يستهل غسان كنفاني إحدى دراساته بالإهداء التالي: «إلى المقاومة الفلسطينية، طريقاً للجماهير العربية، القادرة وحدها على المضي بالثورة حتى النصر». يعكس هذا الإهداء العلاقة الجدلية التي رآها كنفاني بين المقاومة الفلسطينية والجماهير العربية. فالأولى هي طريق الثانية، وهي التي تلعب الدور الطليعي لمسار تحرّك الجماهير العربية ككل. يكمل غسان هنا، وفي السياق ذاته، شرح خصوصية القضية الفلسطينية لكي يتحتّم عليها لعب هذا الدور التاريخي. وهو شرح ينطلق عبر تعريف لطبيعة الصراع، حيث يقول إنّ منبع هذه الخصوصية كامن من أنّ أحد طرفَي هذه القضية هو استعمار إسكاني وذراع إمبريالي وطرفها الآخر شعب مقتلع من أرضه. وبالنسبة له، فهذا ما يُبنى عليه البُعد القومي للقضية، أي علاقتها بالجماهير العربية، فهذه الجماهير ترزح بدورها تحت قيود أنظمة مستغِلة مرتبطة بدرجة أو بأخرى بالإمبريالية نفسها.
(سامية حلبي)

يكمل غسان أنه، وبسبب هذا الاستغلال، يصبح البُعد الطبقي أيضاً مسألة محورية في المعركة. فخصوصية القضية الفلسطينية أنها، بتعبيره، في الواجهة أمام طلائع العالم المستغِل الغني المتقدّم تكنولوجياً، بينما جماهيرنا العربية مكبّلة بقيود التخلّف بسبب أنظمتها التابعة للعالم المستغِل. وهنا بالنسبة له تكون المقاومة، وحرب التحرير الشعبية، مسألة محورية كذلك، فهي بالضرورة، وبتعبيره مرة أخرى، تقف ضد كيان عنصري فاشي، مدعوم بالقوى الإمبريالية التي تتّخذ من الأنظمة العشائرية والعميلة في الوطن العربي وسيطاً لعملية النهب الجارية للثروات العربية والطبقات الكادحة العربية.
وعليه، يصل كنفاني هنا إلى نتيجة مفادها أنّ النضال ضد هذه الأنظمة هي جبهة فلسطينية أيضاً. مؤكداً أن مثل هذه المسائل الاستراتيجية لا يمكن أن تكون معلقة في الهواء، حيث يتساءل غسان: ما هي المعركة؟ إن لم تكن ذلك كله معاً؟ وما هو التحرير إن لم يكن مبنياً على رؤية استراتيجية تضع هذا كله في حسابها؟
من هذه الخلفية التحليلية أتت كلمة لجورج حبش مخاطباً الجماهير العربية: «إن خير ما تقدّمونه للقضية الفلسطينية هو النضال ضد أنظمتكم الرجعية»، بمعنى أنه يستوجب أن على هذا النضال ضد الأنظمة أن يتقاطع مع الجبهة الفلسطينية التي يتحدث عنها كنفاني، وضمن الديناميكية ذاتها التي تكون موجهة ضد المصالح الغربية في بلداننا. فنحن هنا كجماهير عربية نخوض معركة فلسطين ضد أنظمتنا الموالية للغرب، أي المصالح غير المباشرة للغرب. بينما الفلسطيني، ولخصوصية قضيّته، يخوض معركتنا جميعاً في صدام مباشر مع الاستعمار الغربي.
هذه هي العلاقة التي تربطك كعربي بفلسطين، وما يجعلها «القضية»، بـ«ال» التعريف، يلخّص كنفاني هذه العلاقة أو ما يطلق عليه «الوحدة النضالية» العربية، بأن الهدف أن نغيّر تاريخ المنطقة، حيث يقول: «نحن لا نتوقع -طبعاً- أن يتركنا أعداؤنا نغيّر تاريخ المنطقة، ونزعزع مراكزهم الاستراتيجية والاستعمارية، من دون أن يبذلوا أقصى جهدهم لمنعنا من ذلك... وهكذا، فإن المعركة قاسية».
بيد أن لهذه الوحدة النضالية معضلة وسؤال يتكرر في الماضي كما اليوم ولم يتم حسمه بعد؛ وهو عمّا إذا كانت الثورة الفلسطينية هي المدخل إلى الثورة العربية، أو عمّا إذا كان المطلوب لتحرير فلسطين وجود مدخل ثوري عربي. أي، بأدبياتنا العربية الراهنة، يأتي السؤال بأن علينا إقامة الديموقراطية في البلدان العربية أوّلاً، حيث سيكون ـــــ نظرياً ـــــ القرار للشعوب، وعليه، سيكون تحرير فلسطين حينها في المتناول. أو في تصوّر آخر يعمّم على أنه علينا البقاء تحت نير الأنظمة الاستبدادية حتى وبشكل ما يتم تحرير فلسطين ومن ثم ننقضّ على الأنظمة. وبطبيعة الحال، الخيار الأخير من البلاهة في أنّ لا أحد يتبناه، أقلاً بهذه الصراحة، بل هو يستخدم كرجل قش ضد التصوّر المبني على أنّ الأولوية هي دعم الثورة والمقاومة الفلسطينية في مواجهة العدو الصهيوني عن «الانشغال» عن أي حراك ثوري عربي.
