ليس غريباً في هذه الأيّام أن يتمّ تقديم روسيا، مجدّداً، على صورة «الخطر الآسيوي» الذي يهدّد أوروبا، مع كلّ الصّور التاريخية التي ترافق هذا الوصف: الغزو المغولي، التوسّع الإمبراطوري، الاستبداد الشرقي، إلخ. ومن الطبيعي أن تكون هذه نقطةٌ مركزية وحساسة داخل روسيا وخارجها، إذ لم يتعرّض بلدٌ في العالم كروسيا إلى موجات متلاحقة من التغريب والتحديث، ومن ثمّ عكسه. تدخل روسيا القيصريّة إلى نادي الدّول الأوروبيّة، وتبدأ برؤية نفسها كعضوٍ في «الأسرة»، وتهزم معهم نابليون، ثمّ تجتمع عليها القوى الكبرى وتحاصرها وتضربها. تتحوّل روسيا بسهولة وسرعة، في عيون العواصم الغربيّة، من جارٍ أوروبيّ «أبيض» إلى «آخرٍ»: آسيوي، شرقيّ، أحمر، إلخ. بالنّسبة إلى المؤرّخ بيتر غران، فإن «الطّريق الرّوسي» في التطوّر السياسي للدول هو نموذج حركة البندول العنيفة، ذهاباً وإياباً، بين مرحلة «ليبرالية» نسبياً لفترة، ثمّ تتلوها مرحلة سلطوية متشدّدة (والبلد العربي الذي يقابل نمطه التاريخي «الطريق الروسي»، يقول غران، هو العراق).

التأثير الحقيقي للهوية الملتبسة هو ليس في نظرة الآخرين إليك، بل في نظرتك إلى نفسك. وللروس تراثٌ طويل، يسبق السرديات التي ظهرت في بلادنا، في محاولات الانتساب إلى«أوروبا» منذ أن صعد مفهوم «الغرب» في القرن الثامن عشر وأصبح مرادفاً للحداثة والتقدّم والقوّة (إن كان الإيرانيون والمصريون واللبنانيون والهنود قد خرجوا، في القرن الماضي، بحركاتٍ تصيّرهم غربيين، فماذا تتوقّع من الرّوس الشقر؟). في النسخة الروسية الأصلية لـ«الحرب والسلم»، يضع تولستوي على ألسنة النبلاء الرّوس في حواراتهم، خاصةً في الحفلات والمناسبات، تعابير وعبارات كاملة يقولونها بالفرنسيّة، في تدليلٍ على جوّ النخبة الروسية أيّامها ومعايير «الرقي» في أوساطها. يحتفي التاريخ الروسي بشخصيّات مثل الإمبراطورة كاثرين الثانية، باعتبارها الأميرة الألمانية البروسيّة التي جلبها الزواج المدبّر إلى روسيا، فوجدت نفسها في بلاطٍ وبلدٍ «آسيوي» قامت بـ«تلقيحهما» بمفاهيم الحداثة والأوربة. بل إنّ جزءاً معتبراً من التقدير العالي الذي يحمله الرّوس لمثقفيهم وفنانيهم (وتحديداً أولئك الذين حازوا العالميّة والشهرة في الخارج) يعود إلى مسألة الهويّة أيضاً، وكون هذه الانتلجنسيا الروسية الغنيّة هي بمثابة «جسرٍ» لروسيا إلى أوروبا والعالم الحديث («لسنا فقط القيصر والفلّاح السلافي وفارس الكوزاك، لدينا أيضاً بوشكين وتشايكوفسكي ودوستويفسكي») ـــــ مع العلم أنّ هذه الثقافة الروسية «العليا» قد ظلّت، تاريخيّاً، محصورة في فئات صغيرة وضيّقة، جغرافياً وطبقياً، قبل أن يظهر النظام الشيوعي ويعمّم انتاج واستهلاك الثقافة بين الناس العاديين.
