لست أدري أيّهما الأصح: «كما تكونون يُولّى عليكم»، أو كما يُولّى عليكم تكونون.ولكنّي على يقين تام أنّ لدينا أفضل سابقة من سوابق الزمن وأهضم شكل من أشكال الترفيه المجاني الذي اخترعناه نحن (بعد الأبجدية) منذ ولادة نظام الدولة الوستفالي: ألا وهو سابقة إجراء انتخابات نيابية مبنية أساساً على فقدان أي نتائج إيجابية، وعموماً كيفية ممارسة السياسة في البلد. يا أخي، فاجئونا شي مرة. لا شك أن ما يتخطى كل ذلك بالهضامة هو حفلة إعادة تدوير، عفواً تكليف، رئيس وزراء جديد ــــ قديم بعد الانتخابات. يا لهوي، مسلسل التكليف ترفيهي بامتياز يمتد لشهرين أو ثلاثة أو سنوات ونيف قبل أن ينتهي أحياناً باعتذار «الرئيس» المكلف المغنج بلباقة الضيف نظراً إلى ضيق وقته، وكأنها عزيمة عشاء لا تنتهي في بلاط وِندسور يحضرها أربعة ملايين مشاهد عاطلون عن العمل، كل واحد منهم مليونير عايز ومستغني، متسائلون في كل حلقة «هل سيتغير شيء في حاضرنا ومستقبلنا؟». ما شي، الحمدالله.
خذ مثلاً زعيمك التقليدي، ذلك الرجل الذي تُعاوِد منحه الصوت في دائرتك الانتخابية معجلاً مكرراً. مهما كنت مغروماً به، سايرني شوي وتخيل معي ولو افتراضياً أنك لا تحبه فقط لدقائق حتى نهاية هذه الرسالة. شو خسران، هيك هيك قاعد لا شغلة ولا عملة والحمدالله زعيمك محافظ على مصرياتك بالبنك.
لا تبتهل وتنهبل كثيراً كمن يصلي للمطر تحت تأثير برنامج حزبه الانتخابي. تخيل معي أن البرنامج عبارة عن مسلسل تلفزيوني متعدد الحلقات الدسمة، أو مجرد وعود ضخمة رنانة مكسوة بالضباب المشفّر من نوع سراب ــــ سُر ــــ كابتاغون، وخصوصاً بعد حالة عسر هضم فكري مزمن، ينقلك بسحر ساحر إلى حالة فاخرة ومترفة على ضفاف حالات ــــ سُر ــــ مار. ولكن من حسن حظك أنه يوجد لكل شيفرة مفتاح. ما تعتل هَمّ، فقد تمكن خبراء في علوم المريخ من ترجمة برنامج زعيمك الانتخابي إلى لغة يمكن فهمها هنا في الأقضية الخمسة.
إليك التفنيد الدقيق.

في النجومية
زعيمك مكروه الجماهير بامتياز وتفَوّق. إذا أردت أن تكرهه، لازم تقطع تذاكر وتأخذ دورك بالصف. إنه «الجندي المجهول» الوحيد على قيد الحياة في تاريخ البشرية، يتمترس دائماً خلفك ووراء أولادك وجيرانك.
زعيمك ينافس الزعماء الآخرين على أوسكار أسوأ ممثل دائرة انتخابية في البرلمان، وأفضل مساعد ــــ ممثل كاوبوي على تدمير الحوكمة الصالحة بأيّ ثمن. طبعاً جميعنا فخورون ببراءات الاختراع التي حصل عليها في وسائل تحطيم البلد فوق رأسك، بعد تحويل لبنان إلى مختبر شهرزادي نموذجي لابتكار ألف طريقة وطريقة للوصول إلى الهدف الأكبر: أن تُحَلّق أنت وكل المواطنين فوق عش الكوكو دائماً ودوماً. انهبلنا.

في حاصل الذكاء «آي كيو»
طبعاً الذكاء درجات. إليك الإثبات المختبري الدامغ لقياس درجة ذكائه؛ إذا أضأنا مصباحاً ما على طاولة المطبخ، ووضعنا مقابل الضوء دجاجة نحيفة جداً تكاد تموت جوعاً، وغلينا بالماء ظل الدجاجة المعكوس على الحائط، لحصلنا على شورباء دجاج خفيفة بالكاد «يا دوب» تكون أقوى من تفكير زعيمك النحيل (نسبةً إلى التفكير وليس إلى الكرش).
غريب عجيب ذلك الإنسان، تجده يتكلم بنخنخة وعواطف مجيشة بأبخس المشاعر وبفرائص ترتجف أمام أضعف نسمات السفارات الغربية، وكأن تفكيره (بما يسمى في علم البدائية بريماتولوجيا) ما زال عالقاً في الفترة الانتقالية بين الجنس البدائي (هوموشمبنزي) وبين بدايات الجنس البشري (هوموسابيان حجري).

في المصداقية
عموماً عندما لا يكون مداوماً مع عائلته على ضفاف الكوت دازور، زعيمك يعيش على ضفاف الحقيقة في لبنان ومن سابع المستحيلات أن يركب بحرها. إذا شي مرة تفركش بالحقيقة، يركلها بعيداً (ويركلك معها إذا واجهته بها) ليتابع سيره دون الانشعال بهكذا تفاهات. مش فاضيلك ولا فاضيلها. طبعاً حملته الانتخابية ستتضمن محاضرات في الوطنية والأمانة وضرورة استعادة أموال الناس من المصارف ومن الحرامية التانيين في الوزارات والبرلمان، ولكن بعدما حوّل كامل أموال الـ«من أين لك هذا» إلى جزيرةٍ ما في المحيط الهادئ. خود هالقرش.

