لا نبتغي في هذا المقال الإحاطة بكل الأسئلة التي تراود البعض، فضلاً عن الإجابة عليها، بقدر ما نبتغي إثارة الاهتمام وتوسعة الرؤية حين النظر إلى هذه القضية والأطروحة، وتأكيد مقاربتها بتؤدة وعقل علمي متحرّر، لما تختزنه من أبعاد وترتبط به من حيثيات. ندّعي أنّ أطروحة «شعب، جيش ومقاومة»، التي نتناولها، تأتي كاستجابة لتحدّ وحاجة: الحاجة إلى مواجهة التهديد الذي أصاب الدول والمجتمعات في أمنها وأمانها وحرية قرارها وهويتها الناتج عن طبيعة شبكة السيطرة والهيمنة الدولية القائمة وتعقّدها ومفارقاتها. وتتميز الأطروحة بأنّها ليست أيّما استجابة، إنّما استجابة تنطلق من مقاربة «جوانية»؛ أي مقاربة تبدأ من الداخل فتنشد الإيمان بالذات الجماعية واكتشافها بخطاب إنساني واستكشاف مسار تحرير إرادات الشعوب وتطوير دورها الوطني العام وتحفيزه كما تجذير معنى الانتماء إلى الوطن وتعزيز مكانته. وتنتهج منهج تجنّب الصدامات العدمية بين المكوّنات الداخلية لصالح إنتاج محور قضايا وقيم وبثّها في المجتمع لإحيائه. ولذلك، فإنّ الدفاع والأمن بالمعنى الفيزيائي المادي هما إحدى طبقاتها الأولى وأبعادها بلحاظ طبيعة مرحلة الهيمنة القائمة ومجالاتها.
(هيثم الموسوي)

في التتبع التاريخي، نقول إنّه، ومنذ ظهور نموذج المجتمع السياسي، أي الدولة، كظاهرة عبّرت عن وعي وإدراك متقدّم وتحوّل نوعي عند الجماعة/ ات، لم يختلف اثنان على أنّ الدولة هي من تحتكر القوة والقهر كأصل ومبدأ عام. لكنّ السؤال المطروح هو: هل أنّ هذا الإجماع على احتكار القهر قام بمعزل عن توافر شروط أخرى ترتبط بالكيان السياسي أو بالظروف والتحدّيات المحيطة، أم أنّه ترافق مع أو سبق لشرائط ومبانٍ فكرية واجتماعية وسياسية كانت ضرورية لاعتماده وتطبيقه؟ بحسب ما تؤكّد النظرية، فإنّ احتكار الدولة للقهر سبقه حالة الاجتماع-السياسي وقيام الكينونة ووجود شرعية متفق عليها ومرجعية عليا ناظمة تجتمع عليها الإرادة العامة وتنطلق منها. نحن لا نتحدّث عن نظرية بغياب الكينونة والمرجعية الناظمة له ـــــ بغضّ النظر عن ماهيتها ـــــ والتجسيد العملي للسيادة وغياب المفهوم المحدّد للأمن القومي للكيان. وهل كانت كيفيات الهيمنة وتعقيداتها ــــــ كالتي نعيشها اليوم خصوصاً في منطقتنا حيث وصل الخيال السياسي عند منظومة الهيمنة لإنتاج تجربة حلولية (إسرائيل) قامت بزرعها عنوة وقسراً في قلب منطقتنا ورعتها وغذّتها وحمتها للعب دور وظيفي ــــــ تفضي للقضاء على أي طموح بالتمايز عن أجندة المهيمن وما يريده الغرب. وهل طبيعة تلكم المجتمعات وقيمها حينها تتطابق مع ما نحن نعيشه من خصائص وقيم، كون القيم السياسية والاجتماعية والثقافية هي الحاضن لأي صيغة نظام أو تصور سياسي.