هذا ينطبق، بالطبع، على تأريخ الرّوس لبلدهم وعلاقته بماضيه الآسيوي. حتّى نبسّط: هناك نظرتان اجمالاً عن البناء التاريخي لروسيا. السردية الأولى (وهي التقليدية والسائدة) ترى تطوّر الكيانيّة الروسيّة باعتباره حركة انطلقت من الغرب صوب الشّرق. نبدأ مع «روس الفايكينغ» الذين عبروا البلطيق، ثمّ «روس كييف»، قبل أن تظهر إمارة موسكو وتصعد وتتحوّل إلى قوّة تستقلّ عن «التتار». وبعد ذلك يبدأ التوسّع نحو الشّرق، وتمدّد روسيا حتى المحيط الهادىء. أمّا السرديّة الناقدة للتاريخ «الرسمي»، فهي ترى هذه الحركة بشكلٍ معكوس: روسيا هي في الأصل كيانٌ آسيوي، نسجته أساساً الخانات المغولية المسلمة التي ظهرت في سهوبها منذ القرن الثالث عشر وأسست فيها إمبراطورية، وقد نمت في إطارها الإمارات السلافية وازدهرت، حتى ورثت في وقتٍ لاحقٍ هذا الكيان وتربّعت على حكمه ــــــ أي أن الحركة التاريخية كانت تسير من الشرق إلى الغرب وليس العكس. حتى في الاتحاد السوفياتي، لم تخرج كتابة التاريخ اجمالاً عن هذه النظرة القديمة لتكوين روسيا، حيث استخدم المؤرخون السوفيات أيضاً مفهوم «النير التتري» لتوصيف المرحلة التي سبقت القرن السادس عشر؛ وانطلقوا من مسلّمة أنّ القوميّة والهوية والكيانية الروسيّة قد تحقّقت على يد أمراء موسكو، وهذا قد حصل عبر تحدّي هذا «النير» الأجنبي والتغلّب عليه والتحرّر منه.
المشكلة، كما سنرى في هذا المقال، هي أنّ هذا «النّير» لم يكن يُنظر إليه على هذا الشكل من قبل من عاصره من الرّوس، وأنّ هذه السردية عن الطغيان «التتري» وذكرياته و«النضال» ضدّه هي من نتاج الكنيسة الأورثوذوكسية في القرن السادس عشر، أي في مرحلة توحيد وتوسّع روسيا حين كانت إمبراطورية السهوب قد زالت وتفكّكت. بل إنّ تعبير «تتر» في ذاته ليس صحيحاً، فالسّلطة هنا كانت للمغول، وهم شعب فيما التتر شعبٌ مختلف في منغوليا (في أرض السلاف، كما في إيران وهنغاريا وليتوانيا، كان من شبه المستحيل على الانسان العادي أن يميّز بين المغولي والتتري والكيبتشاك، وباقي الشعوب الرعوية التركيّة. هم يملكون السّحنة نفسها، وثقافة متقاربة، ويشاركون في الجحفل والجيوش التي يقودها الخان المغولي. ولأنّ العديد من الجنود والإداريين «المغول» الذين كان يتعامل معهم الناس في إيران وغيرها في القرن الثالث عشر كانوا فعلياً من التتر، شاع الخلط بينهم وبين المغول، وراجت إلى اليوم عادة تسمية المغول بالتتر).