يُجيب غسان كنفاني عن هذه المسألة، ولنقتبس كلامه بشكل حرفي: «لم تحسم حركة المقاومة الفلسطينية هذا السؤال بعد، والواقع أن جواب هذا السؤال ستفرضه الممارسات، على أنّ مثل هذا الفرض لا يمكن أن يحدث اعتباطاً أو مصادفة، ولا بد من عمليات مراجعة نقدية مستمرة، للعثور على الصيغة الأكثر فعالية». ويكمل بأنه من الصحيح أنّ المقاومة الفلسطينية المسلحة تقدّم مثلاً يومياً للجماهير العربية، لكن لا فرار من النقطة التي يجب فيها حسم هذا السؤال. بل إنّ كنفاني يرى أنه تتوقف على عملية حسم هذه المسألة من عدمها المقدرة على الوصول إلى جواب علمي لهذا المأزق وبحلول ثورية حقيقية.
حين يتم تسليحك من البنتاغون والـ«CIA» أو تمويلك من الـ«USAID» والخارجية الأميركية، فأنت هنا لست نقيضاً لأي نظام عربي، بل منافس له ضمن العلاقة الاستغلالية ذاتها


لنرجع أوّلاً إلى قساوة المعركة التي تحدّث عنها، حيث يوصينا غسان بالعلميّة، مبيّناً أنّ «قساوة المعركة تستلزم أن يكون التخطيط لها واقعياً كي ينسجم مع هذه القسوة»، مضيفاً أنّ الاندفاعة العاطفية لن تنفع شيئاً. وأخذاً بذلك، فإنّ الإجابة عن هذه المعضلة يستلزم تشريحاً موضوعياً للواقع العربي اليوم.
رغم التفريق الذي قامت عليه مبادئ «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين»، والتي نظّر لها غسان، والقائمة على التفريق بين ما أُطلق عليه الأنظمة «التقدّمية» و«الرجعية»، وذلك عبر طبيعة علاقتها بكل من الغرب وتركيبة الدولة وكذلك مساحة عمل الثورة الفلسطينية على أراضيها، فإن كنفاني يؤكد أن جميع هذه الأنظمة العربية التسلطية دونما استثناء تمارس «أعتى وسائل الكبت، وهم ضد خلق أي مناخ صالح لنمو ونضوج قوة ثورية شعبية، هي وحدها الحليف الطبيعي لحركة المقاومة». وبأدبياتنا السياسية العربية لما قبل أكثر من عقد فنحن نتكلم عن المشترك بين محور «الممانعة» و«الاعتدال» (يتوقف غسان عند لفظ الاعتدال، محاججاً أنه لفظ استعماري، ويؤول للخيانة والتطبيع كما نرى اليوم وكما استشرف بحذاقة قبل استشهاده).
ومن المفيد هنا الرجوع لتشخيص دقيق وعلمي لجورج حبش، حيث يُسهب في شرح ما هي هذه الأنظمة «التقدّمية» العربية، أو ما أُطلق عليه بالأنظمة الوطنية. أنظمة البرجوازية الصغيرة إذا ما استعرنا من مهدي عامل، أو البرجوازيات المشاكسة بتعبير الأسير جورج عبد الله. يشرح جورج حبش، في لقاء مع مجلة «الهدف» عام 1970، أنه لا يمكن للتحرير أن ينجز إن لم تتحوّل الأنظمة الوطنية إلى أنظمة ثورية حقيقية، «فهناك فرق كبير بين نظام وطني ونظام ثوري». ويقول مختصراً: «لا يكفي أن نجد أنفسنا أمام أنظمة معادية لإسرائيل والصهيونية حتى نطمئن أنه طالما هذه الأنظمة معادية لإسرائيل إذاً هي طريق التحرير، أبداً... فهنالك فارق بين النظام الوطني والنظام الثوري... في النظام الثوري، تختفي كل معالم الحياة الطبيعية، وشكل الحكم وصورة الحكم ينطلق مع الثورة واستراتيجية الثورة واستراتيجية الحرب. ففي الأنظمة الثورية كل الحياة تصبح إنتاج خبز وسلاح وتصميم، نريد التحرير، نريد فلسطين، إذاً لنتّجه جميعاً إلى صنع الطعام والسلاح، ونقاتل بروح ومعنوية، سنة، عشر سنوات، ألف عام، إلى مدى العمر حتى التحرير».
لم يخطئ الحكيم في تشخيصه هذا، فالثورة الفلسطينية وخصوصيتها كرأس حربة ضد آخر مظاهر الاستعمار الإسكاني المباشر تحتاج إلى دعامة ثورية حقيقية. وهو ما يتقاطع مع تحليل غسان، أنه ينبني على هذا التشخيص لا مجرّد تحديد الأفق القومي للقضية بل قضية تحديد العدو والصديق «في ضوء الظروف الموضوعية المحيطة بالقضية الفلسطينية». ولذا نجد نفسنا اليوم، كعرب، أمام واقع أن الدعامة الحقيقية والثورية التي تحدّث عنها حبش ليست عربية، بل ممثلة، وباعتراف العدو والصديق، بالنظام الثوري في جمهورية إيران الإسلامية.
