كنت قد قاربت حيثيات هذا النقش عَرَضاً قبل بضع سنوات خلال تأليفي لكتابي «نقد الجغرافيا التوراتية خارج فلسطين»، في سياق جمع وتحليل ومقارنة الأدلة الآثارية الأركيولوجية والأناسية الأنثروبولجية والتأريخية لتأكيد شمولية الجغرافيا الفلسطينية الكنعانية واتساعها واحتوائها على العديد من المكوّنات بهدف إعادة الحدث العبراني واليهودي عبر الرواية التوراتية المؤدلجة إلى حجمها الحقيقي. وعلى اعتبار هذا الحدث جزءاً صغيراً وهامشياً ناله التحريف والمبالغات من متن الرواية الكنعانية الفلسطينية الأشمل، استناداً إلى الأدلة الآثارية التي لا تُحصى على صحتها ومركزيتها. وضمن مسعى دحض وجهات النظر التأثيلية «الإيتمولوجية»، والصوتية النطقية «الفونولوجية» والنحوية والصرفية «المورفونولوجية»، الخالية من أي دليل آثاري ملموس، والباحثة عن جغرافيا توراتية في إقليم عسير السعودي أو في اليمن أو في إثيوبيا.
السواح والصليبي ونقش سلوان
وفي هذا السياق البحثي، كنت قد اقتبستُ ما ذكره الباحث فراس السواح ردّاً على التقديم غير الدقيق لهذا النقش من قبل الباحث الراحل كمال الصليبي، فكتبت في مقالة لي («الأخبار» عدد 03/04/2019) بعنوان «القدس هي أورشليم الكنعانية الفلسطينية»، والتي هي جزء من أحد فصول كتابي السالف الذكر، كتبتُ: «أن تلك القناة المذكورة في التوراة باسم بركة سلوام ما زالت آثارها قائمة، ويسمّيها الفلسطينيون بركة سلوان، وقد اكتشفها المنقب الآثاري وارن سنة 1867، ثم عاد إلى دراستها الآثاري باركر ونظّفها سنة 1911، وأخيراً، عادت الباحثة الآثارية البريطانية كاثلين كينيون سنة 1961 إلى تنظيفها وتنظيمها وتوثيق أنها تعود إلى ألف وسبعمئة سنة قبل الميلاد. أمّا القناة التحت أرضية لجر المياه من نبع نهر جيحون، فالنبع ما زال قائماً، واسمه المعاصر عند الفلسطينيين هو نبع مريم. وقد عُثر في داخل القناة النفقية على نقش حجري يصف لحظة الانتهاء من حفر القناة، ويصف لنا كيف التقى العمّال القادمون من جهتَي القناة في موضع محدد. ونصُّ النقش موجود كاملاً، وقد اقتبسه السواح عن كتاب ولفنسون «تاريخ اللغات السامية» (دار القلم، بيروت 1980 ص 83)». واضح في هذا الاقتباس أنني لم أؤكد صحة ترجمة ولفنسون وتحليلاته ولم أدرجها في مقتبسي. فالحديث لم يكن حول صحة أو خطأ تلك الترجمة، بل ركزتُ على ردِّ السواح على تفسيرات وتقديم الصليبي له ضمن سياق دفاعه عن عسيرية التوراة. وهذا هو السياق الذي كتبت فيه بدوري حين تطرّقت إلى موضوع مكان النقش وليس إلى محتواه وترجمته.
ولكنَّ الزميل الباحث أحمد الدبش ــــ الذي أحيّي شجاعته الأدبية والبحثية التي عبّر عنها في تراجعه عن كتاباته المدافعة عن «يمنية الجغرافيا التوراتية» في مقالة نشرها في «الأخبار» عدد 25 حزيران 2021 بعنوان «عودة عن خطأ السنوات المبكرة: لم يحتضن اليمن ملوك بني إسرائيل» في موقف بحثي نقدي نادر عربياً يُحسَب له ـــــ أقول إنَّ الصديق أحمد، اعتبر في مقالة أخرى له في «الأخبار» أنني أتبنى التفسير أو القراءة التوراتية للنقش الذي قال به إسرائيل ولفنسون، واقتبسه عنه فراس السواح؛ وهذا تفسير غير دقيق، فما ذكرته كان في سياق تفنيد الرواية التوراتية ككلّ وتعضيد الرواية الأخرى الآثارية والأناسية الحديثة الداحضة للأولى.