السرديّة الناقدة للتاريخ «الرسمي» ترى هذه الحركة بشكلٍ معكوس: روسيا هي في الأصل كيانٌ آسيوي، نسجته أساساً الخانات المغولية المسلمة


أكثر من ذلك، فإنّ المدارس الجديدة في التاريخ توضح بأنّه لولا تلك الإمبراطورية التي بناها المغول في القرن الثالث عشر، وتحديداً الفرع الذي استوطن قلب أوراسيا، فرع جوتشي، الابن الأكبر لجنكيز خان، «الجحفل الذهبي»؛ لولا تلك السلالة ودولتها مترامية الأطراف، لكان من المستحيل تصوّر روسيا وموسكو، والكنيسة الأورثوذوكسيّة نفسها، بالشكل التي نعرفها فيه اليوم. بمعنى ما، فإنّ روسيا ليست شمساً أشرقت من الغرب بقدر ما هي الربيب الذي ورث «أولوس جوتشي» (الـ«أولوس» هو الوحدة الأكبر في التنظيم المغولي، له معنى جغرافي وسلالي في آن. هو يوازي معنى «الديار» أو العشيرة الكبرى، وكلّ «أولوس» مغولي يُنسب إلى أحد أولاد جنكيز خان وإلى إقليمٍ استقرّ فيه جحفله). الجذور «الآسيوية» لروسيا هي موضوعنا اليوم، والكثير من السّرد عن دولة المغول الأوراسية هذه سيعتمد على كتابٍ صدر حديثاً للباحثة ماري فافرو بعنوان «الجحفل: كيف غيّر المغول العالم» (منشورات جامعة هارفرد، 2021). لكتاب فافرو ميزتان: أنّه يختصّ بخانة جوتشي وذريّته التي كان لها أكبر الأثر وأطول عمرٍ بين الخانات المغولية المختلفة، وهي تعاني ـــــ على ذلك ـــــ من قلّة الدراسات والمصادر. والميزة الثانية هي أن فافرو، بدلاً من أن تركّز على الصورة النمطية للمغول ومرحلة الفتح الشهيرة مع جنكيز وأبنائه، أي حكايا التنظيم العسكري وأساليب القتال وتدمير الجيوش والمدن، فهي تهتمّ بالدّولة المستقرّة التي بناها هؤلاء، وأدارت إمبراطورية آسيوية مزدهرة لقرنين تقريباً ـــــ ثمّ استولدت خانات مستقلّة (خانة سيبيريا، خانة استراخان، خانة قاسيموف، قازان، القرم، إلخ) ظلّت تحكم أكثر الأراضي التي نعرفها اليوم باسم «روسيا» (ودول آسيا الوسطى) حتى فترةٍ ليست بعيدة.

عالم السّهوب
حين وضع تيموجين (جنكيز خان) أسس دولته الجديدة، وزّع أولاده الأربعة على الأقاليم التي فُتحت، وأعطى كلّاً منهم «بذرةً» ليبني حولها جحفلاً ويستوطن تلك الأرض. هذه «البذرة» كانت عبارة عن أربعة آلاف مقاتل مغولي من النخبة. الفكرة هي أنّ أربعة آلاف فارسٍ مع عائلاتهم يوازون عشرين ألفاً؛ وإن أضفت إليهم الحلفاء والعبيد والأسرى والأقوام الرعوية المجاورة التي ستنضمّ إلى موكب الخان، يصبح لديك جحفلٌ «محترم» من خمسين ألف بدويٍّ على الأقلّ، معهم عشرات آلاف العربات ومئات آلاف الحيوانات (أكثرها أحصنة وجمال). وفي وسط الجحفل، الذي يتنقّل بين المراعي في شكلٍ مستمرّ، بلاط الخان وخيمته الملكيّة (كانت خيمة الخان عبارة عن قاعة عرشٍ واستقبالات هائلة، تحوي تحتها في المناسبات الآلاف من الضيوف ويجرّها، حين يتنقّل الجحفل، العشرات أو المئات من الثيران). أمّا الفرسان «الأصليّون» الذين أحاطوا بالمؤسّس، فهم يتحوّلون إلى «كيشيغ» للخان الجديد وسلالته، أي الحرس الخاص. والكيشيغ ليس حرساً بالمعنى التقليدي، بل هو أصبح بمثابة جهاز دولة وبيروقراطية في التنظيم المغولي، منه القادة العسكريون والـ«بيكات»، ومنه أيضاً الكتبة والمحاسبون والديبلوماسيون، وهم من يتولّى حماية وتزويد الجحفل، ويشكّلون بلاطاً وجهاز إدارةٍ ينتقل باستمرار مع الخان.
