لا تزال دراسات الغرب عن الشرق الأوسط تعيش تحت وهج، أو تحت سوْط، كتاب «الاستشراق» لإدوار سعيد. كل المستشرقين، بمن فيهم صديق العرب والمسلمين، ماكسيم رودنسون، أبدوا استغراباً أو امتعاضاً من شعبيّة الكتاب ورواجه، في الولايات المتحدة أوّلاً ثم في العالم أجمع بعد ذلك. والحديث عن كتاب «الاستشراق» أكثر راهنيّة اليوم من قبل. ما وصفه سعيد بـ«المعرفة السياسيّة» عن الشرق الأوسط (خلافاً للمعرفة المحض، إذا كان من معرفة محض مثل معرفة نمط التوالد عند الفراشات) هو الطاغي والدوافع السياسيّة للمعرفة ازدادت بعد تكثيف الضلوع والحروب الأميركيّة في الشرق الأوسط (كما أن التمايز السياسي بين كندا والولايات المتحدة وأوروبا اضمحلّ في السنوات الأخيرة وهذا ينعكس على عمل الجامعات في تلك البلدان—الجامعات في كندا كانت أكثر حريّة في استضافة آراء متنوّعة عن الشرق الأوسط فيما أصبحت أكثر تزمّتاً من جامعات أميركا. رفضت جامعة تورونتي دعوة وصلتني من مجموعة طالبية فيها لإلقاء محاضرة بعد أن كانت قد استضافتني قبل أكثر من عشرين سنة). منذ أواخر السبعينيّات حتى اليوم يتبيّن مدى حجم التدخّل الأميركي في بلادنا وتأثير هذا التدخّل على دراسة الغرب (والعرب) للشرق الأوسط. إن هذا الكمّ الكثيف من الدراسات الغربيّة عن الإسلام والحركات الإسلاميّة، مثلاً، كان بدوافع سياسيّة. ومهما كان المرء مستقلاً في تفكيره ودراساته فإن عقد المؤتمرات عن مواضيع معيّنة يؤثّر على وجهة البحث الأكاديمي. والتمويل من المؤسسات البحثيّة والجامعات والحكومات في الغرب يخضع لمفاضلة مواضيع (سياسيّة) على أخرى: حظّ التمويل البحثي للذي يُجري دراسة عن تمويل حزب الله أفضل بكثير من حظوظ الذي يريد أو تريد دراسة دور المرأة في الريف المصري في القرن التاسع عشر.
(اياد القاضي)

مناسبة الحديث عن كل هذا، والحنين إلى إرث إدوار سعيد، هو وقوعي أخيراً على كتاب «مناهج في تاريخ الشرق الأوسط: مقابلات مع مؤرّخين بارزين للشرق الأوسط» وهو للمؤرّخة المتقاعدة نانسي غالجر، وكانت تعلّم في جامعة كاليفونيا في سانتا باربرا. وقد عرفتها من هؤلاء الأكاديميّين الذين لا تبدر عنه في كتاباتهم وأطروحاتهم أي نزعة تحيّز أو عنصريّة ضد شعوب منطقتنا، وهي متعاطفة مع نضال الشعب الفلسطيني ولها كتاب عن دور الـ«كويكرز» في الصراع العربي الإسرائيلي. وكتاب غالجر (صدر في عام 1994 ولم يحظَ بالاهتمام الذي يستحقّه ولم يصدر عن دار نشر بارزة) عالج من خلال المقابلات خلفيّة ومنهجيّة المؤرّخين والمؤرّخات وهي سألتهم أسئلة متقاربة مع تغيير بحسب اختصاص واهتمام كل مؤرّخ. والكتاب مُهدى إلى ألبرت حوراني، الذي درست معه لسنة واحدة في أوكسفورد. والكتاب يبدأ بمقابلة مع عميد الدراسات الشرق الأوسطيّة في النصف الثاني من القرن العشرين، ألبرت حوراني. تأثير