ثمّة العديد من الأغاليط، والتخمينات التلفيقية التي لم ترد في النقش: فهو أولاً ليس مكتوباً باللغة التي يسمّونها «عبرية التناخ»


لقد كان السواح يرد على التفسيرات غير الدقيقة التي قدّمها كمال الصليبي لهذا الاكتشاف، والتي قال إنها تفسيرات «تقدّم نصف المعلومة للقارئ غير المتخصّص للحكم على قضية بالغة التخصص»؛ بل ويقدّم الصليبي بعض المعلومات بشكل غير صحيح، كقوله إنّ النقش الحجري عُثر عليه «في سلوان قرب القدس»، مع أنَّ الحقيقة تقول إنه عُثر عليه في داخل قناة سلوان في داخل حدود القدس»... إلخ. وهذا هو السياق الذي كتبت فيه بدوري حين تطرّقت إلى موضوع مكان النقش وليس إلى محتواه وترجمته تلك. وقد يكون الزميل أحمد معذوراً في الخروج باستنتاج كهذا، إذْ إن مقالتي ــــ كما ذكرت ــــ هي قسم مجتزأ من فصل طويل من كتابي ذاك، ولأنني لم أذكر وجهات النظر المخالفة لترجمة ولفنسون للنقش لعدم تطرّقي إليها أصلاً، إنما كان يجدر بي فعل ذلك من باب العلم بالشيء، وهذا نقصٌ سياقيٌّ أتحمّل مسؤوليته شخصياً برحابة صدر.
ولتبديد أي سوء فهم محتمل سأقدّم في هذه الدراسة قراءة تحليلية مقارِنة لعدة قراءات وترجمات مختلفة لواحد من أهم النقوش الآثارية المتعلقة بتاريخ مدينة أورشليم القدس عاصمة فلسطين وهُويتها الحضارية، محاولاً عن طريق التحليل المقارِن إثبات أن ترجمة نص النقش وتحليله ووصفه تعرّض لنوع من أنواع التوظيف الغرضي والتحريف الأكيد. وستكون هذه المقالة، واحدة من سلسلة مقالات للتعريف بعدد من أهم النقوش والنُّصب والمسلات المهمّة، والتي ثبُت أنها مزوّرة أو مشكوك فيها أو وُضعت في سياق تاريخي خاطئ غير سياقها.

استسهال الاتّهام بالتزوير وأضراره
قبل ذلك، أودّ أن أسجّل هنا تحفّظي على استسهال اتهام أي طرف كان بالتزوير، دون تقديم أية أدلة معتبرة وملموسة، كما يفعل بعض الكتاب العرب الذين يعالجون هذه القضايا العلمية التخصصية الآثارية والأناسية بلغة وطرائق النثر السياسي «الكفاحي» القاطعة والجازمة البعيدة عن منهج التساؤل والشك المنهجي والتحليل العلمي الهادئ والرصين. إن تزوير الآثار والوثائق والأدلة التاريخية من قبل ذوي الغرض الديني والسياسي، وخصوصاً أصحاب الخطاب الإيديولوجي الصهيوتوراتي، أمر واقع وحقيقي، وهناك أمثلة موثّقة عليه، لكنه ليس عملية سهلة وروتينية وعامّة لكل آثار فلسطين القديمة. ثم إن هناك تزويراً فجّاً لأثر ما، وقد تم إثباته علمياً بالأدلة القاطعة وأُخرج الأثر المعني من دائرة الآثار الحقيقية بناءً على ذلك، وهناك أيضاً ــــ إلى جانب ما تقدّم ــــ الشكوك والاتهامات التي تحوم حول أثر أو وثيقة أو ترجمة معيّنة أو أن الأثر كان صحيحاً ولكنه تُرجم بشكل خاطئ أو تم العبث به وتوظيفه غرضياً إلى هذه الدرجة أو تلك كحالة «نقش سلوان» الذي نحن بصدده، ولذا يُستحسن التفريق بين الأمرين حتى لا يتحوّل البحث المنهجي إلى اتهام ثم إلى حكم تجريمي مسبق. لقد أصبح من المعتاد في أيامنا أن تتدخّل في عملية إثبات صحة أو زيف أي مادة آثارية عدّةُ مجالاتٍ وأدواتٍ علمية تندرج تحت تخصصات مختبرات الكيمياء والفيزياء وعلوم الضوء والتحليل بالكاربون المشعّ والأشعة الحرارية الضوئية وعلم طبقات الأرض (الجيولوجيا) وعلوم اللسانيات والصوتيات والمقارنات السردية التاريخية.