حظّ جوتشي، الابن الأكبر لتيموجين، كان الديار القديمة للكيبتشاك، التي أصرّ الخان الأكبر على أن يستوطنها المغول. هي سهوبٌ هائلة ومنبسطة، وفيها مراعٍ وأنهار عظيمة، وتشكّل عقدة قاريّة تصل بين كلّ طرق التجارة الرئيسيّة في آسيا وأوروبا، وهي تصلح قاعدةً مثالية لإمبراطورية بدوية. الأرض التي أورثها جنكيز لجوتشي وذريته شاسعة وتمتدّ على طول «الجسر الأوراسي» الشمالي، من سيبيريا وبحيرة بايكال مروراً بنهر الأورال والفولغا، ثمّ المنطقة الضخمة بين بحري قزوين والأسود، وصولاً إلى نهري الدون والدنيبر غرباً والقرم وأوكرانيا الحاليّة؛ «والأراضي التي خلفها» ولم يفتحها المغول بعد (وهي عبارة مبهمة جاءت في وصية الخان الأكبر ستسبّب خلافاتٍ وأزمات في المستقبل بين السلالات المغولية). لو أنّك نظرت إلى خارطةٍ لـ«أرض الميعاد» هذه، وإلى الدول والإمارات المحيطة التي كانت تتبع لها، فأنت لن تحتاج إلى خيالٍ واسع لكي تفهم أنك تنظر فعلياً إلى خريطة «روسيا» الحديثة.
ولكنّ قلب هذه الدّولة الهائلة لم يكن في موسكو (التي كانت مدينة صغيرة في أواسط القرن الثالث عشر، أسوارها وحصنها ــــ الكرملن ــــ وكنائسها مبنية من الخشب، ولا تقارن من حيث الأهمية والحجم بمدن سلافية أخرى مثل كييف أو فلاديمير أو نوفغورود)، بل كان في وسط روسيا، تقريباً على الخط الفاصل بين أوروبا وآسيا على ضفاف نهر الفولغا. هناك استوطن الجحفل الأساسي للخان وأصبح يتبع مسار النهر، صعوداً ونزولاً، بشكلٍ موسميّ: يبدأ بالمسير شمالاً قبل أن يحلّ الصيف، ويسافر ببطءٍ كحشدٍ هائلٍ لمئات الكيلومترات، ثمّ يستدير ويتبع الطريق ذاتها جنوباً مع بوادر برد الخريف ـــــ وهكذا دواليك. أستخدم تعبير «الجحفل»، بالمناسبة، لأنّه الأكثر شيوعاً في اللغة العربيّة، وإن كان يعطي معنىً عسكرياً غير دقيقٍ هنا (يخبرني جوزيف مسعد أن جورج طرابيشي استخدم تعبير «النقيل» لـ horde في ترجمته لفرويد، وهي صياغة دقيقة باعتبار أنّ «الجحفل»، تاريخياً، هو عبارةٌ عن حشدٍ بدويٍّ كبير يتنقّل باستمرار).