ألبرت حوراني على الدراسات الشرق الأوسطيّة كان هائلاً: أدار المركز المعنيّ بالمنطقة في كليّة سانت أنتوني في جامعة أوكسفورد كما أنه كان حاضراً في كل مراكز دراسات الشرق الأوسط في الغرب—إمّا بصفة استشاريّة أو كأستاذ زائر أو كمحاضر. يقول عنه تلميذه رشيد خالدي (وقد أشرف حوراني على أطروحة خالدي في أوكسفورد، كما أنه درّس والد رشيد، إسماعيل، في الجامعة الأميركيّة في بيروت): «إن تلاميذ حوراني، وتلاميذ تلاميذه، ملأوا في العقود الماضية وأنتجوا معظم حقل دراسات الشرق الأوسط في شمال أميركا وأوروبا، وبعض أنحاء الشرق الأوسط ومناطق أخرى أيضاً» (يقول رشيد ذلك في كتاب «الفكر العربي في أبعد من الحقبة الليبرالية»، وهو بإشراف ماكس فيس وجينز هانسن). ولأنه من أصل عربي تمّ التعامل مع حوراني على أنه خارج التصنيف الغربي الاستشراقي. وغالجر في كتابها حضّت المؤرّخين والمؤرّخات على التصدّي لإشكاليّة «الاستشراق» (وحده المؤرّخ العثماني، خليل إنالشيك، اعترف بأنه لم يقرأ الكتاب والمؤرّخة الجذريّة الراحلة، نيكي كيدي، المتقاعدة في جامعة كاليفورنيا في لوس أنجلوس، وحدها لم تجد ضرورة لذمّ الكتاب في معرض الحديث عنه. لكن كيدي من أكثر المؤرّخين جذريّة من بين المؤرّخين البارزين وهي من أوّل من عنت بدراسة المرأة في الشرق الأوسط).
وحديث حوراني عن نفسه يفضح المشكلة في أولى كتاباته (ثاني كتاب له من الأربعينيّات هو «الأقليّات في الشرق الأوسط»، والأوّل في عام 1946 عن لبنان وسوريا): مثل برنارد لويس، لا يرى حوراني أهل المنطقة العربيّة كعرب أو حتى مسلمين، بل هم أناس متقوقعون في طوائف وملل ومذاهب. وهذا التقسيم درج عليه حوراني وغيره من المستشرقين المعاصرين. حتى في روايته عن نفسه وعن عائلته، لا يستطيع إلا أن يصنّف. يقول عن أخيه جورج مثلاً إنه تزوّج «مصريّة قبطيّة» وعن أخيه سيسيل يقول إنه تزوّج امرأة ثلث تركيّة وثلث عربيّة وثلث فارسيّة.
تأثير حوراني على تأريخ الشرق الأوسط كان كبيراً جداً. هو درَّبَ عدداً كبيراً من الدارسين من مختلف أنحاء العالم

والطريف أن حوراني، مثله مثل الكثيرين من العرب في الغرب، يريدون دوماً إثبات أنهم لا يعادون اليهود كيهود، ويستذكر صبية يهود عرفهم بالمدرسة (يذكر بالاسم واحداً منهم فيما لا يذكر عربيّاً واحداً بالاسم). يذكر صداقته في ما بعد مع تشارلز عيساوي، الذي لم يخفِ في كتاباته (خصوصاً الأخيرة) اسشتراقيّته في حديثه عن العرب (وعيساوي يعيد النظر في حقبة فرانكو في إسبانيا ويقول عن التعاطف اليساري مع الجمهوريّين ضده إن النظر إلى فرانكو ليس أبيض وأسود). ويتحدّث حوراني عن صديق والده، فيليب حتّي، بشيء من الفظاظة. يقول إن كتبه كانت «مملّة»، وإنه كشخص لم يكن مملاً. أذكر مرّة في حديث معه (جمعنا مع آخرين من أساتذة وطلاب دراسات