ثم إن الإنصاف والموضوعية العلمية يوجبان علينا أيضاً تسجيل أن هناك باحثين وخبراء أجانب، وحتى في المؤسسة الأركيولوجية الإسرائيلية أحياناً، شاركوا فعلاً في كشف عمليات تزوير وتحريف آثار ووثائق تاريخية عديدة وفنّدوها، مؤكدين بذلك وجود بعض الباحثين الذين يحترمون العلم والتخصص المهني، أو الذين يفعلون ذلك تحت وطأة المنافسة المهنية بين التيارات البحثية والباحثين الأفراد. ومن أشهر الأمثلة على ذلك؛ كشف تزوير «نقش تل القاضي» الذي يطلق عليه التوراتيون «نقش تل دان» المكتوب باللغة الآرامية القديمة، واعتبروه الدليل الحاسم على حكم سلالة «بيت داود» في العصر الحديدي وبالتالي على تأريخية ما روته التوراة بخصوصهم.


نقش آخر نُسب الى ملك يهوذا (ياهوآش) الذي جاء ذكره في الروايات التوراتية على أنه ملك يهوذا الذي قام بأعمال ترميم لـ«هيكل سليمان»، وكُتب هذا النقش أو اللوح الحجري بأسلوب يماثل الأسلوب الذي كُتبت به فقرات من التوراة حين وصف هذه الحادثة. وبعد فحص وتدقيق وجدالات طويلة بين الباحثين، تفوّقت حججُ القائلين بأن نقش ياهوآش مزوّر وأعلنت هيئة الآثار الإسرائيلية، في مؤتمر صحافي عُقد في القدس في 18 حزيران 2003، أن «الكتابة على النقش تزوير حديث». وعادت القضية إلى الظهور مجدداً بعد عقد تقريباً وتدخّل فيها القضاء الإسرائيلي؛ صرّح القاضي أهارون فركش في القدس في 14 آذار 2012 أنه «لا يوجد دليل على تزوير أي من القطع الأثرية الرئيسية، وأن النيابة فشلت في إثبات اتهاماتهم بما لا يدع مجالاً للشك». ولكن، ورغم ذلك، حكم العلماء الذين يقرؤون النصوص القديمة ويحللون لغتهم وكتاباتهم فقد جاء واضحاً: «لن يتضمّن أي كتاب مدرسي للنقوش العبرية القديمة ما يسمّى بنص يهوآش، ولا يوجد مؤرخ من إسرائيل القديمة سوف يحسب النقش كمصدر، ولن يقوم أيّ من النحويين أو من مؤلفي المعاجم من العبرية القديمة بتضمين الكلمات أو العبارات أو الأشكال الموجودة في النقش كبيانات حقيقية» (تقرير مفصّل يحتوي على ترجمة لما ورد في هذا النقش، والمعلومات التي اقتبسناها في هذه الفقرة من مدونة stringfixer الترجمة العربية).
قد ساهم في كشف التزوير عددٌ من الباحثين الإسرائيليين، في مناسبة سابقة، من بينهم نداف نعمان، المؤرّخ والأستاذ في جامعة تل أبيب، وغرينشتاين، خبير اللغات الجزيرية «السامية» والأستاذ بجامعة تل أبيب، وزئيف هرتسوغ، رئيس قسم الآثار في جامعة تل أبيب وصاحب الدراسة المثيرة «التوراة: لا إثباتات على الأرض»، ورولستون، الخبير بالنقوش السامية القديمة ورئيس تحرير مجلة «Maarav» المتخصصة باللغات والكتابات الجزيرية «السامية»، الذي رأى أنه «ليس من الصعب فضح التزوير في هذا النقش لأنه ليس متقن الصنع ولا يمكن أن يؤخذ بجدّية على أنه قديم»، كما ذكر عصام سخنيني، من كلية الآداب بجامعة البتراء، في مقالة له حول الموضوع. ومن خارج فلسطين المحتلة، من أوروبا، ساهم في كشف تزوير هذا النقش كل من الباحثين غاربيني وكيرير وليمشي.