لم يكن جحفل الفولغا هذا، الذي سيتوارثه أبناء جوتشي ويظلّ الإقليم «المركزي» في الدّولة، الجحفل الوحيد الذي استوطن تلك السهوب. بحسب فافرو كانت هناك أيّام الخان باتو (المؤسس الفعلي للسلالة) سبعة جحافل بدوية على الأقل تجوب ضفاف الأنهر العظيمة ضمن «أولوس جوتشي». كان جحفل الخان، كما أسلفنا، يتبع ضفة الفولغا الشرقية، فيما يقود ابنه الأكبر جحفلاً ثانياً على الضفة المقابلة غير بعيدٍ عنه. كان هناك أيضاً جحفلٌ على نهر الأورال، واثنان على ضفتي الدون، ومثلهما على الدنيبر، يقود كلّ منهم أمير أو جنرال مغولي، ولكنها تنتسب كلّها إلى «الذرية الذهبية» ونسل جوتشي وباتو، وتأتمر بأمر الخان الذي يقيم في الفولغا. قرب مصبّ الفولغا، أقام المغول على المسار الموسمي لجحفل الخان مدينةً ثابتة هي «ساراي»، يسمّيها بعض المؤرخين «عاصمة» مع أنها لم تكن عاصمةً بالمعنى المتعارف عليه. كما تؤكّد فافرو في كتابها، فالإدارة لم تكن في ساراي، بل كانت تنتقل مع مخيّم الخان، وفي المخيّم أغلب الخدمات «المدينية» من أسواق وجوامع وكنائس متنقّلة، وبلاط وبيروقراطية كاملة. كان لساراي دور محدد، هو أن تحوي الخدمات والناس الذين لا يمكن أن ينتقلوا مع الجحفل: بعض الحرفيين والمعامل والورشات، البعثات الدينية، وأحياء التجار الأجانب والسفارات. وكان الخان يقيم بلاطه في ساراي حين يمرّ بها مرتين في السنة (وهي لا تزال إلى اليوم مدينة رئيسية على الفولغا).
بالمناسبة، حين تفهم عالم السهوب وشروطه وميزاته تفهم لماذا كان المغول يأنفون الإقامة في المدن والقلاع الحجرية، ويفضلون السكن، والنوم والسّهر، في الخيام المغولية التقليدية (الـ«غير» أو «يورت»). يجب أن نتذكّر أنه، في قبل عصر الكهرباء ومواسير المياه، كان من المستحيل أن تعزل مبنىً حجرياً كبيراً أو أن تدفئه وتضيئه بشكلٍ كامل، فكانت القصور والقلاع موحشةً ومظلمة وباردة. في الوقت نفسه، كان عليك أن ترفع، يدوياً، كلّ ليتر ماءٍ تريد أن تغتسل به أو تغسل به المكان الذي تقيم فيه ــــ أي أن الأمور اجمالاً لم تكن نظيفة. بالمقابل، تشرح ماري فافرو، كانت الخيم المغولية حميمية ودافئة ومريحة. جدرانها مصنوعةٌ من الصوف المضغوط الذي يحفظ الحرارة ويعطيها لونها الأبيض المميّز من الخارج؛ أرضها مفروشةُ بالفراء والجلود وتتناثر فيها، حول الموقد، أغطية ثقيلة وناعمة ليستلقي عليها الناس أو يجلسون ــــ وأصغر الخيام في الجحفل كانت تتسع براحةٍ لعائلة من خمسة أشخاص.
