يعيش عالم المال هذه الأيام حالة من النشوة الناتجة من تحكّمه المفرط في يوميات العالم من دول وحكومات ومؤسسات وأفراد، مستفيداً من حالة الفوضى القائمة من السياسات العالمية وحالة الإرباك الاقتصادي والاجتماعي التي تعيشها البشرية، ومرتاحاً لعقم الرؤى التغييرية وعدم وجود سلطة مقابلة؛ رادع سياسي أو أيديولوجي أو حتى أخلاقي. وقد وصلت النشوة بعالم المال هذا للإفصاح بكل وضوح عن أجندته في هذه السنوات الأخيرة، فليس من حاجة لاستحضار نظرية المؤامرة لأن اجتماعاتهم ومؤتمراتهم ووسائل إعلامهم تتحدّث بصراحة مطلقة عمّا يخطّطون للبشرية في المرحلة المقبلة. جاءت «كورونا» كما المنّ والسلوى «نافذة منفعة نادرة لإعادة بناء العالم» بغية الإسراع في تنفيذ أجندتهم في ظل هذه «الفرصة التاريخية التي ستسمح بتغيير قواعد اللعبة العالمية» كما قال كلاوس شواب، مؤسّس ومدير «المنتدى الاقتصادي العالمي» في دافوس.
في وقائع عالم المال ما قبل كورونا
- في 18 تشرين الأوّل عام 2019، أي قبل بداية كورونا وقبل خروج النشرات العلمية والإعلامية بعد أشهر عن وجود الجائحة في الصين، اجتمع في نيويورك خليط كبير من الشخصيات العلمية المتخصصة في أبحاث علم الأوبئة مع كبريات مؤسسات عالم المال، مايكروسوفت، Big Pharma، Big Data، GAFAM: «غوغل»، «آبل»، «أمازون»، «فايسبوك»، «بيل غيتس» (التي موّلت مشروع تجارب اللقاحات النانو جزئية في أفريقيا: تجارب على البشر وليس على الحيوانات)، ممثّل عن التجمّع من أجل اللقاح المعروف بالـ GAVI، ومسؤولة سابقة في الـ CIA.
لم يكن الاجتماع بناءً على تفويض رسمي لا من حكومات ولا دول ولا أية منظمة عالمية رسمية. المجتمعون يمثّلون أقوى مؤسسات المال العالمي والدائنين المخفيين لمعظم دول العالم. افتتحت الاجتماع المديرة المساعدة للشؤون الصحية لجامعة جونز هوبكينز الأميركية بالتركيب والمشاركة في سيناريو محاكاة جائحة عالمية حادة. لم يكن الاجتماع لتبادل الآراء العلمية في التشخيص والعلاج بل تمريناً خيالياً لإدارة الأزمة الناتجة من الجائحة المفترضة والخروج بتوصيات لمواجهة التحديات الناجمة عنها: الاجتماعية والاقتصادية، وبخاصة المالية. السيناريو كان تفصيلياً بشكل مذهل: انتقال الجائحة من الحيوان إلى مربي الحيوانات مع ظهور عوارض شبيهة بالإنفلونزا، تتحوّل بعدها إلى التهابات صدرية ومن ثم انتقالها بالهواء لتصبح جائحة عالمية قاسية «تطيح بملايين البشر حول العالم وتعطّل الاقتصاد العالمي حيث يخسر الناتج القومي أحد عشر نقطة وتخسر البورصات العالمية ما بين 20% إلى 40%، وتُجمّد استدانة المؤسسات من البنوك العالمية». وطالبت مديرة «جونز هوبكنز» أنيتا سيسرو المجتمعين بإنشاء مجلس طوارئ مؤلف من المؤسسات المالية الخاصة والقطاع الصحي والمجتمع المدني (للعلم فقط، فهذه المؤسسات المالية الحاضرة هي مؤسسات عالم المال من دون منازع وذات تأثير كوني يتخطى الدول والحكومات)، مهمّته الخروج بتوصيات محدّدة على غرار «خطة مارشال اقتصادية ومالية».