أمّا الباحث الرافض لتأريخية التوراة، فنكلشتاين، فقد تورّط في الدفاع عن القراءة التوراتية المزيّفة لنقش تل القاضي «دان»، في كتابه «التوراة مكشوفة على حقيقتها»، ص251، وقد انتقدتُ قراءته الخاطئة هذه وقدّمت محاولة لتفنيد ما ذهب إليه في الفصل الثاني من كتابي السالف الذكر.
وفي هذا السياق، فقد خلط بعض الباحثين والكتاب العرب المهتمّين بالشأن الآثاري والتاريخي بين هذين النقشين، «نقش تل القاضي» - «دان» و«نقش يهوآش»، واعتبرهما البعض نقشاً واحداً وهذا غير صحيح جملة وتفصيلاً. وسوف نخص هذين الأثرين بوقفة تعريفية وتحليلية خاصة في مناسبة أخرى ضمن هذه السلسلة التعريفية التحليلية بأهم الآثار التي تعرّضت للتزوير أو التحريف أو التوظيف الإيديولوجي الغرضي.
إنَّ استسهال إطلاق الاتهامات بالتزوير دون دليل أو قرينة أو حجة مُفحِمة وحاسمة يضرُّ بمطلقها ويفقده صدقيته ويحوِّله من باحث جاد ورصين في ميادين البحث العلمي الآثاري والأناسي والتأثيلي والتأريخي إلى خطيب سياسي شعبوي هجّاء لا أقل ولا أكثر. ونعود الآن إلى نقش سلوان:

التعريف بنقش سلوان
نقش سلوان هو عبارة عن كتابة منقوشة على جدار حجري في نفق يقع في حي سلوان ضمن الحي القديم في القدس. يخلّد النقش مشروع حفر النفق المائي الذي ينقل مياه نبع جيحون إلى داخل أسوار مدينة أورشليم القدس. وقد اكتُشِفَ هذا النقش على الجدار الحجري سنة 1880 خلال العهد العثماني، وبعد عشرة أعوام تقريباً، أي في عام 1891، اقتطع شخص مجهول ــــ وفق بعض الروايات ــــ هذا النقش من الجدار وأخرجه من النفق كشظايا وقطعٍ مكسَّرة، وبعد ذلك تم ترميم ولصق أجزائه ونقل إلى متحف إسطنبول!
يستمد هذا النقش أهمّيته القصوى من كونه الدليل الأهم في جعبة حملة الخطاب التوراتي الذي يدلل ــــ من وجهة نظرهم ــــ على تأريخية التوراة، حيث أجروا مطابقة متعسّفة تقوم على التحريف وكسر السياق والتخمينات العشوائية بين محتوى النقش وبعض الفقرات التوراتية التي تتحدّث عن إنجاز الملك التوراتي حزقيا، الذي لم يرد ذكر اسمه أو صفته أبداً في النقش، «وكيف عمل البركة والقناة وأدخل الماء إلى المدينة»، والواردة في «سفر الملوك الثاني، الإصحاح الـ 20، 20» وفي «سفر أخبار الأيام الثاني، الإصحاح الـ 32، 30». وسنرى أن العكس هو الصحيح، وأن هذا النقش يؤكد كنعانية القدس والنفق المائي المذكور ولا علاقة له بالحدث العبراني اليهودي وفق الرواية التوراتية.
