يوثّق كتاب «جواسيس بلا وطن»، لماتي فريدمان، مراسل «أسوشييتد برس» السّابق في الشرق الأوسط، تاريخ أوّل جواسيس إسرائيل، وكانوا يهوداً من ذوي أصول عربية ضمن القسم العربي في «البلماح» (سرايا الصاعقة) ــــ وكانت القوة العسكرية النظامية لمنظمة «الهاغاناه» الإسرائيلية في فلسطين منذ عام 1941 حتى عام 1948 وتحوّلت إلى الجيش الإسرائيلي.جنّدت وحدة «البلماح» اليهود الوافدين إلى أرض فلسطين كجزء من الجيش السرّي الخاص بها، وداخل هذا الجيش كان يوجد «القسم العربي»، يُشار إليه أحياناً باسم «القسم الأسود»، بسبب الاختلاف في لون بشرتهم، وكان القسم يضم يهوداً من العالم الإسلامي. يركّز فريدمان على صراعات إسرائيل المبكرة مع العرب بقدر ما يركز على مشكلات إسرائيل الداخلية بين مكوناتها الاستيطانية، فيتوقّف أمام رواية اليهود الأوائل الذين احتلوا الأرض الفلسطينية بوصف أنفسهم أسطوريّين أتوا من أوروبا وعملوا في الكيبوتسات. وتجاهل المُحتلون الأوائل أو رفضوا إلى حد كبير مساهمات يهود العالم العربي.
وضع شوشان والآخرون خطة لاغتيال رئيس الوزراء اللبناني رياض الصُلح

يُشير فريدمان إلى مقال نُشر في نيسان 1949 في صحيفة «هآرتس»، يصف فيه الصحافي أرييه غيلبلوم، الذي عمل مراسلاً في أحد المعسكرات التي تؤوي يهوداً يتحدّثون العربية من شمال أفريقيا، بأنّ يهود العالم العربي لديهم «غرائز بدائية وحشية» و«ليس لديهم القدرة على فهم أي شيء فكري، ومستوى ذكائهم أدنى حتى من مستوى العرب الفلسطينيّين». لذا، فالحركة الصهيونية لم تكن تعرف ماذا تفعل بهم فتجاهلتهم ودفعتهم جانباً. لكنّ الكتاب يُجادل بعدم دقة هذا الحُكم المطلق بالتجاهل وتهميش دور اليهود العرب في عملية الاحتلال والاستيطان الإسرائيلي.
يُقدّم الكتاب تجربة أربعة جواسيس هم: إسحاق شوشان، وغمليل كوهين، وهافاكوك كوهين، وياكوبا كوهين، وهم يهود شرقيون (مزراحيم)، جاؤوا مِن المجتمعات الإسلامية ويتحدّثون العربية ولديهم نوع مختلف من اليهودية. وكان غمليل كوهين، من دمشق، أوّل عميل يُرسل إلى الخارج ويصبح صاحب متجر في بيروت. وياكوبا كوهين، الوحيد من بين الأربعة الذي وُلد في القدس، وهافاكوك كوهين، من اليمن، في عمر الـ24. وأخيراً، إسحاق شوشان، المعروف بلقب «أبو ساحيق»، الذي عمل محقّقاً سرياً في لبنان وسوريا والأردن.
بعد وقت قصير من النكبة الفلسطينية عام 1948، أقامت مجموعة صغيرة من الجواسيس اليهود متجراً (كشك) في بيروت كجزء من أوّل محطة استخبارات في دولة عربية. بالنسبة للمواطنين اللبنانيّين، لا يمكن أن يُثير الشكوك رجال داخل كُشك بجوار مدرسة يبيعون كلّ صباح أقلام الرصاص والحلوى والسندويشات. وبنفس القدر من الأهمية، إن لم يكن أكثر من ذلك، بدا أصحاب المتجر/ الجواسيس اليهود وكأنهم يشبهون زبائنهم تماماً، وكثير منهم مرتبطون بالحكومة أو الجيش. هؤلاء اليهود أتوا من العالم العربي - سوريا أو اليمن - وكعملاء إسرائيليين درسوا العالمين الإسلامي والمسيحي حتى يتمكنوا من الاندماج والحصول على المعلومات.
كان لدى الجواسيس اليهود جهاز إرسال على هيئة خط غسيل للتواصل السري مع قادتهم. وكان غطاؤهم مثالياً لعمليات الاستطلاع؛ حيث كان لديهم آذانهم على الأرض وتمكنوا من إنشاء شبكة قوية من خلال البقاء على مقربة من السكان المحليّين العرب. حتى إنهم تمكّنوا من تنفيذ مهام سرية داخل بيروت أبرزها تفجير يخت هتلر الذي كان مُقرّراً تسليمه للملك فاروق في مصر.