عليا في جامعة جورج تاون) إنه قال إن كتاب «تاريخ العرب» لفيليب حتّي حفّزه في آخر حياته على كتابة آخر كتاب له، «تاريخ الشعوب العربيّة» (تلاحظون أنه قال «الشعوب العربيّة وليس الشعب العربي، ما يدلّل مرّة أخرى على نظرته نحو الشعب العربي. والكتاب وُضع كي يترافق مع سلسلة تلفزيونيّة كانت حكومة الكويت قد موّلتها في حينه). حوراني قال لنا إنه سأل حتّي لماذا أهمل تاريخ العرب في الحقبة العثمانيّة في كتابه، وإن حتّي أجابه بأن لا تاريخ للعرب في الحقبة العثمانيّة. لفتني أن حوراني يجد كتابات حتّي مملّة فيما أنا لم أشبع من قراءتها المرة تلو الأخرى عبر السنوات. كتابات حتي، بالنسبة إليّ، ساحرة أخّاذة، خصوصاً أنه يضع الكثير من المعلومات ويرويها بطريقة شبه أدبيّة. وترجمات حتّي عن العربيّة من الأفضل، مثل ترجمته لـ«كتاب الاعتبار» لأسامة بن منقذ (لا أزال آخذ على حتّي طريقة اقتنائه للمخطوطات العربيّة والإسلاميّة في بلادنا وإيداعها في مكتبة جامعة برنستون. لكن حتّي اختلف مع برنستون في آخر حياته وأودع مكتبته الخاصّة في جامعة مينيسوتا).
ولفتني من قراءة سيرة حوراني أنه بعد تخرّجه بدرجة بكالوريوس علّم على الفور في الجامعة الأميركيّة في بيروت (وأخوه سيسل علّم أيضاً على الفور بعد الحصول على بكالوريوس). وكما أكرّر دائماً: عاد المُسلم عمر فرّوخ بشهادة دكتوراه من ألمانيا ولم يجد مكاناً له في الهيئة التعليميّة في الجامعة الأميركية واليسوعيّة بسبب دينه وهواه السياسي. لكنّ الجانب السياسي من تاريخ حوراني لا يظهر إلّا في المقابلة المستفيضة في كتاب غالجر حين يقول عن ديفيد بن غوريون—الرجل الذي قاد عمليّة طرد الشعب الفلسطيني من أرضه: «اجتمعت مع بن غوريون الذي أحببتُه كثيراً جداً. وقد دعاني لقضاء معظم بعد الظهر للحديث معه. تحدثَ باستفاضة مع رؤية عظيمة للمستقبل. لم أستطع أن أفكّر عنه بسوء مذّاك. كان انطباعي أنه رجل نزيه» (ص. 25). الذي أزعجني في الموضوع أن حوراني هذا عملَ في ما بعد (كما عمل أخوه سيسيل) مع «المكتب العربي» الذي كان مولجاً بالدفاع عن القضيّة العربيّة في الغرب (وسيسيل في مذكّراته يتحدّث عن صداقته مع بن غوريون). ويعترف حوراني أنه ترك العمل في «المكتب العربي» لأنه فقد تعاطفه مع القضيّة الفلسطينيّة لأنه وجد أن الفلسطينيّين كانوا يطالبون بالكثير (يطالبون بوطنهم لكنهم ليسوا بيضاً والملوّنون متطرّفون لو طالبوا بالسيادة على كل أرض وطنهم التاريخي) وهو وصل إلى قناعة أن التقسيم (أي تقسيم فلسطين التاريخيّة) هو «الحلّ الوحيد». لم يكن يقبل بدولة عربيّة على كل أرض فلسطين (ص.27). وهناك مقالة شيّقة عن «المكتب العربي» لوليد خالدي (وهو عمل في المكتب) ويتحدّث فيها عن لقائه بألبرت حوراني، في «مجلّة الدراسات الفلسطينيّة»، بالإنكليزيّة (خريف 2005).