من الواضح أن ولفنسون خلط بين الملك حزقيا أحد ملوك مملكة يهوذا حسب التوراة وحزقيال وهو نبي أو كاهن توراتي


إن النقش، كما تُظهِر صوره المعروضة في مواضع كثيرة من الموسوعات الحرة على الإنترنت، مكتوب بلغة قديمة هي الكنعانية كما يرى أغلب الباحثين، فيما يعتبر بعضهم أن الكنعانية القديمة هي أصل تفرّعت منه مجموعة لغات أو لهجات في عموم بلاد كنعان حتى فينيقيا وأرض آرام شمالاً، ولكنّ التوراتيين المعاصرين يعتبرونها «لغة عبرية قديمة»، أو أن العبرية القديمة كانت موجودة كلغة مستقلة إلى جانب الكنعانية، فينشرون تحت صورة نقش سلوان ترجمة له بالخط العبري الحديث في عملية إيحائية فجَّة ليخرجوا من ثم بالحكم التالي الذي تكرّره الموسوعات المفتوحة نقلاً عن كتاب إسرائيل ولفنسون: «النقش مكتوب بالعبرية التوراتية، أي باللغة نفسها التي كُتبت بها معظم أسفار العهد القديم (التناخ)، بالأبجدية الفينيقية. يلائم نصه مقطعين من الكتاب المقدس يسردان مشاريع الملك حزقيا الذي ملك على مملكة يهوذا في القرن الثامن قبل الميلاد...».

نقد الترجمات التوراتية للنقش
في الأسطر القليلة السالفة ثمّة العديد من الأغاليط، والتخمينات التلفيقية التي لم ترد في النقش: فهو أولاً ليس مكتوباً باللغة التي يسمّونها «عبرية التناخ». ونعلم أن بعض أسفار التوراة الأقدم كُتب بلهجة من لهجات الآرامية وليس بالعبرية ويسمّونها «آرامية التوراة». وهو ليس مكتوباً بالحروف العبرية، فلا وجود العهد ذاك لأبجدية عبرية أو «قلم عبري» كما يسمّيه ولفنسون، بل بالأبجدية الكنعانية القديمة التي هي أمُّ الأبجدية الفينيقية الشمالية كما يمكن الاستنتاج. ولكن محرّر النص دفعته كما يبدو هواجسه التوراتية المتأصّلة ضد كل ما هو كنعاني فحاول الهروب من أي ذكر للكنعانية والكنعانيين ونسب الأبجدية إلى فينيقيا شمالاً. ومن المعبّر جداً والطريف أن التوراتيين القدماء والمعاصرين يسمّون اللغة الكنعانية أحياناً وبقصد الإساءة لها «لغة الحياة اليومية» أو «لغة العامة/ الشعب» وهم بذلك يعترفون بأصلها كلغة الشعب وأهل البلاد الأصليين ــــ الكنعانيين ـــــ دون أن يقصدوا ذلك، بل وعلى النقيض ممّا يقصدون من تهميش للكنعانيين والكنعانية!
ثم إن النقش ــــ ثانياً ــــ يخلو تماماً من أي تاريخ محدّد، ولا يمكن بالتالي نسبته إلى القرن الثامن ق.م، أو لما قبله أو بعده بقليل، إلا بإجراء فحوصات علمية بالكاربون المشع بمختلف تدرجاته أو بالقياس الضوئي الحراري الحديث، ولم يعد ذلك ممكناً على الأغلب بعد انتزاع النقش من جداره وترميمه ونقله إلى المتحف.
وثالثاً وأخيراً، فلم يرد في النقش أي ذكر للملك حزقيا أو غيره. وهناك أمور أخرى تتعلّق بحيثيات ترجمة النقش كُشف النقاب عنها في ترجمات أكثر دقة سنوردها بعد قليل، وسأدرج أدناه نص الترجمة التي قدّمها التوراتيون لهذا النقش إلى اللغة العربية في الموسوعة الحرة على الإنترنت:
«[انتهى؟] النقب. وهذا كان أمر النقب. بينما... البلطة، رجل إلى أخيه، وما زالت ثلاثة أذرع ليحفروها، سُمع صوت رجل يدعو إلى أخيه إذ كان صدى في الصخر من اليمين واليسار. وفي يوم النقب ضرب النقابون رجل تجاه أخيه، بلطة إلى بلطة، فذهب المياه من المخرج إلى البركة ألفاً ومائتين ذراع، ومائة ذراع كان الصخر فوق رؤوس الناقبين».