كان لأجهزة الاستخبارات الصهيونية موارد بشرية مكّنتهم مِن أن ينتحلوا أي شخصية: بولندي، ألماني، عربي – لأن اليهود كان لديهم هذه الهويات المزدوجة. وهذا ما يجعلهم جواسيس جيدين ويفسّر أحد عوامل نجاح المخابرات الإسرائيلية. لكن المنتمين مِن اليهود الشرقيين رفضوا مُسمى عملاء أو جواسيس، وبدلاً من ذلك، اختاروا كلمة «مستعريفيم» باللغة العبرية، أو «مستعربين» بالعربية، وتعني «هؤلاء الذين يصبحون مثل العرب». وكلمة «مستعربين» متجذرة في حياة اليهود في الدول العربية. في حلب، على سبيل المثال، هناك مجتمعان يهوديان، واحد يطلق عليه السفارديم، اليهود الذين طُردوا من إسبانيا في 1492، والثاني كان مُستقراً في حلب، ويتحدثون اللغة العربية وينتمون لثقافتها، عُرفوا بـ«المستعربين».
تلقّنت المجموعة اليهودية العربية تدريبات استخباراتية تضمّنت اتصالات سرية وتكتيكات الكوماندوز واستخدام المتفجرات ودراسة مكثفة للإسلام والعادات العربية حتى يُتاح لهم العيش كعرب دون إثارة الشكوك. ويُشير ماتي فريدمان إلى لقائه مع إسحاق شوشان في منزله في تل أبيب، حيث عمل شوشان في الفترة بين عامَي 1948 و1950 تحت اسم عبد الكريم محمد صدقي، جنباً إلى جنب مع عناصر يهود سريّين آخرين في لبنان وسوريا والأردن، وشارك في إنشاء بنية تحتية لجهاز المخابرات الإسرائيلي في الدول العربية، وعندما عاد إلى إسرائيل جُنّد في صفوف الجيش الإسرائيلي.
يريد فريدمان تقديم فهم للتركيبة السكانية لدولة الاحتلال، والتي قد تغيّرت بشكل كبير بمرور الوقت


عام 1948، طُلب من إسحاق شوشان المساعدة في اغتيال الزعيم الفلسطيني الشيخ نمر الخطيب، مُساعد مفتي القدس، الشيخ أمين الحسيني، خلال طريقه إلى فلسطين من لبنان. بعد ذلك بوقت قصير، أُرسل شوشان وعضو آخر من الفصيلة العربية إلى مرآب في حيفا، لتفجير سيارة مفخخة. ما أسفر عن مقتل خمسة أشخاص على الأقل وإصابة آخرين. وقبل عودته مِن بيروت إلى فلسطين المحتلة التقى شوشان بأقارب القتلى في تفجير مرآب حيفا، وتحدثوا معه بحرية معتقدين أنه فلسطيني. كما وضع شوشان والآخرون خطة لاغتيال رئيس الوزراء اللبناني رياض الصُلح، لكن العملية أُلغيت من القادة الإسرائيليين. وقد أجرت إسرائيل مفاوضات سرية للغاية مع رئيس الوزراء اللبناني رياض الصلح في باريس عام 1948. وبينما كانت هذه المحادثات جارية، اتخذ رئيس الوزراء الإسرائيلي ديفيد بن غوريون قراراً باغتيال الصلح. وفي الحقيقة إن قرار إسرائيل باغتيال رئيس الوزراء اللبناني، في الوقت الذي كانت تجري فيه مفاوضات معه، طرحت عدة تساؤلات، تناولها الأستاذ الجامعي الفلسطيني محمود محارب في دراسته بعنوان: «المفاوضات السرية بين إسرائيل ورئيس وزراء لبنان رياض الصلح»، وهي: لماذا قرّرت إسرائيل تصفية الصلح؟ ما هي الدوافع وراء هذا القرار الخطير؟ وما هي الأهداف التي سعت إسرائيل إلى تحقيقها من الاغتيال؟ للإجابة على هذه الأسئلة، يجب أن نأخذ في الحسبان عدداً من الحقائق المتعلّقة باستراتيجية إسرائيل في عهد بن غوريون على الجبهة اللبنانية خلال حرب 1948، وطموح بن غوريون في إبقاء المنطقة اللبنانية محتلة من قبل الجيش الإسرائيلي خلال عملية حيرام، تحسباً لضمها رسمياً إلى إسرائيل. أدرك بن غوريون أنّ رياض الصلح كان المحفّز الرئيسي للضغوط الدولية الأنكلو ــ أميركية ضد توسع إسرائيل في الأراضي اللبنانية المحتلة، وكان بن غوريون على علم بأنشطة الصلح من التقارير التي تلقّاها، وخاصة من إلياهو ساسون، بما في ذلك جهود الصلح لتوقيع معاهدة مع بريطانيا العظمى. حيث علم إلياهو ساسون، في 11 تشرين الأول 1948، من مصادر لبنانية في باريس، أنّ رياض الصلح ناقش احتلال إسرائيل للأراضي اللبنانية مع الوفد البريطاني لدى الأمم المتحدة في باريس. وبحسب المعلومات التي تلقّاها ساسون ونقلها إلى بن غوريون، وعدت بريطانيا لبنان بمساعدة عسكرية إذا احتلت إسرائيل أراض لبنانية جديدة. وفي مثل هذا الاحتمال، وعندما تطلب الحكومة اللبنانية المساعدة من بريطانيا العظمى، ستظهر السفن الحربية البريطانية في غضون خمس ساعات أمام بيروت وصيدا؛ في وقت واحد، وسيهبط سلاح الجو الملكي البريطاني بطائرات في مطارات لبنان.
