الإقليم الذي نعيش فيه مرشّح بأوضاعه المضطربة، أن يكون مرآة لما قد يترتب على الأزمة الأوكرانية من تداعيات ونتائج، تنعكس عليه وتؤثر فيه أكثر من أية منطقة جغرافية أخرى في العالم. بحكم التجارب المريرة التي عرفها الإقليم المنكوب فهو متحسّب لما قد يحدث خشية أن يدفع أغلب الفواتير، كما جرت العادة. هناك إدراك شبه جماعي، من مواقع مختلفة، أن الحرب الأوكرانية لن تُحسم بالضربة القاضية، وأن تسوية سياسية ما سوف تحدث في نهاية المطاف. هكذا طرح سؤال إدارة التوازن نفسه على اللاعبين الإقليميين كافة حتى لا تتضرر مصالحهم الاستراتيجية والأمنية والاقتصادية.بالضغوط الدبلوماسية المفرطة، نجحت الولايات المتحدة في حشد وتعبئة الأغلبية الساحقة في الجمعية العامة للأمم المتحدة، للتصويت بإدانة العمل العسكري الروسي دون التفات إلى طبيعة الأزمة وأسبابها، أو التفات آخر إلى التعهدات التي قطعتها الولايات المتحدة إثر انتهاء الحرب الباردة بألا يتمدّد حلف «الناتو» بالقرب من الأراضي الروسية دون أن تلتزم بها. بدا ذلك نصراً ديبلوماسياً قبل أن تؤكد التطورات والحوادث المعلنة والخفية أنه يقف على أرض هشّة.
«ماذا تعتقدون؟.. هل نحن عبيد لديكم، نفعل أي شيء تقوله الولايات المتحدة، باكستان بلد محايد... هل كتبتم مثل هذه الرسالة إلى الهند؟!». كان ذلك تصريحاً غاضباً من رئيس الوزراء الباكستاني عمران خان إثر بيان أصدره سفراء الاتحاد الأوروبي في عاصمة بلاده أقرب إلى الإملاء والتوجيه، كما فعلوا في بلدان أخرى دون أن يتلقوا الرد المناسب.
الموقف الباكستاني لافت بخلفياته ومقارناته مع الهند العدو اللدود. كان ذلك تعبيراً مدوّياً عن شيء مختلف في النظر إلى طبيعة العلاقة مع القوة العظمى المنفردة في سنوات الحرب الباردة، عن قراءة مختلفة لموازين وحسابات القوى المتغيّرة، أو المرشّحة للتغيير بعد انقضاء الأزمة الأوكرانية.
«فجأة أصبح يُسمح لنا بخلط الرياضة بالسياسة... إذاً لنتحدث عن فلسطين التي مرّت بما تمر به أوكرانيا الآن منذ 74 سنة». كان ذلك تعبيراً مدوياً آخر لبطل العالم في الاسكواش المصري علي فرج، لم يصدر عنه عفو الخاطر، أو في لحظة انفعال. الصياغة نفسها تكشف أنه فكّر في ما قال وعقد العزم عليه دون لحظة تردد في حساب عدد السنين التي مرت على النكبة الفلسطينية. الموقف السياسي والأخلاقي كشف المسكوت عنه في خلط السياسة بالرياضة إذا ما اقتضت المصالح والاستراتيجيات الكبرى وأكد بدوره أهمية مصر الاستثنائية في عالمها العربي حين تلامس الوجدان بصدق المواقف. الانحياز ضد فلسطين بإنكار التهجير القسري والفصل العنصري واحتلال أراضي الغير بقوة الترهيب والسلاح حقيقة لا يمكن إنكارها. التعاطف مع معاناة الشعوب الأخرى قضية عادلة، وإدانة توظيفها لمقتضى المصالح والاستراتيجيات التوسعية قضية أخرى تماماً. ازدواج المعايير الإنسانية والقانونية آفة النظام الدولي تحت القيادة الأميركية المنفردة.
في التوقيت نفسه تأكدت ازدواجية المعايير في إدانة القصف الإيراني لموقع عسكري استخباراتي إسرائيلي قيد الإنشاء في حرم القنصلية الأميركية بأربيل عاصمة كردستان العراق، باسم الاعتداء على سيادة دولة أخرى وانتهاك القانون الدولي، فيما الصمت يغلب ما عداه في القصف الإسرائيلي المتكرر لمواقع في سوريا يقال إن قوات إيرانية تتمركز فيها. تبدو إسرائيل شبه مرتبكة في خياراتها ومواقفها من الأزمة الأوكرانية. وقفت بلا تحفظ واحد معلن مع ما تطلبه الولايات المتحدة، حيث علاقاتها ومصالحها ممتدة لكن دون صدام مع موسكو بالنظر إلى التفاهمات التي تجمعهما في أزمات إقليمية عديدة أهمها الأزمة السورية.