تقول فافرو إنّه، في سهوب أوراسيا تلك، راج نمطُ من الخيام لا يحتاج إلى التفكيك والتركيب كلما توقّف المخيّم في موقع، بل يتمّ رفع الخيمة على عربة وسحبها كاملةً معها، ومن ثمّ تلقى ببساطة على الأرض حيثما يتوقّف الجحفل. هذا كان متاحاً لأن أرض روسيا منبسطة وسهلة، على عكس الموطن الأصلي للمغول في الشرق، حيث تكثر الجبال والوديان. يجدر أن نذكر هنا أنّ دور «قيادة العربات» في الجحفل كانت تتولاه النساء حصراً. وتحضير العربات وربطها ببعضٍ على شكل سلسلة ومن ثم سوقها جماعياً يحتاج إلى مهارةٍ عالية وجهدٍ جسدي وتنسيق. والمرأة المغولية كان لها دورٌ ومكانة أعلى من تلك التي تجدها في أغلب مجتمعات تلك الحقبة. الأميرة تجلس على العرش على نفس مستوى الخان، وتلعب الأميرات أدواراً سياسية كبرى. الخان «بيركي»، أخ «باتو»، تحوّل إلى الإسلام لأنّه كان ابن أميرة خوارزمية مسلمة، وتبعته أكثر نخبة الجحفل. بل إنّ زواجاً حسّاساً قد فشل بين سلالتين مغوليتين، وكاد يهدد سلاماً هشاً في غرب آسيا، لأنّ الزوجان اختلفا حول الدين والفقه، كما تروي فافرو. كانت الأميرة مسلمة من سلالة باتو، فيما الأمير بوذي من أحفاد شاغاتاي (سلالة جنكيزية مختلفة)، وقد عمّت أخبار الخلاف والنفور بينهما إلى درجة أن الرحالة الأجانب كانوا ينقلون كيف أن الزوجان يتجادلان باستمرار ولا يطيق أحدهما الآخر. تضيف فافرو أنه، مما أثار اعجاب الرحالة الذين كانوا يزورون الجحفل ويسيرون معه، أن المغول في المخيم كانوا تقريباً لا يعرفون السرقة ويبقون أغراضهم الثمينة بلا حراسة، وأنهم يعاملون بعضهم البعض، بغض النظر عن فارق الجنس والرتبة والمكانة، باحترامٍ بالغ.

«خانة موسكو»
حتّى نفهم منطقة أوراسيا في القرون الوسطى، تكتب فافرو، علينا أن ننظر إلى خريطة تلك السهوب الواسعة التي حكمها الجحفل بشكل «أفقي» و«عمودي»، كرقعة الشطرنج. الخط الأفقي هو شرقي-غربي، يمتدّ أفقياً من شمال الصين ومنغوليا وصولاً إلى نهر الدانوب وحدود هنغاريا؛ وهذه السهوب كانت بمثابة «طريق سريع» مستقيم للعربات والأحصنة والقوافل. هذا ما يسمّى، اصطلاحاً، بـ«الطريق الشمالي» من طرق الحرير. أمّا الدينامية الثانية، المقابلة، فهي بين شمالية-جنوبية: تتخلّل هذه المنطقة الضخمة سلسلة من الأنهر الكبيرة، تجري اجمالاً من الشمال إلى الجنوب. هذه الأنظمة النهرية تسمح بنقل البضائع والسلع (والعبيد) بسرعةٍ وسهولة من شمال سيبيريا وروسيا والبلطيق إلى البحر الأسود وقزوين، أي إلى عتبة الصين وبلاد المسلمين والمتوسّط، حيث الأسواق الكبيرة والمدن الثرية. ازدهار أوراسيا المغولية، تقول فافرو، حصل لأن المغول أمسكوا بهذين المحورين وسمحوا بحرية التجارة والانتقال على طولهما. وإن كان محور الشرق والغرب هو «طريق الحرير» (والسيراميك والتوابل وباقي المنتجات الشرقية) فإنّ محور الشمال-الجنوب كان «طريق الفراء»، تقول فافرو. أكثر من نصف مليون قطعة فراء كانت تنتقل سنوياً، عبر أراضي الخان، من شمال سيبيريا إلى إيران والشرق الأوسط (حيث كان الفراء سلعةً فاخرة يقبل عليها الأثرياء ويزين بها الأمراء قصورهم). ربط المغول هذه السهوب ببعضها عبر نظام الـ«يام» (نظام البريد الإمبراطوري الذي تشبّهه فافرو بـ«خدمة تأجيرٍ للأحصنة تملكها الدولة») وخانات السفر، ووحّدوا الضرائب والقوانين، وحرصوا ـــــ رغم كل الظروف السياسية ـــــ أن يظلّ منفذاً وطريقاً تجارياً، على الأقل، مفتوحاً بين أرضهم وبين ممالك الجنوب وأوروبا والمتوسّط.

