من يقوم بعمل تغييريّ سيواجه ردود فعل سلبية كثيرة. هذا ثمن التغيير. على الأقل هذا ما يتبادر إلى ذهني منذ بضعة أسابيع. السبب لم يكن متابعة الانتخابات النيابية اللبنانية و«احتمالات التغيير» التي كانت تعدنا بها وسائل الإعلام. وأيضاً لم يكن الترقّب لرؤية أداء النواب التغيريين، بعد أن أفرزتهم الانتخابات على شكل نسخ مخفّفة من صقور 14 آذار. السبب هو أنّني منذ ما يزيد على شهرين قرأت خبراً عن إصدار فيلم وثائقي بعنوان «إنيو». يروي الفيلم قصة حياة المؤلف الموسيقي الراحل الإيطالي إنيو موريكوني. ولأنني لست ملماً بشؤون السينما العالمية، لا يرتبط اسم موريكوني عندي إلّا بأعمال مواطنه المخرج سيرجيو ليوني. وبالنسبة لي، ليوني رمز تغييري كبير. ثوري إن جاز التعبير.

ثورة طليان في الغرب المتوحش
في منتصف ستينيات القرن الماضي، أحدث ليوني ثورة في السينما الأميركية عبر ثلاثية أفلامه المعروفة بثلاثية «الدولار» أو «الرجل بلا اسم»، والتسمية الثانية هي الأكثر شهرة. وقوبلت الأفلام الثلاثة، «من أجل حفنة من الدولارات» و«من أجل مزيد من الدولارات» و«الجيد، السيء والقبيح»، بعاصفة من ردود الفعل السلبية بين النقاد السينمائيين الأميركيين، وذلك قبل أن تُحدث تأثيراً عارماً غيّر شكل السينما الأميركية. يختلف النقاد حول تعريف بداية عصر أفلام «السباغيتي الغربية» - غربية نسبة لأفلام الغرب الأميركي - ولكنهم يتفقون على أن ما رسّخها في قلب صناعة السينما الأميركية كان هذه الثلاثية. لماذا سباغيتي؟ بكل بساطة لأن فرق عمل هذه الأفلام كانت تتألف من إيطاليين بشكل أساسي، بالأخص في أقسام الإخراج والتصوير والموسيقى التصويرية. هذا اللقب العنصري كان جزءاً من اعتراض الأوساط النقدية والسينمائية الأميركية على دخول الإنتاجات الأوروبية لأفلام الغرب الأميركي (الويسترن) إلى هوليوود. وشمل الاعتراض بالأخص ما أحدثه ليوني وفريق عمله - الإيطالي - من هزة في نمط هذا النوع من الأفلام. هزة سرعان ما وصلت ارتداداتها إلى أنواع أخرى من الأفلام، بالأخص بعد موجة المراجعة النقدية في السبعينيات. موجة أعطت أعمال ليوني حقها الفني، وأسهمت في نشر استحداثاته على وسع خريطة السينما الأميركية. وما استحدثه ليوني بدأ من التصوير السينمائي، ومرّ بالتصوير الواقعي لبيئة الأعمال - كما فعل مع بيئة الغرب الأميركي القذرة - بالإضافة إلى الموسيقى التصويرية، وربما الأهم كان رسم وتقديم الشخصيات في الأفلام الثلاثة.
ويمكن القول إنّ ليوني فعلاً أتقن تركيبته، التي جعلت من الثلاثية غزواً للسينما الأميركية، في آخر أفلام السلسلة «الجيد، السيء والقبيح». يتمحور الفيلم حول ثلاث شخصيات تتقاسم ريادته، وبطبيعة الحال بطل الفيلم هو «الجيد»، أو «الرجل بلا اسم»، وهو أساساً بطل أوّل فيلمين في السلسلة. وما أثار حنق النقاد في البطل الرواقي للفيلم هو أنّه لم يكن كما بقية أبطال نوع «الويسترن»، لم يكن فاضلاً ونقيّاً. لم يكن بطلاً أميركياً حقيقياً. ولم يكن بإمكان المشاهد تمييزه عن خصومه من خلال اللمحة الأولى. «الرجل بلا اسم» لم يكن يبحث عن العدالة أو الحقيقة أو القضايا التي تتخطى حيّز وجوده. بل كان ينطلق من قوانينه الخاصة والمستقلة عمّا هو ميزان مطلق الخير والشر، قوانين تعكس «الشرف» في شخصيته المتمحورة حول غريزة النجاة. وهذا البطل «الجيد» لا يرسو على ضفة الحق إلّا لأنّ الأشرار لا يوالونه. والأشرار هم الذين يكونون أكثر وحشية وجشعاً منه، بما يتخطى الحدود التي يراها هو مناسبة. ففي الحقيقة المحرّك الأوّل لكل أفعال البطل «الجيد» هو الجشع والبحث عن المال.