حاولت بضغط من مؤسستها العسكرية أن توازن مواقفها وأن تمشي على الحبل المشدود بين مصالحها مع راعيتها واشنطن وتفاهماتها مع موسكو التي تسمح لمواطنيها دخول الأراضي الروسية دون تأشيرة، ثم بين الجالية اليهودية في أوكرانيا والجالية اليهودية في روسيا! أرادت أن تتوازن، لكنها عادت مرة أخرى لتؤكد أنها لن تكون ممراً لكسر العقوبات الغربية على موسكو. المستغرب في القصة كلها أنها تطرح نفسها وسيطاً لحل الأزمة الأوكرانية وأن تكون القدس المحتلة مقرّاً للمفاوضات. عبّرت تلك الفكرة عن الحد الأقصى من ازدواج المعايير والاستخفاف بالعقول في الوقت نفسه. فالقدس محتلة وفق القانون الدولي ويتعرّض أهلها من العرب الفلسطينيين لأنواع التمييز العنصري كافة، فإذا بعنصري عتيد كنفتالي بينت يدعو للسلام من أرض السلام دون أن ينظر أحد إلى يديه الملطّختين بالدم.
لم تكن إسرائيل هي الوحيدة من بين دول الإقليم التي طرحت نفسها وسيطاً، فقد سبقتها تركيا إلى لعب هذا الدور باستضافة حوار مباشر في أنطاليا بين وزيرَي خارجية روسيا، سيرغي لافروف، وأوكرانيا، ديمتري كوليبا. الحيثيات التركية تختلف. فهي تقع إلى جنوب كل من روسيا وأوكرانيا، عضو في حلف «الناتو» ولها في الوقت نفسه تفاهمات استراتيجية مع موسكو في ليبيا وسوريا وملفات أخرى وتعتمد بصورة كبيرة على الغاز الروسي في إدارة صناعتها ومشروعاتها الحيوية. من هنا فإن الأزمة الأوكرانية تدخل في صلب أمنها القومي كتهديد محتمل. روسيا تحتاج إلى الدور التركي كنافذة على التفاوض مع المعسكر الآخر، لكنها لا تراها وسيطاً محايداً، كما لا تتفهّم تصديرها المتواصل لمُسيّراتها «بيرقدار» إلى كييف بتمويل غربي كامل. الغرب يفضل وساطتها حتى تكون مصالحه حاضرة، لكنه لا يرتاح إلى تعويلها على روسيا في تطوير أنظمة دفاعها الجوي. الأدوار الملتبسة تعترض احتمالات المضي في سيناريو الوساطة التركية إلى نهايته.
بدورها لا تطرح مصر نفسها وسيطاً. إنها في حاجة إلى إعادة هيكلة سياستها الخارجية، فلسفتها في زمن جديد وقدرتها على إطلاق المبادرات، قبل أن تضطلع بمثل هذه الأدوار.
كانت الإدانة المصرية لاستخدام العقوبات الاقتصادية في إدارة الصراع موقفاً موحياً وصفه لافروف بأنه «عظيم» وقد انتهجته مصر مع الصين والهند. روسيا لم تقف معنا في أزمة السد الإثيوبي، ولا الصين ناصرتنا، حاجتنا ماسة إلى السياحة الروسية كما واردات القمح بقدر حاجتنا ذاتها إلى التوازن الاستراتيجي في إدارة مصالحنا خاصة في أزمة السد الإثيوبي. في ما يتعلق باللاعب الإثيوبي يستلفت الانتباه أنه غاب عن جلسة التصويت في الجمعية العامة للأمم المتحدة، لا صوَّت بـ«نعم» ولا صوَّت بـ«لا»، امتنع عن الحضور ليتجنب أن يخسر أحد طرفَي المعادلة.
وبالنسبة إلى اللاعب الإيراني بوزنه الجغرافي والاستراتيجي في الإقليم كمصر وتركيا، فإن ما يعنيه الآن أن ينتهي من إحياء الاتفاق النووي، يحافظ على العلاقات مع موسكو، يتجاوز أية ألغام لإفساد العلاقة بينهما. زار وزير خارجيتها موسكو داعياً إلى استبعاد الحلول العسكرية في حل النزاعات، مؤكداً في الوقت نفسه على قوة العلاقات معها دون أن تخامره أية أوهام عن وساطات. في الآونة الحالية يركز الإيرانيون اهتمامهم في الأدوار التي يمكن أن يلعبوها عندما تنجلي الحقائق عن نظامين دولي وإقليمي جديدين بعد الحرب الأوكرانية والعودة إلى الاتفاق النووي دون تنازل عن المشروع الصاروخي.
في التوقيت نفسه طرحت قطر نفسها وسيطاً، لكنها لا تمتلك مواصفات الوساطة في مثل هذه الأزمات الدولية الطاحنة. القضية الأولى في الخليج أسعار الطاقة، المكاسب الممكنة والضغوط الماثلة، الإمارات أخذت مسافة بالامتناع عن التصويت في مجلس الأمن عكس كل التوقّعات المسبقة قبل أن تُصوت تالياً بـ«نعم» لإدانة موسكو في الجمعية العامة للأمم المتحدة. السعودية نحت إلى إبداء شيء آخر غير معتاد في علاقاتها مع الغرب بالاتفاق مع بكين على إجراء التعاملات النفطية بالعملة الصينية «اليوان».
في أوضاع خلخلة وسيولة كالتي نشهدها الآن، فإن قراءة الخرائط المتغيّرة وما وراءَها من حسابات وضغوطات تساعد على ضبط البوصلات واستكشاف ملامح ما قد يحدث غداً في الإقليم الذي نعيش فيه.

* كاتب وصحافي مصري