مفاهيم مثل «آسيا وأوروبا» و«الغرب والشرق» هي، أصلاً، مفاهيم سياسية، بعضها حديث النشأة ومعناها قد اختلف وتحوّل مع الزّمن


نصل هنا إلى دور المغول في تشكيل «روسيا» المعاصرة. في النصف الثاني من القرن الثالث عشر، أصبحت الإمارات والمدن الروسيّة جزءاً من ملك الخان، تدين له بالولاء وتدفع له الضريبة. لم يخضع الروس لسلطة المغول بسبب تفوقهم العسكري فحسب، بل لأن إمارات الروس كانت اقطاعات صغيرة وفقيرة محاطة بقوىً أضخم منها بكثير إلى الشمال والغرب (كالسويديين مثلاً). المسألة هي أنّ الحكم المغولي جعل من مدينة مثل نوفغورود، كان من المستحيل أن تحافظ على استقلالها وتجارتها، عقدة تجارةٍ عالميّة، تصل بين أراضي الخان وما خلفها، من جهة، وبين بحر البلطيق ومرافىء شمال أوروبا من جهةٍ ثانية، وصولاً إلى بولندا وألمانيا. في عهد «النير المغولي»، تكتب فافرو، بنت نوفغورود كنائساً مهيبة لأوّل مرّة، واستبدلت الكرملن الخشبي بآخر من الحجر. نشأت، في تلك المرحلة، عشرات المدن الجديدة في شمال غرب روسيا، وقد أشرفت الإدارة المغولية على بناء العديد منها. حتى الكنيسة الأورثوذوكسية قد نالت، إلى حدٍّ بعيد، موقعها المميّز في المجتمع بفضل سياسات الخان: إلى جانب تحالفه مع الأمراء والاقطاعيين الروس، عقد المغول علاقةً خاصة مع الكنيسة وأعطوها امتيازات الـ«تارخان» (أي أنها لا تدفع ضرائب، وتعفى من العديد من الشروط القانونية، ولا يتم تجنيد قساوستها). هذا، تقول فافرو، وضع الكنيسة الأورثوذوكسية في موقع امتيازٍ مقابل باقي الطوائف المسيحية في المنطقة، كالكاثوليك والأرمن، وضاعف من حجم ملكياتها، وجعل الآلاف من الشباب يتدفقون إلى صفوفها هرباً من التجنيد. أمّا «الأمير الكبير» في روسيا، الذي يحمل سلطةً رمزية على باقي الأمراء، فقد كانت علاقته بالمغول تشبه علاقة الملتزم العثماني بإسطنبول: الخان يعيّنه ويعزله، ومهمّة الأمير هي أن يجمع له الضرائب، وقد يستدعيه الخان إلى مخيّمه على الفولغا ويؤنبه ويعاقبه (أو حتى يحاكمه ويعدمه) إن فشل في أداء مهمته أو أبدى تقصيراً وفساداً.
موسكو الصغيرة، أصلاً، أصبح لها أهمية ونفوذ لأن سلسلة من أمرائها قد أقنعوا الخان بأن يعيّنهم ممثلين له بين باقي الأمراء الرّوس، وعلى حساب من هم أحقّ تقليدياً باللقب، كالأسر الحاكمة في فلاديمير وتفير وكييف. حين ضعفت إمبراطورية الجحفل وانقسمت إلى خانات محليّة في كل إقليم، واستقلّت موسكو وفرضت نفوذها على من حولها، اعتبر أميرها أنّه يبني على شرعية الإمبراطورية التي سبقته. وهو لم يتخذ لنفسه لقب «القيصر» حتّى ضمّ إلى مملكته، في أواسط القرن السادس عشر، استراخان وحوض الفولغا ـــــ أي المركز القديم للجحفل («القيصر» هو اللقب الذي كان يستخدمه الروس للاشارة للخان).

