ألقى رئيس الوزراء الفرنسي جان كاستكس، خطاباً مكتوباً، بالنيابة عن رئيس الدولة إيمانويل ماكرون، في حفل العشاء الـ36 للمجلس التمثيلي للمؤسسات اليهودية في فرنسا CRIF في 24 شباط الماضي. اعتذر رئيس الدولة عن الحضور بسبب التحاقه بالمجلس الأوروبي الاستثنائي الذي انعقد بشكل طارئ لمناقشة الشأن الأوكراني. وتم العشاء بحضور بريجيت ماكرون وشخصيات بينها رئيس المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي ورئيسة بلدية باريس.استهلّ كاستكس الخطاب، بعد المقدمة، بمراجعة للإجراءات التي قام بها الرئيس ممثلاً الجمهورية تنفيذاً لوعوده أمام المجلس التمثيلي للمؤسسات اليهودية، وذلك للقضاء على الكراهية ضد اليهود، والمختبئة وراء الأقنعة على حد قوله. وأنه، وكجزء من العمل على تسمية الأمور بمسمياتها بل والإشارة إلى الشر بوضوح، بناءً عليه، أكد على تعريف العداء ضد السامية الذي تحدّث عنه في حفل عشاء المجلس ذاته منذ ثلاثة أعوام، وهو أن معاداة الصهيونية هي أحد الأشكال الجديدة لمعاداة السامية. وتعليقاً على التعريف، حاول ماكرون الربط بين مفهومين مختلفَي الأصل والمصدر وساواهما تحت الإطار نفسه. فمن جهة، العداء السامي لا وجود له خارج السياق الأوروبي. من جهة أخرى، الشخص المعادي للسامية هو شخص معادٍ لعرق معيّن، بينما المعادي للصهيونية هو معادٍ لمشروع استعمار استيطاني إحلالي. وعليه، يمكن للشخص ألّا يكترث للعنصرية العرقية وبالتالي أن يكون غير معادٍ للسامية، لكنه معادٍ للمشروع الصهيوني العنصري والإقصائي الإحلالي.
يؤكد في الخطاب نفسه على مواصلة تعقّب أي أعمال تدل على الكراهية، ويشدد على معاقبة المذنبين. ويضيف أنه، وكما وعدهم، قام بتشكيل فرق من المحققين المتخصصين في هذا الصدد على جميع الأراضي الفرنسية. كما وتطرّق إلى الأفعال المعادية للسامية الرقمية التي تشكل مصدر قلق بالنسبة إليه، مؤكداً أنهم في خضمّ التصدي لها على مستوى فرنسا وأوروبا، سواء عبر القانون المتعلق بمكافحة المحتويات الرقمية التي تحض على الكراهية أو عبر إنشاء مراكز لمكافحة الكراهية الرقمية. بالإضافة إلى مضاعفة فرق المحققين على منصة فاروس Pharos حتى تتمكن من التقصي على مدار الساعة طيلة أيام الأسبوع. بالإضافة إلى كل ذلك، أكد الرئيس على دور القوى الأمنية وقضاة التحقيق ودور المدارس خصوصاً انتقاء الأساتذة لمصطلحاتهم أثناء التدريس للمحافظة على وعي الأطفال في فرنسا في ما يتعلّق بقضية اليهود. بالإضافة إلى تجهيز فرق دعم في كل الأكاديميات، لدعم الأساتذة الذين يتعرّضون لأفعال معادية للسامية. كما وأشار إلى مجموعة من العمليات التي اهتم بأمرها؛ وهي تجديد جدار أسماء ضحايا الهولوكوست، بالإضافة إلى مضاعفة الميزانيات المقدَّمة للمدارس والكليات في هذا الصدد بدعم من الدولة. بالإضافة إلى تأسيس المركز الأوروبي لليهودية في الدائرة الـ17 في باريس بفضل دعم الدولة.
توجيه ولاء مواطنيه إلى بلد آخر أمر يتنافى مع مفهوم المواطنة الفرنسية الحاضنة لجميع المواطنين بمعزل عن الانتماء الإثني أو الديني


في سياق الخطاب، تجدر العودة إلى ما تحاول فرنسا تذكيرنا به في مناسبات عدة، وهو علمانيّتها الفرنسية التي تتوّجت عام 1905 بقانون فصل الكنيسة عن الدولة. الأمر الذي يجعل وجود مجلس يمثل المؤسسات اليهودية في فرنسا أمراً غير مفهوم في سياق عملية طويلة من العلمنة مرّت به فرنسا منذ الثورة الفرنسية حتى 9 كانون الأول من عام 1905. حيث أعلن قانون 1905 لأول مرة أن الجمهورية تضمن حرية المعتقد بمعنى أنها تضمن الحرية الدينية وحرية العبادة وعدم التمييز بين الأديان. إلا أن مبدأ الفصل بين الكنيسة والدولة يرسّخ أن الجمهورية لا تعترف بأي دين ولا تدفع له ولا تدعمه. الأمر الذي يتعارض مع كل طريقة تعاطي الجمهورية بشأن اليهود ومع المجلس التمثيلي للمؤسسات اليهودية.