ويحاول حوراني أن يشرح لنا سبب عدم تطرّقه إلى السياسة في الشرق الأوسط في كتاباته بعد تلك الفترة التي كتب فيها تقارير للحكومة البريطانية في الأربعينيّات، ليقول: «فرنسا انسحبت وسوريا أصبحت مستقلة. وبريطانيا لم تكن متورّطة». أمّا عن القضية الفلسطينية فلم يجد ما يمكن عمله وأن القضيّة «لم تعد في الأجندة». ويقول إن القضيّة لم تعد تشدّه أكاديميّاً بالرغم من تعاطفه المزعوم. وأدهشني ما قاله حوراني عن شارل مالك إذ قال إنه كان له «سجلّ مهني مميز جداً»—هذا عن رجل لم يكن على مشارف الفاشيّة بل كان في صلبها—في لبنان وفي أميركا، وكان عرّاب المشروع الفاشي لبشير الجميّل. ويقول عنه: «لقد تعلّمتُ من شارل مالك أكثر مما تعلّمت من كل أساتذتي في الفلسفة في أوكسفورد… إن عقلي تكوّن بتأثير شارل مالك أكثر من أي شخص آخر».
وعن كتاب «الاستشراق» يأسف حوراني لأن سعيد أعطاه هذا العنوان. ويقول إن كلمة «استشراق» أصبحت كلمة قذرة، كأن هذا كان غرض سعيد. وسعيد، للإنصاف، حذّر من سوء استعمال أو قراءة كتابه لكنه لم يكن مسؤولاً عن ذلك. يرى حوراني أن الاستشراق هو من أفضل الحقول الدراسية في القرن التاسع عشر. ويحاول حوراني أن يقول إن التعميم والاختزال في الحديث عن شعوب أخرى لا يحملان بالضرورة الاستعلاء العنصري من الغربيّين نحو الشرقيّين ويقول إن ذلك يسري على حديث البريطانيّين عن الفرنسيّين. طبعاً ذلك موضوع آخر لأن إرث الحديث العنصري من قبل الغربيّين عن الشرقيّين لا يمكن مقارنته بحديث الغربيّين، بعضهم عن بعض. وهذه الحجّة لحوراني تظهر كم أنه كان متجاهلاً للعنصريّة الغربيّة ضد العرب والمسلمين. وبدلاً من دحض مقولات وأمثلة سعيد، يردّ حوراني بأحاديث شخصانيّة فيعطي مثال المستشرق إجناتس غولدزيهر (المجري الأصل) ليقول إنه عرف المسلمين كبشر (وكيف عرف ذلك؟) وإنه توصّل (حسب يوميّاته) إلى أن الإسلام هو أقرب إلى الحقيقة من اليهوديّة (وهو كان يهوديّاً). وينتقد حوراني فكرة عند بعض المسلمين (برأيه، طبعاً) حول أنه لا يمكن أن يفهم المسلمين إلا هم، لكن هذه لم تكن أبداً فكرة إدوار سعيد. وتحاول غالجر أن تدفع حوراني للاعتراف بعلاقة التاريخ بالقوة والسلطة فيردّ حوراني بالقول إن أقسام الدراسات في الجامعة الغربيّة مستقلّة. كيف تكون مستقلّة وهي تعتمد في التمويل إمّا على الحكومات أو المؤسسات أو شركات النفط أو أثرياء بأجندات سياسيّة؟ عندما ينفق أثرياء صهاينة هنا مثلاً على إنشاء كراسيّ أكاديميّة لدعوة أستاذ زائر من إسرائيل سنويّاً: كيف يكون ذلك غير مرتبط بالسياسة؟ عندما يكون هناك أستاذ متخصّص بشؤون أقليّة صغيرة (يهويّة) في منطقة فيها ملايين العرب والمسلمين يكون هناك ترجيح معرفي وحتى عنصري لفئة على حساب أخرى.