ولو فرضاً أتينا بالمنظّرين السابقين إلى واقعنا الحالي وظروفنا التي نعيشها في الإقليم وفي لبنان وسألناهم عن النظرية الأسلم للتحصين والحماية وتحقيق الأمن والسلم وتحرير الإرادة كمقدمة للنهوض والازدهار وتحقيق التنمية في بلداننا، هل كانوا سيقدّمون لنا ذات المقاربة والمنطق بحرفيته أم ربّما يسعون لتقديم تنظير آخر على ضوء مجمل التغيّرات والتحولات؟ وهل كانوا سيضيفون بالقول إنّ للبنان خصوصياته كما لأي بلد خصوصياته؛ فهل يمكن أن نبحث عن خصوصية لبنان في أيّة مقاربة سياسية سيادية تشبه لبنان فحسب ولا تكون إسقاطاً لأي تجربة خارجية عليه أو تطبيقاً حرفياً لنصوص ونظريات غافلين السياقات والثقافة والبيئات ونوعية التحديات. فلو ضربنا مثلاً لطبيعة الهيمنة ودرجة تعقيدها وتراكبها اليوم، لسألنا هل النظام الدولي القائم ومؤسساته وقيمه خارج منظومة الهيمنة أم هو أداة لها؟
هل الحوار المزمع والمدّعى بين قوى الهيمنة – يسمّون أنفسهم المجتمع الدولي – وبقية الدول في عالمنا هو حوار ندّي؟ هل هو حوار متناظر أم أنّ شبكة الهيمنة غالباً ما أنتجت ممثلي دولنا فاستودعتهم لخدمة مشاريعها وأجندتها بمواجهة شعوبهم؟ هل المؤسسات التي ورثتها دولنا منذ سايكس بيكو يراد لها أن تحقّق ازدهار دولنا ومجتمعاتنا واستقلال قرارها أم أنّ غالبها مؤسسات مفخّخة ذاتاً أو تعاني من تغلغل الخارج بما يكبّل قرارها ويحول دون تأدية دورها؟ هل الدولة اليوم تحتكر قهر سلطة المال والاقتصاد حيث تتربّع هيمنة السوق على مناحي الحياة مهدّدة الأمن والاستقرار والسيادة والهوية حتّى في أعرق الديموقراطيات. ماذا عن التهديد المغفل لسلطة الطبقة الاجتماعية والتبعية التي تخلّفها حيث برهنت كبرى الكتب والدراسات والوقائع أنّها تجاوزت سلطة السوق مع كل ما يكرّسه السوق من تبعية وتغيّر ماهوي في طبيعة أطراف العقد الاجتماعي. هل طبيعة السياسات الدولية ونوعية الاستراتيجيات المعتمدة من قوى الهيمنة تميّز بين ما هو داخلي وما هو خارجي بحيث يمكننا استمرار العمل بالآليات والمنهجيات القديمة أو الكلاسيكية دون تجديدها؟ كيف والحال أننا في بيئة دولية متحولة وفي نظام إقليمي انتهت صلاحيته وأفلس وتحديات وتهديدات من النوع الوجودي كما شهدت على ذلك وقائع القرن المنصرم ولا تزال.
تتميّز الأطروحة بأنّها ليست أيّما استجابة، إنّما استجابة تنطلق من مقاربة «جوانية»


طبيعة التحولات تفرض تغييراً في المقاربة بحيث يتّجه المجتمع وقواه من جديد لإبداع علاقة أكثر جِدة ونضجاً وتأثيراً تمكّنه من النهوض بالدولة وقضاياها واجتراح شراكات لصالح المجتمع الكلي بعدما غدت السلطة تنوء بأعباء السياسة وتحدّيات عالم اليوم المعقّدة وترهّل المفاهيم القديمة وتلاشي شرعياتها (الأحزاب الكلاسيكية، الديموقراطية الليبرالية، الرأسمالية، القوة والسلطة وحدودهما، إدارة المجتمعات، إلخ)، وبعدما أحدثته التحولات الفكرية من تغيّرات أصابت إدراك الفرد لذاته وكنوعية انتظاراته، ما يفتح نقاشاً واسعاً في وظيفة المجتمع والرؤى الممكنة لتطوّر دوره.
هل المؤسسات في دولنا كفيلة بتحقيق أمن وسلام وأمان الشعوب وازدهارها، وهل لديها القدرة والقرار لبلوغ ذلك، أم أنّها مجوّفة ومستلبة القرار ومهدّدة ومطوّقة بقيود خفية وعلنية تحول دون النهوض والمبادرة؟ ماذا تقول لنا وقائع قرن من ولادة لبنان وما يجري في مختلف دولنا العربية؟ هل خدمت الأنظمة شعوبها في التحرير؟ هل خدمتها في التنمية؟ أم زادت من أزماتها واستتباعها؟
أيّة مشاركة فاعلة، أو بالأحرى أي مشاركة شاملة، يمكن للشعب أن يؤسّس لها لمؤازرة الكيان والدولة، ما هي مزاياها التي تميّزها وما هي محدّداتها كي لا ندخل في تشابك المرجعيات الناظمة للحماية أو لغيرها من قضايانا المصيرية، إن في لبنان أو في غيره.
