تقف روسيا أمام مفترق طرق. فإمّا أن تستعيد نفسها وتشقّ مشوارها الخاص في حماية مصالحها القومية وتعزيزها، وإمّا أن تعود إلى تكرار تجربة انهيار الاتحاد السوفياتي على نحوٍ أكثرَ سوريالية. لقد وَجَدَتْ روسيا نفسها أمام تهديدٍ خطير بسبب إصرار العالم الغربي، بقيادة الولايات المتحدة الأميركية، على عدم قبولها شريكاً طبيعياً. فبالرغم من أنّ الكرملين أبدى كلّ حسن النيّات تجاه «عدوّ الماضي»، والمسنودة بخطوات عملية للتقرّب منه، لا بل للتماهي معه، على حساب مصالحها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، حافظ الغرب على اعتبار روسيا عدوّاً، أو عدوّاً محتملاً. غيّرت روسيا نظرتها للغرب، وغيّرت نفسها لتلائمه، لكن هذا الأخير حافظ على جوهر موقفه السابق، فكانت العلاقة أشبه بحبٍ من طرفٍ واحد. قام غورباتشوف ويلتسين بتحطيم الاتحاد السوفياتي، وتحويل جمهورياته، وبالذات روسيّا، إلى ما يُشبه مغارة علي بابا، يغرف منها الغرب ما شاء بمساعدة الأوليغارشيين الذين أثروا وسيطروا على البلاد. وبعد حلِّ حلف وارسو وإعلان نهاية الحرب الباردة، كان من المنطق أن يتبع ذلك حلّ طرف «الحرب» الآخر، المتمثّل بحلف «الناتو». فالأحلاف العسكرية لا تقوم، أو تستمر، إلّا لمجابهة عدوٍّ فعليّ أو محتمل. لكن المنطق السليم بعيدٌ كل البعد عن عقل البيت الأبيض، الذي لا يعرف حدوداً للسيطرة والاستغلال، ولا يعترف بالصداقات، ولا بالعلاقات المتكافئة، ولا بالمصالح المشتركة المتوازنة، والقوة العسكرية هي في صُلب أدواته الرئيسية لتحقيق أهدافه. ولأن الأمر كذلك، لم تكتفِ الولايات المتحدة بالحفاظ على الوضع السابق لـ«الناتو»، بل سعت إلى توسعته باتجاه روسيا، وصولاً إلى مرمى حجرٍ من موسكو. فمن ناحية، كانت تنظر لروسيا كونها منجماً غنيّاً بالثروات الطبيعية، التي لا حصر لها، وسوقاً استهلاكية ضخمة، ومن ناحية أخرى، كانت تتخذ جميع الاحتياطات لمنعها من استعادة سيادتها على هذه الثروات، ومن التنمية الذاتية المستقلة عن الغرب، ومن إمكانية رعاية مصالحها القومية. وبعدما أصبح هذا جليّاً في ذهن ساسة الكرملين، وبعد خفوت الأمل في علاقات الصداقة والمصالح المشتركة، صار توازن العلاقة مع الغرب مطلباً قوميّاً ملحّاً لهم، فكان الخيارُ عسكريّاً.ليست الحربُ موضوعَ المقالة، لذلك أكتفي بالإشارة إلى الآتي:
- الأزمة الروسية الأوكرانية، في جوهرها، صراعٌ على تركيبة النظام الدولي وعلى موقع القوى الكبرى فيه.
- بالرغم من أنّ صوت الصدام العسكري هو الطاغي ظاهريّاً، فإن صدام المصالح الاقتصادية هو لبّ الموضوع.
- الصدام العسكري بين روسيا وأوكرانيا مصلحةٌ أميركية بامتياز، دفعت له الولايات المتحدة لتثبيت هيمنتها على العالم، من خلال قطع الطريق أمام تَفَلُّت روسيا وأوروبا من هذه الهيمنة، وبشكل غير مباشر، الصين أيضّاً.
- كل المساعدات التي تُقدَّم لأوكرانيا، والكرم الحاتمي تجاهها لا تعني اهتماماً بمصالحها؛ فلو كان البيت الأبيض حريصاً على أوكرانيا لاستثمر سابقاً جزءاً بسيطاً، مما يقدّمه الآن، في تنمية هذا البلد اقتصادياً واجتماعياً وسياسياً، ليزدهرَ ويتفوّقَ على النموذج الروسي، وفي تشجيع كييف على تطبيق اتفاق مينسك الذي يراعي حقوق السكان الروس القومية.
- لن ينتهي الصراع بانتهاء المعارك العسكرية، بل سيستمر بوسائل أخرى.

