ما يجري في أوكرانيا عبارة عن تكثيف لصراع دولي بين قوّتين؛ واحدة تحاول تأبيد الهيمنة الإمبريالية الأميركية على العلاقات الدولية بِلا حسيب ولا رقيب ولا شريك، وأخرى تحاول التفلّت من هذه الهيمنة وإرساء قواعد توفّر توازناً بين الأقطاب العالمية. وفي هذه المقالة، ارتأيت أن أسلِّط الضوء على جانبٍ أعتبره أساسيّاً لفهم الصراع على أوكرانيا. فبالإضافة إلى موضوع تمدّد «الناتو» الذي ترى فيه روسيا خطراً وجوديّاً، وكذلك مسألة الحقوق القوميّة لسكان الدونباس ولوغانسك، تطرحُ موسكو موضوع المجموعات النازية كواحد من العناوين الرئيسية لمعركتها الحالية.
الأمم المتحدة ومكافحة تمجيد النازية
بتاريخ 16 كانون الأوّل 2020، ولمناسبة مرور 75 عاماً على انتهاء الحرب العالمية الثانية، وبناءً على اقتراح من روسيا، تم التصويت في الجمعية العامة للأمم المتحدة على قرار ينص على «مكافحة تمجيد النازية، النازية الجديدة والممارسات الأخرى التي تساهم في تسعير الأشكال المعاصرة للعنصرية، التمييز العنصري، وكراهية الأجانب وما يتصل بذلك من تعصّب». للوهلة الأولى، قد يتصوّر الإنسان أن هذا القرار كان سيحظى بدعم جميع الدول الأعضاء، وخاصة الغربيّة منها. لكن الأمر لم يكن كذلك؛ فقد صوّتت الولايات المتحدة وأوكرانيا ضد القرار. أمّا باقي الدول الغربية، فامتنعت عن التصويت تعبيراً عن عدم رضاها عن القرار. موقف قد يكون مستغرباً، لكن ما يجري اليوم قد يساهم في تفسير ذلك.

خلفية القرار والمواقف
بداية، لا بد من البحث عن هدف روسيا من وراء هذا الاقتراح، وعن سبب رفضه من قبل أوكرانيا والولايات المتحدة بتغطية من قبل الدول الغربية. تعتبر روسيا أن المجموعة النازية تمثّل ركناً أساسيّاً في النظام الأوكراني الحالي، وأن الدعاية «النازية» تمثّل أحد أهم أسلحة هذا النظام في تأجيج العداء لروسيا. لذلك، ترى روسيا أن مكافحة الدعاية النازية وما يترافق ذلك من الحد من تأثير «النازيين الجدد» يساهم، بالحد الأدنى، في تحييد أوكرانيا عن الصراع الروسي الأطلسي. فمن هم هؤلاء النازيّون الجُدُد؟
إن مُلهم النازيين الجدد ما هو إلّا ستيبان بانديرا، الذي كان من أبرز أعضاء الحزب القومي الأوكراني وتحوّل إلى زعيم له. قاتل ضد الاتحاد السوفياتي وبولندا في الثلاثينيّات، وتعاون مع الجيش النازي وكان ذراعاً له أثناء الحرب العالمية الثانية، وبعد انتهائها استمر بتنفيذ عمليات عسكرية ضد السوفيات حتى أواسط الخمسينيات. اغتاله عميل للمخابرات السوفياتية عام 1959 في ميونيخ ــــ ألمانيا. بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، أُعيد تأسيس الحزب القومي الأوكراني على الأسس السابقة ذاتها، التعصّب القومي، والنازية الجديدة، والعداء للروس. كما أُعيد الاعتبار لبنديرا، فنصبوا تماثيل له وأطلقوا اسمه على شوارع، وكان لهذا الحزب دورٌ رئيسي في الانقلاب على يانكوفتش، وبات له تأثيرٌ كبيرٌ في نظام كييف. لهذا السبب صوّت المندوب الأوكراني ضد قرار مكافحة تمجيد النازية، لأنه بدفاعه عن هذا الحزب المعني بهذا القرار هو يدافع عن النظام الذي يمثّله.