قرار بن غوريون اغتيال رياض الصلح، وبالنظر إلى المعلومات المتوفرة عن الساحة اللبنانية والإقليمية والدولية كما يقدمها محارب، يُشير إلى أن الصلح، في منعطف تاريخي حاسم، شكّل حاجزاً أمام سياسة بن غوريون الساعية إلى الإبقاء على الأراضي اللبنانية المحتلة، بل وضمّها. يكشف غملئيل كوهين في كتابه «المستعربون الأوائل»، أنّ القيادة في إسرائيل استمرت في رغبتها لتصفية الصلح حتى عام 1949، ولكن الموارد والقدرة على اغتياله لم تتماش مع توقعات القيادة في إسرائيل، حيث فشلت مهمة وضع لغم في جثة كلب ميت على طريق مركبة الصلح، إذ كان الأخير غير ثابت المواعيد ويخضع لحراسة مُشددة. لتأتي أوامر في ما بعد بتأجيل العملية لمنع حدوث توترات لبنانية – إسرائيلية، ثم تم إصدار أمر نهائي بإلغائها عام 1949.
عام 1966، انتُدب شوشان إلى «الموساد» (جهاز المخابرات الإسرائيلية)، وخدم في قسم العمليات الخاصة، وساهم في تأسيس برنامج يهدف لدمج الجواسيس اليهود مع العرب عبر إنشاء وحدة تجسّس خاصة لجمع المعلومات الاستخباراتية مِن قلب الدول العربية. وكان من بين أعضاء تلك الوحدة الاستخباراتية، بنيامين نتنياهو، رئيس الوزراء السابق، ورئيس الوزراء الأسبق ووزير الدفاع إيهود باراك.
مثل معظم المكتوب عن إسرائيل وفلسطين فإن كتاب «جواسيس بلا دولة» يبدو مثل أعمال القداسة، أو بدقة عملاً آخر يضفي طابعاً مثالياً على تاريخ الجيش الإسرائيلي وجهاز المخابرات. حيث يريد فريدمان تقديم فهم للتركيبة السكانية لدولة الاحتلال، والتي قد تغيّرت بشكل كبير بمرور الوقت. إذ يُشير إلى أنّ حوالى نصف السكان اليهود لهم «جذور في العالم الإسلامي». وفي روايته، لم يرَ قادة إسرائيل الأوائل أو يقدروا المدّ المتصاعد مِن هؤلاء الرجال مثل الجواسيس الذين ظهروا في سرده التاريخي.
عاش اليهود لقرون، وبسلام تام، في العالم الإسلامي، من شمال أفريقيا إلى العراق. لكن عندما تأسّست إسرائيل، فرّوا بشكل جماعي لها، في كثير من الأحيان، كما يلاحظ فريدمان، بمساعدة «وكلاء الهجرة السريّين» الذين يرعونهم على متن السفن أو الطائرات. وفي معسكرات الهجرة الإسرائيلية أُغرقت أو قُتلت أصواتهم العربية عبر لغة اليديش لليهود الآخرين. ساعد اليهود العرب في بناء دولة الاحتلال على أراضي العرب الآخرين وأصبحوا الآن يؤثرون بشكل كبير على الثقافة الإسرائيلية.
* كاتب مصري