إدوار سعيد، للإنصاف، حذّر من سوء استعمال أو قراءة كتابه لكنه لم يكن مسؤولاً عن ذلك


تأثير حوراني على تأريخ الشرق الأوسط كان كبيراً جداً. هو درَّبَ عدداً كبيراً من الدارسين من مختلف أنحاء العالم (طبعاً، الأكثريّة كانت بحكم التركيبة الطبقيّة لطلاب أوكسفورد، من خلفيّة نخبويّة). أشهد أن حوراني كان شديد الاهتمام بتلاميذه ودراساتهم وهو كان يهتم بحقول الأبحاث الجديدة من طلاب دراسات الشرق الأوسط. وكان يستمع إلى الطلاب ويُسدي بالنصح لهم. لكن كما أن «الجزيرة» كرّست تقليد استضافة ضيوف إسرائيليّين في الإعلام العربي بحجّة المهنيّة (المزيّفة) فإن حوراني طبّع التعامل (العربي-الغربي) مع أكاديميّين إسرائيليّين وصهاينة. حوراني عمل في أكثر من مؤتمر وحلقة مع برنارد لويس ولم يكن ناقداً له بالرغم مما نعرف اليوم عن توجّهات ودوافع استشراق لويس. وقلق حوراني من تأثير كتاب إدوار سعيد «الاستشراق» فاق قلقه من تأثير الاستشراق نفسه على المعرفة الغربيّة وتأثيرها على حروب وسياسات الغرب في العالم العربي. إن مصاحبة استشراق جديد وعريق (أي نسق فؤاد عجمي ونسق برنارد لويس معاً) لحروب أميركا في أفغانستان والعراق وليبيا تعطي شهادة تأكيد لأطروحات سعيد. على العكس، إن سعيد لو كان حيّاً سيكون مندهشاً ربّما لتأثير كتاب «العقل العربي» على أذهان قادة الجيش الأميركي في العراق، كما فضح ذلك سيمور هرش ووصف الكتاب بأنه «إنجيل المحافظين الجدد».
وقد كتب ألبرت حوراني مراجعة تفصيليّة لـ«الاستشراق» في «نيويورك ريفيو اوف بوكس» في آذار 1979. وهناك يجهد حوراني في محاججة سعيد في أمور قد تبدو بديهيّة اليوم للكثير من دارسي ودارسات الشرق الأوسط. هو يرفض—ربما بحكم الدفاع عن المهنة والحقل—التعميم عن الاستشراق وتراه يرفض مقولة سعيد أن «المستشرقين غير مهتمّين وغير قادرين على مناقشة الأفراد (الشرقيّين)». وسعيد على حق لأن حقل الاستشراق يعتمد على التعميم عن ملايين من البشر بحكم سكنهم في بقعة من العالم وانتمائهم إلى عرق أو دين. أي أن التعميم عن المستشرقين أزعج حوراني أكثر من التعميم عن الشرقيّين (العرب والمسلمين). ويرفض حوراني مقولة أن المستشرق يتميّز بـ«انعدام التعاطف مستتراً بالمعرفة الحرفيّة». يقول حوراني إن سعيد بنى «النموذج المثالي للمستشرق». يفضّل حوراني الاعتراف بأنواع مختلفة من الاستشراق لتبرئة الحقل العلمي نفسه.
ويدافع حوراني، طبعاً، عن المستشرق هاملتون غيب، الذي أسّسَ مركز الدراسات الشرق الأوسطيّة في جامعة هارفرد. ولا يمكن التقليل من تأثير غيب على حقل الدراسات هذا. ولغيب كتاب اعتُمدَ لعقود عن الأدب العربي. وقد درستُ في فصل دراسي الأوراق الخاصّة لهاميلتون غيب في هارفرد في أوائل التسعينيّات. والذي لفتني أن الرجل الذي يُظن عنه أنه نأى بنفسه عن السياسات كان يراسل مسؤولين بريطانيّين في شؤون سياسة بريطانيا نحو الشرق الأوسط. وسألتُ الأستاذ محسن مهدي، الذي خلفَ غيب في إدارة مركز الدراسات الشرق أوسطيّة في هارفرد، وقال لي عنه إنه استغرب عندما تعرّف إليه أنه عاجز عن المحادثة باللغة العربيّة خصوصاً أنه كان عضواً في مجمع اللغة العربيّة في القاهرة. لم يكن مهدي معجباً به. يعترف حوراني أن غيب كتب أن «العقل العربي» عاجز عن التفكير العقلاني لكن حوراني يريد منا أن نفصل فكر المستشرق العنصري عن نتاجاته الأكاديميّة. أي أن حوراني يحاجج أن العنصري يستطيع أن يدرس بتجرّد وحياديّة شعوباً يحتقرها.