وفي مقابل «الرجل بلا اسم»، أو «الجيد»، ينصّب ليوني «عيني الملاك»، أو «السيء»، شريراً رسمياً للفيلم. فـ«السيء» هو نظير «الجيد» ولكنّه أكثر قتامة، فشخصيته لا تقل جاذبية وكاريزما عن شخصية «الجيد»، ولا يقل عنه جشعاً ولكنه يفوقه خطورة. وما يجعل «الجيد» يتفوق عليه هو قانون «الشرف» آنف الذكر. لذا فإنّ «السيء» قاس وخائن، يمارس العنف بما يفوق ما يمكن أن يتحمله «الجيد»، ولا يتوانى عن ارتكاب أي موبقة للوصول إلى هدفه.
وتقع شخصية «القبيح» ما بين «الجيد» و«السيء»، في عالم ليوني الذي هز صورة الغرب الأميركي الذي كانت تسوده عدالة جون وين. ولكن «توكو»، «القبيح»، ليس قبيح الشكل كما يشي عنوان الفيلم. فهو كما «الجيد» و«السيء»، يتحرّك بدافع الجشع ولا يقل عنهما وحشية، ولكنه قبيح لأن جشعه يتفوّق على جشعهما، حتى وإن أعطى ليوني للمشاهد كل الأدوات للتعاطف معه. «فالقبيح»، المكسيكي في وسط البيض، عاش طفولة سيئة، ويلمّح ليوني في أكثر من مفصل في الفيلم بأنّ جشعه إنّما فرضه خوفه من الجوع الذي عاشه في مختلف مراحل حياته.

في ميزان واقع شرقي
ولكن كلما تذكّرت «الرجل بلا اسم»، شعرت بالأسى. والشعور بالأسى هو على كلّ لبنانيّ يظنّ أنّ موقعه من ممارسة السياسة كموقع ليوني من صناعة أفلامه بتركيبته المتقنة. هؤلاء اللبنانيون الذين يظنون أنّه بذهابهم إلى صندوق الاقتراع هم قادرون على إحداث تغيير في اتجاهات المسارات التي سيسلكها البلد. علماً أن الانتخابات ما هي إلّا أكثر أشكال الممارسة السياسية سطحية، بالأخص في بلد لا يمكن فهم ممارسة السياسة فيه من دون فهم الطوائف وعلاقاتها بالاقتصاد السياسي. وعندما نتحدّث عن الطوائف يجب أن يكون الحديث عنها ككيانات اجتماعية ذات طابع ديني، وليس كفرق دينية تتمدّد اجتماعياً بقوة عصبية عبادية أو ما ورائية. وأمّا الاقتصاد السياسي، في حيّز الممارسة السياسية، لا يجب أن يكون بعض الكلام الإنشائي الذي يتحدّث عن دورات الإنتاج والمصارف. بل يجب أن نقارب الاقتصاد السياسي من بوابة المنظومة التي أرساها، أي الشبكة العنكبوتية التي تربط الطوائف بالاقتصاد ودورات رأس المال ومصادره الخارجية.
وهذه الشبكة العنكبوتية، أي منظومة الاقتصاد السياسي اللبناني، هي آلية التغيير في البلاد. ومن يريد أن يحدث تغييراً حقيقياً في لبنان عليه أن يمتلك أغلب مفاتيح هذه المنظومة، أو على الأقل أن يظن ذلك. بمعنى آخر ليوني هذا الفيلم اللبناني لن يكون مجموعة لبنانيين يتوجهون إلى مراكز الاقتراع ملؤهم القناعة بالتغيير، ولن يكون مجموعة من النواب ممّن دخلوا حديثاً الندوة البرلمانية بعناوين براقة تغييرية.