لكن، لماذا اعترضت الولايات المتحدة، «حامية» حقوق الإنسان والديموقراطية في العالم، على القرار؟ لنستعرض التبرير الذي ساقته البعثة الأميركية إلى الأمم المتحدة. فبعد الإشارة إلى الدور الأميركي في هزيمة ألمانيا النازية والتأكيد على «إدانة تمجيد النازية وجميع أشكال العنصريّة وكراهيّة الأجانب والتمييز والتعصُّب»، أكّدت البعثة أن الولايات المتحدة حاربت وتحارب «من أجل الحرية والكرامة وحقوق الإنسان للجميع ــــ بما في ذلك حرية التعبير»، وأن المحكمة العليا للولايات المتحدة أكّدت «باستمرار على الحق الدستوري في حرية التعبير وحقوق التجمّع السلمي وتكوين الجمعيّات، بما في ذلك من قبل النازيّين المُعلنين».
وبرَّرت البعثة رفضها بأن هذا القرار محاولة مستترة «لإضفاء الشرعية على روايات التضليل الروسية... التي تشوّه سمعة الدول المجاورة تحت ستار ساخر لوقف تمجيد النازية».
يمكن الاستنتاج ممّا سبق أن الهدف من وراء رفض كلٍ من الولايات المتحدة وأوكرانيا لهذا القرار هو حماية المجموعات الأوكرانية التي تمجّدُ النازية، والمبنية على الكراهية للروس، وأن الطرفين يراهنان على هذه المجموعات في صراعهما ضد روسيا. على كل حال، ليس غريباً أن يلجأ البيت الأبيض إلى هذا النوع من المجموعات والأحزاب لتحقيق أهدافه. يكفي أن نذكر «القاعدة» و«داعش» وغيرهما من الجماعات المتطرفة التي تم تغذيتها وتسهيل حركتها لتحقيق مآرب سياسية.
والسؤال إلى «رعاة» حقوق الإنسان في الغرب، إذا كان تمجيد النازيّة والكراهيّة محميّاً بالحق الدستوري الذي يكفل حرّية التعبير، فلماذا إذاً تحرمون آخرين من هذه الحرّية؟ فأنتم لا تتورّعون عن وَسْمِ كلّ من ينتقد إسرائيل والحركة الصهيونية على الجرائم المرتكبة بحق الشعب الفلسطيني بمعاداة السامية، وتجرّمونهم، وقد يصل بكم الأمر إلى طردهم أو سجنهم؟ ولماذا تهدّدون بالويل والثبور وعظائم الأمور لكلِّ أكاديمي أو إعلامي يجرؤ على تفكيك الرواية الصهيونية للتاريخ اليهودي؟ لماذا مارستم الضغط على عددٍ من الدول العربية لتعديل مناهجها الدراسية، وحذف كل ما يمكن أن يُفَسّر ضد إسرائيل، ربما بما في ذلك بعض الآيات القرآنية؟!
كشّرَ الغرب عن أنيابه، وأخرجَ ما كان بداخله من عَفَن. فبنظره مقاطعة الكيان الصهيوني من الكبائر، أمّا مقاطعة روسيا فحلالٌ ومُسْتحَبة. اتَّخذ هذا الغرب من حقوق الإنسان وحرّية التعبير قناعاً له وسلاحاً غير مشروعٍ ضدّ من لا يُطيعه. وإلّا كيف يمكن تفسير إقدام جامعة ميلانو بيكوكا الإيطالية على شطب دوستويفسكي من مقرّراتها لمجرّد أنّه روسي؟ أين حرّية التعبير لأديب روسي توفي عام 1881؟ وهل هناك أدبٌ عالميّ بدون دوستويفسكي؟
* كاتب وباحث فلسطيني