وهذه أدناه ترجمة إسرائيل ولفنسون التي لا تختلف كثيراً عن السابقة، أنقلها نصاً عن ص 83 من كتاب ولفنسون «تاريخ اللغات السامية» مع تعليقه عليها وعلى بعض القِطع النقدية من عهود لاحقة في السياق ذاته:

«(1) النفق. هذا خبر النفق: بينما (النحّاتون) يرفعون
(2) الأزمة [= معول] كلّ رجل إلى رفيقه، وبينما (بقي) ثلاث أذرع للنحت، سُمِعَ صوت رجل ينادي
(3) أخاه لأنّه وجد ثقباً في الصخر من ناحية اليمين، وفي يوم
(4) انتقابه [= ثقبه] ضرب النحّاتون رجلاً أمام رجل (متقابلين)، أزمة [= معول] على أزمة [= معول]، وذهبت [= سالت]
(5) المياه من النبع إلى البركة مسافة مائتين وألف ذراع ومائة
(6) ذراع. وكانت قمّة الجبل فوق رأس النحّاتين».

ويعلّق ولفنسون على النقش بعد الترجمة بالقول: «النقش يصف عملية النحت في الجبل لجلب مياه البركة وُجدت داخل سور المدينة. والنفق عُمِّر في عهد الملك حزقيال أي حوالي 700 ق. م.، ويوجد هذا النفق على حالته الأصلية إلى الآن»... «وهذا النقش مكتوب بالقلم العبري الذي يقترب في هجائه من النقوش الكنعانية التي لا تستعمل بعض الحروف الدالة على الحركات» ص 83.
ومن الواضح أن ولفنسون خلط في هذه الفقرة بين الملك حزقيا أحد ملوك مملكة يهوذا حسب التوراة، هو ابن الملك آحاز الذي حكم من سنة 715 إلى سنة 686 ق. م.، وحزقيال وهو نبي أو كاهن توراتي، عُرف باسم السِّفر الذي كتبه وحمل اسمه «سفر حزقيال» وقد عاش ما بين سنتي 622 ق. م. و570 ق. م. وكان حزقيال من اليهود المسبيّين الأوائل لبابل في سنة 597 ق. م. والنقش يُنسب في العادة إلى الملك التوراتي حزقيا لا إلى النبي حزقيال، وقد يكون هذا الخلط ناتجاً عن خطأ طباعي لم ينتبه له المؤلف.
لكي يدلل ولفنسون على صحة معلوماته بخصوص اللغة والأبجدية اللتين كتب بهما النقش، يقفز عدة قرون إلى الإمام، وينشر على ص 84 صوراً تخطيطية لعُملات نقدية، قال إنها ورقية، مع أن الصور توحي بأنها معدنية، فلم يكن للعملات الورقية أي وجود قبل الميلاد؛ العُملة الأولى من سنة 139 ق. م. أثناء فترة سيطرة المتمرّدين الميكابيين «اليهود» وزعيمهم شمعون ضد الحكم السلوقي على أجزاء من منطقة أورشليم القدس، والقطعة النقدية الثانية تعود إلى سنة 67 بعد الميلاد وخلال فترة التمرّد اليهودي ضد الحكم الروماني في المنطقة ذاتها.
بمعنى أن ولفنسون يريد إقناعنا بصحة معلومات آثارية لغوية من القرن السابع قبل الميلاد بأدلة أركيولوجية تعود لأكثر من خمسة قرون تالية لها، وهذا منهج تأليفي لا يمكن لأي أركيولوجي يحترم العلم أن يأخذه على محمل الجد!
وأخيراً؛ هل هناك فعلاً أبجدية عبرية أو «قلم عبري» سابق للأبجدية الكنعانية، وما حقيقة الاختلافات الكبيرة بين الترجمة التي قدّمها هو للنقش وعدة ترجمات حرفية أخرى؟ وماذا تبقّى من هيكل الرواية الصهيوتوراتية بعد أن سقطت هذه الدعامة المهمة من دعائمها؟ ألا يؤكد كل هذا أولوية المتن والحضور الكنعاني وهامشية الحضور العبراني اليهودي في فلسطين القديمة؟ هذه الأسئلة وغيرها تحتاج إلى وقفة تحليلية مفصّلة أخرى تجيب عليها.

* كاتب عراقي