لذلك، هل يحتاج من «يؤشكلون» على أطروحة «الشعب، الجيش والمقاومة» أن يجيبوا على مجمل هذه الأسئلة قبل الاستنتاج المتسرّع والموجّه بقولهم: إنّ مظهر القهر الوحيد هو المظهر العسكري أو الفيزيائي، وإنّ سبب عدم قيام الدولة والسبب الوحيد، بقولهم، هو وجود سلاح المقاومة. وهل مشكلتهم مع السلاح أم مع أصل ثقافة المقاومة وقيمها والروح التي تبثها في جسد الوطن؟ وهل هذا الادعاء تؤيده الوقائع أم تخالفه بقوّة وبشكل صارخ ولا يخلو من كونه ادعاء ديماغوجياً تستخدمه بعض النخب؟
ما نراه ونعتقد به ونظنّ أنّ النقاش يُفترض أن ينطلق منه هو أنّ أطروحة «شعب، جيش ومقاومة» تأتي في سياق التأمّل في الأسئلة الواردة أعلاه ومحاولة الإجابة عليها. إنّها تريد أن تقول إنّ المجتمع هو أصل البناء السياسي وغايته وقاعدته الأولى، والدولة ملك الشعب أوّلاً وآخراً، وتريد أن تقول إنّها نظرية «في حين» وليست «لكل حين»؛ بمعنى أنّ الأوطان تحتاج إليها في لحظات معيّنة كلحظات التحوّلات الكبرى واللااستقرار وتعقّد شبكة الهيمنة وتداخل أبعادها، للاستجابة للتحدّيات. وتريد أن تقول إنّها تعالج جانباً من الضرورة التي باتت أكثر إلحاحاً للعلاقة بين المجتمع والدولة على ضوء التحدّيات المتعاظمة والاستهدافات غير المسبوقة للكيانات. وتريد أن تقول إننا بتنا بحاجة إلى مقاربات أكثر حداثة وعمقاً وإبداعاً تنطلق من واقع حاجاتنا خصوصاً بعدما تهاوت النظريات الكلاسيكية والتقليدية وأثبتت أنّها غير قادرة على الحماية والتحصين وحفظ الهوية والخصائص وتحقيق مصالح الشعب العليا حتّى في الديموقراطيات العريقة. وتريد أن تنبّه إلى الفارق الكبير بين القانونية والمشروعية، وأنّ المشروعية هي المطلوبة ابتداءً، وأنّ القانونية ليست إلا تجلياً لهذه المشروعية في ظرف ما، وأنّ أهمية الأطروحة تزداد في عالم لا يقبل أيّ حياد استقلالي (ربّما يقبل حياداً وظيفياً) ويُعاقب من لا يأخذ موقفاً لصالح أحد المتصارعين (نموذج خروج سويسرا عن حيادها وانضمامها إلى «الناتو» في الحرب مع روسيا). وتريد أن تقول إنّها حاجة حين تكون المباني والركائز الضرورية لبناء الدولة رخوة وهشّة، والأخيرة والطبقة السياسية ليست صاحبة القرار أو أنّها مسلوبة الإرادة أو فشلت في بناء ثقة جديرة بشعبها واكتشافه فضلاً عن حمايته وتأمين مقومات عيشه الأوّلي أو أنّها جسرُ المهيمن إلى شعوبها. أو حين تكون سلطة المعرفة وإنتاج الأفكار ضعيفة وتقوم على الاستيراد والتقليد في كل شيء بدل التوليد. وتريد أن تقول إننا نحتاج إلى التجربة وليس فقط إلى السجال، ففي التجارب علم مستأنف. وختاماً تريد أن تقول علينا أن نرتقي إلى مستوى من العلمية والعقلانية في مقارباتنا بحيث لا نرفض أو نقبل قضايا كبرى تمس الكيان ووجوده دون اختبار وتصر على تجنّب الإسقاطات دونما إحراز لمعرفة عميقة بطبيعة وهوية كل من «المقاومة والشعب» على السواء في لبنان.
أخيراً، لا تدّعي هذه الأطروحة أنّه لم يعد هناك مساحة للنقاش لتطوير الفكرة على ضوء حوار وطني علمي شفّاف غير مستلب ولا «متغرّب ولا متشرّق» يثق بنفسه ويؤمن بعظمة شعبه ولياقته يمكن أن يتداعى إليه اللبنانيون إذا ما قرروا بناء وطن وأخذ زمام المبادرة بأنفسهم.

* باحث لبناني