ويرفض حوراني فكرة أن المستشرقين بصورة عامّة تعاطوا مع الإسلام على أنه شيء نقيض لشيء آخر أو عرضة للمقارنة بأديان أخرى لسبر غوره. لكن أمثلة حوراني ليست ممثّلة للعيّنة (إن في حالة ماسونيون عن الحلّاج أو في حالة لاوست عن ابن تيميّة—لا يذكر حوراني حالة غولدزهر لأن يوميّاته لم تكن قد نُشرت بعد). وسعيد لا يعمّم عن كل المستشرقين (وهو ينوّه بإسهامات ماسينيون بصورة خاصّة) إذا كان غرض حوراني التحذير من مغبّة التعميم. سعيد نفسه، كما يستشهد حوراني به وإن عرضاً، يقدّر «أعمال علماء مخلصين عديدين». يوافق حوراني سعيد على أن العرب والإيرانيّين لا يزالون يعملون في بنية أفكار خلقها علماء غربيّون مع استثناءَيْن وحيديْن بنظر حوراني (خليل انالتشك في حالة التاريخ العثماني وعبدالله العروي عن تاريخ المغرب). ويعترف أن العرب والإيرانيّين غائبون عن الثقافة الغربيّة لكن حوراني لا يفسّر لنا سبب ذلك وإن أوحى أن السبب في غير سياق نقد سعيد.
وقد يستغرب البعض أن تأثير شقيق ألبرت حوراني، سيسيل، يفوق التأثير السياسي لأبرت. سيسيل لم يمتهن الأكاديميا ولم يكمل دراساته العليا. سيسيل، مثل شقيقه، عمل في «المكتب العربي» مع موسى العلمي وهو كان وثيق الصلة بديفيد بن غوريون. أي أن عضويْن في المكتب الذي كان منكباً على صنع دعاية سياسيّة مضادة للدعاية السياسيّة للحركة الصهيونيّة كانا صديقيْن لديفيد بن غوريون. تخيّل، مثلاً، أن يكون المسؤول الإعلامي لـ«المنار» صديقاً حميماً لنتنياهو أو ليبيد. ومثل شقيقه أيضاً، كان سيسيل حوراني واقعاً تحت تأثير شارل مالك. سيسيل عمل مستشاراً خاصاً للحبيب بورقيبة في المرحلة التي كان فيها الأخير يروّج لتقسيم فلسطين، ما جعله منبوذاً بنظر الرأي العام العربي في الستينيّات. وبعد حرب 1967، أفسح غسان تويني صفحات كاملة من «النهار» لنشر الفكر الاستسلامي لسيسيل حوراني في التعاطي مع إسرائيل. (لا يزال سيسيل يعيش بينكم، معمّراً بعد المئة، في مرجعيون). حوراني كان شديد الانتقاد لسليم الحصّ في لبنان لأن الحصّ كان معارضاً لسعد حدّاد وجيش المتعاملين مع إسرائيل. وعندما بدأت إدارة ريغان بالتواصل المباشر مع بشير الجميّل (عندما أرسل ريغان شخصياً رسالة إلى قائد القوّات اللبنانيّة-الإسرائيليّة) اجتمع مستشارو الجميّل برئاسة شارل مالك لتدبيج ردّ مفصّل على رسالة ريغان. لكن مالك عجز عن تدبيج الرسالة وعندها أرسل وراء سيسيل حوراني الذي أصبح من فريق مستشاري الجميّل والكاتب المعتمد لمراسلاته مع الإدارة الأميركيّة. وفي كتاب سيسيل عن سيرته يدافع عن العلاقة بين بعض الجنوبيّين وإسرائيل.
لا شكّ أن دراسة كتب حوراني تظلّ واجبة على دارسي الشرق الأوسط لكن يجب قراءة تلك الكتب والمقالات بعين ناقدة، خصوصاً بعد الاطلاع على سيرة حوراني وتعبيره عن آرائه في فلسطين وعن ديفيد بن غوريون وشارل مالك.

* كاتب عربي - حسابه على تويتر
asadabukhalil@