من هنا نصل لنتيجة كجماهير عربية، منطلقة من مسؤوليتنا التاريخية، أنه نعم، علينا إسقاط واستبدال الأنظمة العربية جميعها، ما يسمّى بـ«التقدّمي» و«الرجعي»، سواء في سوريا أم السعودية، وبناء نظام يمثّل الخيار الوجدان والخيار الشعبي الذي لا جدال فيه وهو دعم الثورة الفلسطينية، وحشد الجهود وتنظيم المجتمع على ذلك، دون متاهات مصالح طبقات حاكمة وتجار وأثرياء ومستغلّين.
وإن كنا نتفق على هذا الهدف، فعلينا العودة هنا إلى غسان من جديد، وتأكيده على مسألة الممارسات. فكما يخبرنا أنطونيو غرامشي بأن الهدف والنتيجة من إسقاط النظام أهم من محض إسقاطه. وعليه، وللإجابة على جدلية الثورات العربية ثم فلسطين، أو فلسطين ثم الثورات، فالجواب ليس هذا أو ذاك، بل الاثنان معاً. حيث تكون الممارسة الثورية تحت النظام المصري أو الليبي أو المغربي أو السوري أو أحد ممالك الخليج تتقاطع مع النضال الفلسطيني لا نقيض له.
بمعنى أنّ شبكات مصالح هذا النضال لا تقوم عبر تحالفات مع أعداء فلسطين، مع شبكات رؤوس أموال غربية وخليجية، واستبدال نظام مرتهن للغرب بنظام آخر. والمسألة هنا ليست فقط أنك تعمل ضد مصلحة فلسطين بل ضد مصلحتك أنت وشعبك أنت. فحين يتم تسليحك من البنتاغون والـ«CIA» أو تمويلك من الـ«USAID» والخارجية الأميركية، فأنت هنا لست نقيضاً لأي نظام عربي، بل منافس له ضمن العلاقة الاستغلالية ذاتها ونقيض للاستقلال، ولا ديموقراطية ولا سيادة لشعب على نفسه إن كان غير مستقل. وكذلك، تعمل على هدم الدولة والمجتمع كنظرائك من الطبقات الحاكمة العربية. ومهما رفعت علم فلسطين وغرّدت «#فلسطين_قضيتي» وتبنيت خطاباً مناهضاً للتطبيع، فأنت بالمعنى الاقتصادي والسياسي على المقلب الآخر. بل، كما نرى الآن، ينزعج الثوار العرب من بروز فلسطين حيث تخبو قضاياهم الخاصة ويقعون في شرك التناقض، ويتهمون أن مركزية فلسطين «اغتصاب للوعي»، ففي فلسطين لا مكان للأدوات النضالية الغربية من خطاب الديموقراطية وحقوق الإنسان التي يتشدقون بها، فالإنسان الفلسطيني وبمنظور استعماري خارج حتى سراب هذه العناوين، فلا يعترف حتى بإنسانيته في المقام الأول. وهي قضية بأدبيات وخيارات تاريخية غير منساقة للترويج والتمويل والتغطية وتضليل الأيديلوجيات الليبرالية. فعندما يتأثر عربي بفلسطين ويراها قضيته ويربط مصيره بها سيتبنى خيارات ضد الإمبريالية والرأسمالية.
فحتى نضالك ضد النظام العربي الذي ترزح تحت وطأة جوره وجرائمه، إن لم يكن هذا النضال ضد التخلص من هذا النظام وتبعيته للغرب أو خذلانه لفلسطين فمصيرك الفشل، لأن الغرب لن يدخلك على ظهر دبابة. ولنكن أكثر صراحة، أننا سنحرص على أن نفشِلك، فلن نستبدل عميلاً بعميل، ولا من «يتاجر بالقضية» بمن يبيعها بواحاً، ويتحالف مع، حرفياً، جميع أعدائها دونما استثناء.
فالمسألة ليست أن نبقى تحت جور أنظمتنا حتى تتحرر فلسطين، بل الحرص على الممارسة الثورية ضد الدكتاتوريات، بما فيه حريتنا جميعاً كعرب، بما في ذلك تحرير فلسطين. فالقضية الفلسطينية ليست البوصلة للوصول إلى القدس فقط، بل ربط المصائر بها هو تصويب إيديلوجي ذاتي، فهنا يعمل البعد والقرب من المقاومة الفلسطينية كما قال غسان، ونحن في ذكرى مولده السادس والثمانين، «طريقاً للجماهير العربية». فما يجعل فلسطين القضية الأولى والمركزية ليس لأنها الغاية فقط، ففلسطين هي الغاية والوسيلة لوطن عربي بلا استبداد ولا استعمار.

* كاتب عربي