خاتمة
مثلما أن هناك انحيازاً في العالم الحديث ضدّ ما هو «آسيوي» و«شرقي»، هناك أيضاً انحيازٌ في الثقافة وكتابة التاريخ ضدّ البدو ولصالح المدن والحضر (هذا يعود، تعلل فافرو، إلى أن السلالات الرئيسية التي حكمت آسيا منذ القرن الثامن عشر كانت سلالات مدينية). إلى اليوم، يصعب على الكثيرين أن يفهموا أن المغول لم يكونوا مجرّد غزاةٍ ولم يكونوا أجلافاً وجهلة. الفارس المغولي، في القرن الرابع عشر، كان يعيش حياةً أكثر اتساعاً و«عولمة» بكثير من أهل المدن والفلاحين، الذين يقضون حياتهم في مكانٍ واحدٍ أو بين جدرانٍ وأسوار. كانت مسيرةً «عادية» لمغولي من الجحفل أن ينتقل من دياره في الفولغا أو الدون، ليحارب في حملةٍ في بولندا وهنغاريا، ثمّ يمرّ في طريق عودته بإيران، قبل أن يعود إلى موطنه في السهوب الشمالية عبر القوقاز أو آسيا الوسطى. وسيحضر هذا الانسان في حياته أكثر من «كورولتاي»، أي اجتماع شامل لقبائل المغول، يلتقي فيه بنظراء من مختلف أرجاء الأرض، حيث يشربون الـ«كوميس» وبتبادلون الأخبار. بهذا المعنى، كان المغولي الذي يرعى الجمال يعرف عن عالمه أكثر من أغلب سكان الأرض يومها. وكان قادة المغول، في تعاملهم مع الأتباع والأديان والتجارة والخارج، من أكثر السياسيين مهارةً وحذقاًَ في العالم.
ربّما أنّه لو لم تحصل جائحة الطاعون بداية من أواسط القرن الرابع عشر (وهو ما أغلق طرق التجارة وجفّف مداخيلها، فأضعف مركز الإمبراطورية و فرط عقدها)، لكانت أوراسيا تحكمها إلى اليوم سلالات آسيوية. المثير هو أن البكتيريا التي تسبب الطاعون الأسود، تشرح فافرو، قد جاءت أصلاً من قوارض تعيش في السهوب بين الرعاة؛ وقد انتقل المرض إلى الانسان، ومن ثمّ إلى المتوسط وأوروبا، عبر طرق التجارة والتبادل التي رعاها المغول، فأصبحوا ضحيّتها الأولى. الخانة الأخيرة التي صمدت من خانات «الجحفل الذهبي» الكثيرة، خانة القرم التترية، سقطت واستوعبتها روسيا في القرن التاسع عشر.
لا ضير في أن تكون روسيا «آسيوية» فمفاهيم مثل «آسيا وأوروبا» و«الغرب والشرق» هي، أصلاً، مفاهيم سياسية، بعضها حديث النشأة ومعناها قد اختلف وتحوّل مع الزّمن (وذلك تبعاً لحسابات القوة والعنصرية في العالم، وعقد الهوية والدونية لدى الشعوب المستضعفة). يتمّ حالياً إعادة تعريف هذه الأسماء ورسم حدودها من جديد، فيصبح الروس «آسيويين» والأوكران «أوروبيين» مثلاً، كأنّ هناك منطقاً لهذه التقسيمات أو كأنّ لها علاقة بالصّراع القائم. غير أنّ أعنف التنميطات والأوهام تولد من حالة النزاع والخوف، ومن الحاجة إلى التحشيد ضدّ خصمٍ تحاربه. وفي هذه المرحلة، فإنّ لا عدوّ أمام حكومات واشنطن ولندن وبرلين ــــ لا «آخر» مخيفاً ـــــ بقدر العدوّ «الآسيوي» الذي يحاذيها، و«الجحفل» التتري القادم من الشرق.