سارع البيت الأبيض، بعد كلام بايدن في طوكيو، إلى التعقيب عليه، لنفي ما تضمنه من قطيعة مع المقاربة الرسمية السابقة حيال تايوان، والتأكيد على تمسك واشنطن بسياسة «صين واحدة». لن تنجح جهود التأويل التي يبذلها موظفوه في إقناع القادة الصينيين بأن ما جرى هو مجرد هفوة من الرئيس الأميركي لأن «هفواته» السابقة تجاه روسيا ورئيسها، عندما وصف بوتين بالقاتل أوّل العام الماضي، وبمجرم الحرب الذي ينبغي إزاحته عن السلطة منذ أكثر من شهر، رغم التوضيحات التي تلتها من البيت الأبيض، اتضح أنها سياسة الولايات المتحدة الفعلية. بيان الخارجية الصينية، الذي توعد واشنطن بأنها «ستدفع ثمناً لا يطاق إذا واصلت السير في الطريق الخطأ بشأن تايوان»، وبأنها «أخلت بالوعود وحرضت سرّاً وعلناً ودعمت الأنشطة الانفصالية فيها»، عكس قناعات هذه القيادة. تزامن هذا البيان مع دورية مشتركة لقاذفات روسية وصينية فوق بحر اليابان وبحر الصين الشرقي، هي بمثابة رسالة لا تحمل الالتباس لمن يهمّه الأمر في واشنطن.
«حكماء» المؤسسة السياسية ــ العسكرية الأميركية، وآخرهم هنري كيسنجر، لم يكلوا من تكرار تحذيراتهم من مغبة الصدام مع العملاقين في الآن نفسه، من دون أن يلقوا آذاناً صاغية
«حكماء» المؤسسة السياسية-العسكرية الأميركية، وآخرهم هنري كيسنجر في منتدى دافوس المنعقد حالياً، لم يكلوا من تكرار تحذيراتهم من مغبة الصدام مع العملاقين الصيني والروسي في الآن نفسه، من دون أن يلقوا آذاناً صاغية. يرى ويليام أستور، الضابط المتقاعد في سلاح الجو الأميركي وأستاذ التاريخ، في مقال على موقع «توم ديسباتش»، أن الولايات المتحدة لا تستطيع أن تتخلص مما يسميه «إدمانها على الحرب» لأسباب مرتبطة بموقع المجمع الصناعي-العسكري المركزي في بنية السلطة فيها، وارتباط قطاع عظيم من نخبها السياسية به. يقول أستور إن «الحرب استثمار يحقق أرباحاً هائلة، مع أن الكثير من الأميركيين لا يعون ذلك… عندما تحلل سياسة الحرب الشاملة، ينبغي النظر إلى بنية الجيش الأميركي ومهامه. هل يعقل أن تعود هذه البلاد إلى سياسة انعزالية مع امتلاكها لـ750 قاعدة عسكرية منتشرة في جميع القارات؟ كيف لن تسعى لشن الحروب عندما تعرف مهمة قواتها العسكرية على أنها تأمين السيطرة الشاملة في جميع ميادين المعركة براً وبحراً وجواً وفضاء وكذلك في الفضاء السيبراني؟ ماذا تتوقعون عندما تكون ميزانيتها العسكرية مساوية لميزانية الـ11 دولة التي تليها في تراتبية القوة العسكرية مجتمعة، وعندما يقوم البنتاغون بتقسيم مختلف أنحاء العالم إلى مناطق خاضعة لقيادة غرف عسكرية أميركية بإشراف جنرالاته، كما درجت عليه الحال في زمن الإمبراطورية الرومانية؟ كيف لا تريدون في مثل هذه الظروف ألا يؤمن المسؤولون في هذه البلاد بأن مصلحتها تكمن في الحرب في كل مكان؟». وما يزيد من جموح الإمبراطورية العسكرية هو يقين نخبها الحاكمة بالتراجع المستمر والمتسارع لهيمنتها وقدرتها على السيطرة، والصعود الصاروخي لقوة منافسة في جميع المجالات كالصين، أو في الميادين السياسية والعسكرية كروسيا. تسعير الصراع معهما، والدفع نحو الاستقطاب على صعيد دولي بين معسكرين، بخاصة بعد أن رأت نزوعاً لدى غالبية دول الجنوب للنأي بالنفس حيال الحرب الأوكرانية، هما بين السبل التي تعتمدها لمحاولة الحد من تراجع موقعها المهيمن وتثبيته مجدداً.
قد يكون تسارع مسار تفكك العولمة بين المفاعيل الرئيسية لاستراتيجية الاستقطاب وتسعير الصراعات المتبعة من قبل الإدارة الأميركية. فما تتطلبه هذه الاستراتيجية من فسخ للشراكات في المجالات الاقتصادية والمالية، وفي ميدان الطاقة، بين الغرب وبين روسيا، وعلى الأغلب في المستقبل القريب مع الصين، نتيجة للارتفاع التدريجي، ولكن المستمر، لحدة التوترات معها، سيفضي إلى إعادة صياغة العلاقات الاقتصادية الدولية والشراكات وحركة المبادلات. ستطغى الاعتبارات الاستراتيجية لدى أفرقاء الصراع على ما عداها. ومن النافل قوله إن التظاهرات الاستعراضية التي راجت في زمن العولمة السعيدة، كمنتدى دافوس، قد فقدت جاذبيتها اليوم. من يقارن بين الخطاب الحماسي للرئيس الصيني في هذا المنتدى منذ 5 سنوات، وبين ضعف مشاركة بلاده في ذلك المنعقد حالياً، يدرك عمق القطيعة التي شهدها العالم. عندما كان مرشحاً رئاسياً، وعد جو بايدن الأميركيين، بأنه، في حال فوزه، سيعتمد سياسة خارجية تخدم مصالح الطبقات الوسطى في بلاده. شرح كيفية خدمة سياسته الحالية لهذا الهدف ستكون مهمة بالغة الصعوبة.
* كاتب من أسرة «الأخبار»