لا تنتهي الغرابة بوجود هكذا مجلس ديني في فرنسا، بل بمحتوى الخطاب الصادر عن ممثل الأمة الفرنسية، والذي ذكرها مرات عدة خصوصاً حين أعرب في الثلث الأول من خطابه عن أهمية هذا العشاء بالنسبة له وبالنسبة إلى حياة الأمة الفرنسية، دون توضيح هذه الأهمية. ففضلاً عن تعاطيه المزدوج مع مواطنيه الفرنسيين اليهود، يبدي الرئيس الفرنسي استياءه من قرار الأمم المتحدة بتجاهل إقرار مصطلح «جبل الهيكل»، والذي برأيه هو تجاهل عمد وضد كل الأدلة التي تؤكد وجود الهيكل في القدس. وهنا إشارة أخرى إلى أن الرئيس لم يعد إلى أيّ من المراجع العلمية الأثرية التي أكدت عدم عثورها على الهيكل في القدس حتى اللحظة! بل ويُلحق رأيه بعلاقته الخاصة بالقدس، العاصمة الأبدية للشعب اليهودي، وأنه لن يتوقف عن قول ذلك! ونعود لنستذكر أنه يتحدث مع مواطنين فرنسيين في باريس ويربط علاقتهم كشعب يهودي بالقدس عاصمتهم الأبدية. وبعدها، يعود بالتوجّه إليهم كمواطنين فرنسيين! لتبقى غامضة السلاسة التي استطاع فيها الرئيس حمل ولاء الفرنسيين اليهود إلى القدس في وسط الخطاب، وكيف أعادهم إلى باريس في نصفه الثاني.
في ما يتعلق بتقرير أمنستي الذي لم يقرأه، أو قرأه ويحاول تسخيفه، فيلخص رأيه بالسؤال السطحي التالي: كيف نجرؤ على الحديث عن الفصل العنصري في دولة (دولة الاحتلال) يُمثل فيها المواطنون العرب في الحكومة والبرلمان وفي مناصب قيادية ومناصب مسؤولية؟
أمّا اللافت بشدة وغير مبرر في كل خطاب من هذا النوع لماكرون، فهو ربط يهود فرنسا مباشرة بإسرائيل، بل والتعاطي معهم صراحة كشعب يهودي peuple juif. فنرى في لغة الخطاب من ناحية استهانة بتاريخ دولته العلماني، وبالتالي استهانة بالوضع الاجتماعي على كل الأرض الفرنسية، بل ونرى استهتاراً بحياة الأمة التي أصرّ على ذكرها في مواضع عدة، كثمن لتملّقه أمام المجلس التمثيلي للمؤسسات اليهودية. فلتحقيق لحمة الأمة، اختار ألا يستخدم بشكل طبيعي أدوات المواطنة الفرنسية وقيمها لتعزيز أواصر المجتمع الفرنسي بجميع طوائفه، التي من غير المبرر الإشارة إليها في ظل الدولة التي أنشأت شعباً بالمعنى المدني (شعب المواطنين لا الشعب الإثني أو العرقي). دولة مدنية علمانية من المفترض أنها لا تنظر إلى الأفراد الفرنسيين إلا بنظرة مواطنين فرنسيين متساوين. بل ولم يتوانَ أن يصرّح أن أغلب ممارسي الأعمال المعادية للسامية تصدر من قبل الإسلاميين المتطرفين الذين يجعلون حياة اليهود صعبة!
أما من ناحية أخرى، فإن توجيه ولاء مواطنيه إلى بلد آخر أمر يتنافى مع مفهوم المواطنة الفرنسية الحاضنة لجميع المواطنين بمعزل عن الانتماء الإثني أو الديني. وهذا دون التطرق إلى تفسيره للكيفية التي يستطيع فيها المواطن الفرنسي اليهودي القومي الموازاة بين قومية دينية عضوية وقومية فرنسية مدنية غير عضوية، تحت حقيقة استحالة دمج نوعَي قومية متناقضَي الجذر.
إن التوجه إلى المواطنين الفرنسيين انطلاقاً من إثنياتهم الدينية أمر غير مقبول، في الوقت الذي تُعتبر المواطنة الحديثة إحدى ثمار الثورة الفرنسية التي أنتجت قيماً وأفكاراً جديدة كالتعريف الرسمي والواضح للمواطنين، والمساواة المدنية المتمثلة في توزيع متساوٍ للحقوق والواجبات، ومأسسة الحقوق الاجتماعية مدنياً، والتعبير عن مبدأ السيادة الوطنية والعلاقة بين المواطنة والأمة، وكيف تستمدّ الأمة تعريفها من المواطنة والعكس، بالإضافة إلى أفكار الدولة القومية. فما يفعله الرئيس الفرنسي اليوم هو تعزيز لهذه القوميات الإثنية، ضارباً عرض الحائط بالقومية المدنية التي حاولت المواطنة الفرنسية تحقيقها منذ مئتي عام خلت.

* باحثة فلسطينية