هذه الدول لا ترى اللبنانيين إلّا كما تفهم المنظومة. فهي تراهم أبناء طوائف، وتصنّفهم على مقاييس مختلفة، تتنوّع تبعاً لانتماءاتهم الطائفية


قد تطمح الولايات المتحدة إلى تغيير الواقع، وربما معها بعض الدول الخليجية، بما أنّها تملك الكثير من مفاتيح المنظومة. وهذه الدول لا ترى اللبنانيين إلّا كما تفهم المنظومة. فهي تراهم أبناء طوائف، وتصنّفهم على مقاييس مختلفة، تتنوّع تبعاً لانتماءاتهم الطائفية. وتحاسبهم كذلك بأدوات وشدة مختلفتيْن، أيضاً باختلاف طوائفهم. وبهذا المعنى، تلعب هذه الدول دور ليوني التغييري، ضمن تركيباتها التي تحاول إتقانها في الساحة اللبنانية. وتمارس هذا الواقع أو الدور على كل الطوائف اللبنانية، ولكن يمكن ملاحظته بوضوح شديد من خلال تتبع تعامل هذه الدول مع المنتمين للطائفة الشيعية - بما هي كيان اجتماعي يسير في مشروع سياسي متناقض مع مسار مشروع الولايات المتحدة وحلفائها في المنطقة. بكلام مبسّط، تموضعت الطائفة، بأغلبية المنتمين لها، خلف المقاومة.
والفرد المنتمي لهذه الجماعة أو الكيان الاجتماعي، سيجد نفسه موضع تصنيف دائم، تصل تبعاته - من ثواب وعقاب - إلى كل زوايا الحياة، داخل وخارج لبنان. والتبعات قد تكون مرتبطة بوظيفة أو مصدر دخل أو مسار مهني، أو مرتبطة بتأشيرات دخول أو عمل خارج لبنان، وقد تصل إلى السجن الظالم وربما ما هو أسوأ من ذلك. وكما صنع ليوني بطلاً «جيداً»، هناك «الشيعي الجيّد» في عرف الولايات المتحدة وحلفائها. وعلى «الشيعي الجيد» أن يتبرأ من المقاومة في ممارسته السياسية بكل أشكالها. سواء في نقاش سياسي على وسائل التواصل الاجتماعي، أو عبر التصويت في الانتخابات، أو في الممارسات الأكثر تعقيداً مثل الانتماء الحزبي والانخراط في النشاطات التنظيمية. وفي عرف المصنّفين المحرّك الأساسي لاصطفاف «الشيعي الجيد» هو غريزة البقاء والجشع، مثل «الجيد» في فيلم ليوني. فهو يفهم تعقيدات العلاقة بين الطوائف ودورة رأس المال، لذا موقفه من موالاة الولايات المتحدة وحلفائها غير مرتبط بالقناعات والقيم. وممثلو هذه الدول ورأس مالها يتعاملون معه بناءً على هذه القراءة. لذا قد يكون ثوابه أن يغدقوا عليه المال أو أن يدفعوا مساره المهنيّ قدماً أو مجرد أن يحصل على تأشيرة تدخله هذا البلد أو ذاك.
أمّا «الشيعي السيء» فهو ذاك الممارس للسياسة مجاهراً بتأييده للمقاومة. هو نظير لـ«الشيعي الجيد» بجشعه، ولكنه شرير بسبب خيانته السياسية لمصادر رأس المال ودورته التي عاش من خلالها سنوات من الرفاهية النسبية. وهذا يستحق العقاب، وهو قد فهم خلال العقد الماضي أن لا مكان له في عالم الولايات المتحدة. وهو - ومعه كل منظومته القيميّة - يتعرّض لمحاولات الطرد المستمرة من هذا العالم. وهناك «الشيعي القبيح»، وهذا هو الذي يخفي ميوله السياسية، ولا يمارس السياسة، جهاراً على الأقل. وهذا، كما «قبيح» ليوني، أكثر جشعاً من نظيريه السيء والجيد بعرف المصنّفين. وذلك لأن جشعه يدفعه إلى إخفاء ميوله السياسية، ولن تشفع له كل الظروف التي يمكن أن تُساق لتبرير موقفه هذا. لذا قد يواجه عقاب «الشيعي السيء» أو القليل القليل من ثواب «الشيعي الجيد».
هذه التصنيفات ليست حكراً على طائفة واحدة. فلكل طائفة مقاييسها الخاصة في التصنيف وفي توزيع أحكام الثواب والعقاب المناسبة. ولكن الأكيد أن من يُصنّف ليس بقادر على التغيير، هو مجرد شخصية في فيلم مخرج ما، وفي أفضل الأحوال هو «رجل بلا اسم» أو بطل بلا اسم. في عالم الولايات المتحدة المرء إمّا من النوع الجيد أو السيء أو القبيح. في المشهد الأخير من فيلم «الجيد، السيء والقبيح»، يحصل «الجيد» على ما يريده من الكنز، بعد أن كان قد قتل «السيء»، بينما يقف «القبيح» على شاهد قبر وعلى رقبته حبل مشنقة محاولاً موازنة نفسه حتى لا يقع ويُشنق، وأمامه حصته من الكنز بانتظار أن ينقذه «الجيد» أو يتركه ليموت.
* كاتب لبناني