له إلّا إعلاء شأن الثقافة العربية الرائدة الراشدة الرشيدة والنهوض العربي التحرري على كل مستوياته، ليقول، حين يأخذ الباري وديعته، اللهم إني قد بلغت.
وهنا أتساءل كيف يكون مؤتمراً للسلطات الثقافية العربية وفي عداده عدد كبير من خريجي السجون العربية وعدد كبير يجوبون المنافي رفضاً لسلطات بلادهم، وتخوفاً من ملاحقتها. بل بعضهم ما زال مسجوناً بالفعل أو مقتولاً.
أيها العزيز،
هل تنكّر المؤتمر لفلسطين ودعا إلى التطبيع، وهل هلّل للاحتراب العربي – العربي، وهل بسمل أحد أعضائه باسم الليبرالية أو الحداثة التي تغيّب الانتماء القومي كما فعل ويفعل المرتدّون على تاريخهم بفعل حفنة من الدولارات أو مسايرة لعصبية طائفية أو مذهبية.
وللتذكير، فإن النظام الداخلي للمؤتمر لا يقبل في عضويته أيّ شخصية في سلطة تنفيذية في بلاده وتجمّد عضويته إذا كان من أعضائه وتسلّم موقعاً في السلطة التنفيذية.
كثيراً ما ترتفع أصوات (حتى ضمن المؤتمر) يدعو أصحابها إلى فعل معيّن أو مبادرة معينة تفوق طاقة المؤتمر أو تتنافى مع توجهاته، أو تجهل أو تتجاهل طبيعة تركيبته الجامعة (المفترض فيها احترام كل الآراء) فيكون الجواب تأكيداً للسائلين أن هذا المؤتمر ليس حزباً واحداً أو تجمعاً لعدة أحزاب، وهو بالتأكيد ليس حركة ثورية تمارس الكفاح المسلح (وإن كانت تدعو إليه)، إنْ هو إلّا مجموعة من النخب المفكرة والممارسة والمتابعة لقضايا أمّتها، تلتقي للحوار فتكبّر ما هو متفق عليه وتصغّر ما هو مختلف عليه. هذه النخبة تحضر المؤتمر على حسابها وتصرف على حسابها وتنزل في الفندق على حسابها، وتحاول أن تسدّ العجز في ميزانية المؤتمر بتبرعات زهيدة مشكورة. نعم لا يزال في هذه الأمّة رجال غير مأجورين إلّا عند الله، يدفعون من جيوبهم لا من جيوب غيرهم.
لقد أرسى المؤتمر القومي العربي منهجاً في التحليل والتعاطي مع القضايا الخلافية (وقد حصل بعضها بالفعل) يقوم على الابتعاد عن المزايدة والشعبوية والشللية التي كانت سائدة في نهاية القرن المنصرم والتي كان من نتائجها أن انقسمت أحزاب عريقة، وأن دُمّرت أحزاب قديمة، وأن جرت تصفيات ضمن الحزب الواحد، وأن أقصت السلطة حزبها فكان ما كان.
تشهد الساحة العربية تيارات وازنة في هذه الأمّة يؤشر كل تيار إلى حقيقة من حقائقها، وكانت مأساة تنازُع هذه التيارات في بعض الأحيان لا بل في أحيان كثيرة تذهب بالحقائق المحقة، فإذا بحقوق كل تيار كبير تضيع في خضم هذا التنازع وهذا الصراع. ففي ظل هذا المعطى السلبي المحزن، كانت المبادرة إلى تأسيس حوار قومي - إسلامي يشكّل الكتلة التاريخية لهذه الأمّة. هل في هذه المبادرة (التي واجهت مطبّات كثيرة عملنا على معالجتها) إبّان «الربيع العربي»، هل في هذا ما ينال من نبل المقصد؟ وخاصة أن طرفَي الحوار أصبحا يدركان، كل من موقعه، أنه لا يستطيع إلغاء الآخر، وقد أعلن أحياناً، في ما يشبه النقد الذاتي، أن رهاناته كانت مبنية على أفكار أو وقائع خاطئة.
ويستغرب الأستاذ شلق انعقاد المؤتمر تزامناً مع المؤتمر القومي العربي، لعلّه يجهل أن العاصمة الوحيدة التي تستقبل مثل هذه المؤتمرات هي بيروت العروبة والمقاومة دون شروط مسبقة، وأن الرغبة في تخفيف تكاليف السفر على المؤتمرين في أوقات مختلفة هي وسيلة ناجحة لتلاقي الناس في هذه الأيام. ويضيف الأستاذ شلق إلى استغرابه انعقاد المؤتمر القومي - الإسلامي بوصفه له أنه «مؤتمر الفكر المستريح». وهنا نستغرب مقولته قائلين: الأمر نقيض تماماً، فأن تلتقي مقاومة في لبنان تحرر الأرض وتقيم الردع الاستراتيجي مع الكيان الصهيوني، مع مقاومة محاصرة في غزة وصلت صواريخها في معركة «سيف القدس» إلى سماء وأرض تل أبيب، في تحوّل استراتيجي ونوعي وتاريخي في تاريخ الصراع مع العدو، فهل في ذلك راحة أو استراحة؟ وهل من التقائهما في المؤتمر القومي - الإسلامي، إضافة إلى ممثلين عن عرب فلسطين في المثلث العربي، ما يشير إلى الفكر المستريح، وكلنا يدرك ماذا يعني تطور الصراع من الحجر بوجه الرصاص إلى الرصاصة مقابل الرصاصة، إلى الصاروخ مقابل الصاروخ؟
نتمنى على البعض الدراسة والجهد والمتابعة والمثابرة والسهر والعرق وحبس الأنفاس والدماء المدفوعة ثمناً لصاروخ يصل إلى غزة، وبعدها فليجلدوا الداعين إلى المقاومة بتقصيرها، ولا نقول بتقصيرهم. إن الأخلاق السياسية هي الميزان في كل ما يفعله وما يقوله الإنسان. ومن موجبات هذه الأخلاق أن نعطي لكل ذي حق حقه.

* عضو الأمانة العامة للمؤتمر القومي العربي، العضو المؤسس في المركز العربي الدولي للتواصل والتضامن