ضرورة بيروسترويكا جديدة
من أهم نقاط ضعف روسيا، التي كشفتها الأزمة الأوكرانية، كانت البنية الاقتصادية الاجتماعية المشوّهة، التي نشأت بسبب البيروسترويكا وتفكيك الاتحاد السوفياتي. ربّما كانت البيروسترويكا لتحديث النظام السوفياتي وبنيته الاقتصادية السياسية ضرورية، لكن ليست على النمط الغورباتشوفي، الذي أثبتت الوقائع أنه كان كارثياً. فقد كان التخطيط الاقتصادي مركزياً في الاتحاد السوفياتي، ومبنياً على أساس تكاملي بين الجمهوريّات، وهذا الأمر يجعل الفصل العشوائي بينها بالغ الخطر ويهدّد الأمن القومي لجميعها. وكان الأسوأ من تفكيك الاتحاد هو تفكيك الأسس الاقتصادية الاجتماعية لكل جمهورية. فنُهِبَت الأصول ودُمِّرَت المصانع والمؤسسات الإنتاجية وجرى الاستيلاء على الثروات الطبيعية لتصبّ مليارات في جيوب حديثي النعمة، وهُرِّبَ معظمها إلى الخارج، وارتبطت مصالح الأثرياء الجدد مع الغرب، وصار الاقتصاد ريعياً ومعتمداً على تصدير المواد الخام واستيراد كل شيءٍ آخر. ولقد أدى هذا إلى خللٍ كبير في البنية الاجتماعية والعقيدة القومية اللتين تشكّلان عاملين رئيسيين في التنمية الذاتية، ورعاية المصلحة العامة، والمناعة لأي مجتمع في مواجهة الاستهدافات الخارجية.
لا شكّ في أن تغييراً كبيراً حصل، في العقدين الماضيين، أدى إلى إصلاح العديد من جوانب الخلل المذكور أعلاه، لكن الأحداث الحالية أثبتت أن التغيير الكمّي لم يؤدّ بعد إلى تغييرٍ نوعي يضمن الأمان لروسيا. وباعتقادي أن توفير هذا الأمان يتطلّب أموراً عديدة، ومن أهمّها:
- إعادة الاعتبار للملكية العامة، وزيادة حصّتها، في القطاعات الاستراتيجية وعلى وجه الخصوص المتعلّقة بالموارد الطبيعية.
من أهمّ نقاط ضعف روسيا، التي كشفتها الأزمة الأوكرانية، كانت البنية الاقتصادية الاجتماعية


- بناء قطاع عام، في العديد من المجالات الصناعية والزراعية والتجارية، وخوض غمار المنافسة الحرّة والنزيهة مع القطاع الخاص على أساس جودة الإنتاج والسعر المناسب.
- توجيه إنتاج القطاع العام نحو تلبية احتياجات السوق الداخلية بالاعتماد على الموارد البشرية والطبيعية المحلية
-استعادة دور الدولة في توجيه التعليم نحو تأمين القاعدة العلمية والتقنية لإنتاج ما تحتاج إليه السوق المحلية، والسعي الدائم للتطوير المتواصل بحيث تصبح هذه المنتجات منافسة لمثيلاتها الأجنبية. والمقصود بهذا، تشكيل قاعدة الأمان الاقتصادية الاجتماعية القادرة على أن تصمد في وجه الأزمات العالمية أوالاستهدافات الخارجية، وتجعل تأثيرها محدوداً.
- مع انهيار الاتحاد السوفياتي انهارت العقيدة السوفياتية الاشتراكية، وحلّت مكانها الليبرالية الغربية المشوّهة اللاغية للذاتية الروسية، فتلاشت العقيدة الحافظة للأمن القومي الاجتماعي والاقتصادي والسياسي للبلد. لذلك، لا بد من عقيدة مميّزة لروسيا قد تكون مزيجاً من الأوراسية والسوفياتية المعدّلة.
- بعكس ما هو معتمدٌ في أيّامنا هذه، حيث يُقاس النمو والتطوّر بأرقام الناتج القومي وحركة السوق، فإن المقياس الحقيقي يكمن في انعكاس ذلك على تحسُّن العلاقات الاجتماعية بين الأفراد، وبين الشعوب والأمم، وبمقدار ما تنحسر الحروب وينتشر السلام، أو بمقدار توفير الغذاء الجيّد للناس كافة، وكذلك مكافحة التلوّث والحفاظ على بيئة نظيفة على الكرة الأرضية.
- وهنا، وبناءً على ما تقدّم، لا بد من تأسيس العلاقة مع الدول الأخرى ليس فقط انطلاقاً من المصالح الاقتصادية المباشرة وإنما أيضاً بناءً على مبادئ الحق والعدل. فإذا كان الغرب الليبرالي المتوحش أظهر عداءه لروسيا والصين، فإنه أيضاً ينهب ثروات الشعوب الضعيفة، ويمارس عليها أبشع أنواع الاستعمار الجديد، وهذا يجعل من الوقوف في مواجهة هذه السياسات الاستغلالية قاسماً مشتركاً لتوحيد الجهود أو التحالف. وبما أن روسيا ترى أنّها بحاجة إلى عالمٍ يضمنُ الأمن لها ويُلغي احتكار الولايات المتحدة لمعايير الشر والخير، ولما يجب أن يكون عليه هذا العالم، وكيف يجب على الدول أن تتصرّف وتبني علاقاتها مع بعضها البعض، وبما أنّ تحقيق ذلك يحتاج إلى شركاء يؤمنون بعالم من هذا النوع، فهي إذاً بحاجة إلى شركاء يحملون نفس القيم والمبادئ. وبخصوص الصراع العربي الصهيوني، على روسيا أن تعي أنّ أمنها القومي يرتبط بنصرة الحق والعدل، وفي مواجهة العدوان أو عدم غض الطرف عنه في أضعف الإيمان. لقد كشف الصراع على أوكرانيا عيوب العلاقة الإسرائيلية الروسية وأضرارها، فهل يقدمُ الكرملين على إصلاحها؟
* كاتب وباحث فلسطيني