في العمل السياسي
زعيمك عالِم دكتوراه متخصص بمفاهيم بناء الدولة والعقد الاجتماعي بقدر ما الدب في الغابة والبقرة في الحظيرة يحلّلان أفكار ابن خلدون. ولكن تعجبني طريقته: سرّي وباطني بخفة الأشباح، يتنقّل من حرب إلى سلم ومن هون لهون ومن وزارة إلى أخرى دون أن تلتقط رادارات الآيواكس العسكرية أثراً لأي قضية يحملها أو مسألة يناقشها أو حلول يطرحها. أصبحت الدولة اللبنانية نادي غولف خاصاً ذات عضوية أبدية ترفض التقاعد مدفوعة من كيسك. وحضرتك الطابة.

في الرفق «بالحيوان» اللبناني
كيف لأيّ امرأة مشبعة بروح الأمومة والحنان والطهارة (وكل الأمهات رائعات بنظري) أن تنجب أولاداً من نوع زعيمك ونوع رجالات السياسة التقليديين في لبنان والدول العربية، إلا إذا كان لديها الكثير من القواسم المشتركة مع أدولف هتلر، طبعاً دون الشارب. ما سر زعيمك؟ هل نقصه حب في طفولته؟ هل ترعرع منذ عمر الخامسة على الحرمان أو الهستيريا العائلية، على ميزات المشابكة والمشاغبة، على غباء جماعي لا يقاس في الحي، على التكابر والتلصص الأخلاقي، على تقنيات الكذب دون احمرار الوجه والوحشية المستدامة معنوياً وإنسانياً في السلم وجسدياً في الحرب؟
أقصى ما يتميّز به زعيمك من قوة حب أن لديه نهماً فعلياً بالرجعية السياسية. زعيمك نسر يحلّق فوق جبل صنين، يرفرف كالطيور الجوارح ذوي قوة شمّ عن بُعد هائلة لجثث المثاليات البالية والخالصة مدتها. وأنت ما زلت تشتريه.

في الحالة المرضية سريرياً
هيكل مؤسسات الدولة الطائفية، كما المجتمع السياسي اللبناني بأكمله، عبارة عن ورشة إعمار ضخمة أكبر بكثير مما تتطلبه إدارة شؤون أربعة ملايين نسمة، فيها عدّة ومهندسون وعمّال وسقالات وجبّالات وترابة وحديد، فقط لبناء حجر واحد ونصف حجر فوق بعضهم البعض، لا يصلحان لشيء مفيد ولا يصمدان أمام أدنى هزة خارجية أو داخلية على مقياس ريختر السياسة وحسابات الدول.
كل الأوطان الحقيقية (اليابان، الصين، مصر، فرنسا...) وتلك الوهمية (لبنان، عطارد، زُحل...) تختلق لنفسها قصة عنترية يلتحم حولها الشعب في حالة مواطنية وجودية. لكن قصتنا قصة. الديموقراطية «التوافقية» غير موفقة أبداً، تُفرق ولا تُجمع، بينما زعيمك ما زال متشدقاً بها. فكرة أن لبنان الفينيقي «مدينة ساطعة على التلة» سقطت، والوطن ــــ المأوى هرباً من غزاة الشرق انهار اليوم أمام غزاة الغرب وغزاة الداخل بقيادة زعيمك. تعوّدنا العيش على أحلام الأطفال البريئة والرحابنة، ولكن إذا أردنا أن ننضج كمواطنين متساوين في وطن، يجب أن تواجه زعيمك «العين بالعين والسن بالسن»، والدولار المسروق بالصوت المسروق والجريمة بالعقاب. مبتدأنا وخبرنا الجديدان يجب أن يتكوّنا من التدقيق الجنائي والمحاكمة القضائية والدولة المدنية وإلغاء الطائفية في الحكم والأحوال الشخصية...

في الختام
كيف لمنطقة جغرافية صغيرة نسبياً أنجبت إبراهيم وموسى والمسيح ومحمد ونبلاء من أمثال مارون وشربل وعلي، وأورثت لمن أتوا بعدهم رسائل التسامح والمحبة والكرامة، كيف لهكذا أمّة أن تعث بنفسها وشعوبها كالذئب في الغنم؟ إلا إذا... إلا إذا قرأنا بين الأسطر وتمعنّا جيداً في كتبنا (وهو حديث لرسالة مفتوحة أخرى).
في أحسن الأحوال، ممكن أن يكون زعيمك غبياً. وفي أسوأ الأحوال، الواقع يؤكد أن زعيمك ذكي على حسابك. ولكن في كل الأحوال، إذا بقيتَ على غرامك به، فأنا وأنت الأغبياء. أما إذا أردت صراحة مارون عبود، فاسمعني منيح يا رضا لكي نعطي فرصة لغير التقليديين. خلاصة الحديث أن زعيمك عبارة عن عبيط يتوسط ربطة عنق ووشاح نرجسي. يا إما أنت أصل الاعتباط فتُوَلي عليك من يتَفَوّقك عباطة، أو أنك أصبحت أعبط منه بالعدوى المنقولة من عباطته. بالحالتين مش خالصين. بلا تصويتك أحسن.

* ناشر لبناني ومحرر سابق لمجلات أدبية وفنية