- في نفس شهر تشرين الأول 2019 حصلت قمّة في بروكسل ضمّت المفوضية الأوروبية ومنظمة الصحة العالمية (الممولة بشكل رئيسي من مؤسسة بيل غيتس ــــ تصل إلى حدود الـ 50% من ميزانيتها) خلصت إلى روزنامة محددة لاعتماد جواز لقاحي إجباري وشامل (دائماً وللتذكير قبل ظهور الجائحة) يحمله كل أوروبي في تنقلاته اعتباراً من عام 2022، مع خريطة طريق مفصّلة بغية جس نبض الردود الشعبية عليه وتمريره وهضمه من قبل الأوروبيين، بخاصة في ما يتعلّق بالمواكبة الإعلامية للخطة ودور وسائل التواصل والمؤسسات التكنولوجية المتخصصة ومراقبة الآراء المخالفة ومنع الـ Fake News أي «المواقف المعارضة». وقد سمّيت بـ«الخطة رقم 9». وكأنهم يحاكون ما يحصل حالياً حيث يُحجب الإعلام عن شخصيات علمية معروفة عالمياً في علم الأوبئة (وبينها حائز على جائزة نوبل) ورفع الدعاوى ضدها ونعتها بالمختلّة عقلياً كما هو مثال فرنسا هذه الأيام. وكأننا نعيش اليوم، مع كورونا، ما اخترعوه قبل أشهر من بداية الجائحة (وكأنهم كانوا يتقفون علينا خلف الأبواب ويسرقون أسرارنا العلمية ليصنعوا منها خطة عمل للمرحلة المقبلة في ما يشبه الروايات الكلاسيكية الاستشرافية!).

استقبال عالم المال لكورونا
- تحدّث كلاوس شواب عن الجائحة كونها الحدث المحرّك باتجاه «تحوّل الإنسانية». هذا الرجل الذي يعرف وزن كلماته ووقعها على الطبقة الحاكمة في العالم. فهو يقول «كثيرون يتساءلون متى سنعود إلى ما كانت عليه البشرية ما قبل كورونا. وأقول لهؤلاء: العالم الذي عرفناه قبل بداية 2020 مع كورونا لم يعد موجوداً. يجب أن لا نضيّع هذه اللحظة التاريخية التي ستسمح بتغيير قواعد اللعبة. أتوجه إلى صانعي العالم (Faconneurs Moudiaux) بالتفكير وتخيّل إعادة بناء العالم». وصدى دعوته لصانعي العالم أتت من المديرية العامة لصندوق النقد الدولي بقولها «لا نريد العودة إلى الوراء بل يجب استخدام كل طاقاتنا من أجل بناء عالم جديد انطلاقاً من حقائق كورونا».
إعادة بناء العالم، بحسب شواب، مبنيّة على وقائع فرضتها كورونا، مثل العمل عن بعد وتبنّي التكنولوجيا الرقمية بسبب الحجر الصحي المفروض على الحكومات والأفراد، وقد صرّح في 24 تموز 2020 بأنه للمرة الأولى منذ الحرب العالمية الثانية، نشهد انعطافة تاريخية في إنتاجية المجتمعات البشرية قائمة على التحوّل والتبعية للرقمي الكامل في كل القطاعات: التجارية، والصحية، التعليمية، إلخ... وكثيرون من قادة هذه المؤسسات التكنولوجية لاحظوا أن الأشهر القليلة من الحجر الصحي حقّقت تقدّماً في الاستعمال الرقمي يوازي عدة سنوات. وكذلك رئيس «مايكروسوفت» الذي قال إن الجائحة تسرّع في الاستعمال الهائل للتكنولوجيا الرقمية مما يجعلنا على عتبة بناء عالم جديد عنوانه: الرقمي هو الثورة الصناعية للقرن الحادي العشرين.
نحن، إذاً، أمام تغيير جذري للمجتمع مستفيداً من الجائحة، سيصل إلى خلق إنسان جديد ملاصق للآلة. ولا يخفي عالم المال خريطة طريقه: تسريع سير البشرية في تقاطعها مع النانو تكنولوجي والبيوتكنولوجي وعلوم الكمبيوتر وعلم الإدراك المعرفي (NBIC). يتحدّث شواب عن أن الجائحة، ومن خلال المراقبة الصحية، أي الجواز اللقاحي، ستفتح الباب لعالم المراقبة الكاملة على البشر في تحديد مكان التواجد، التعرّف إلى الوجه من خلال العدسات التصويرية، والتواصل الذهني معهم من خلال رقائق (micro puces) توضع تحت الجلد أو في الدماغ، ومعرفة مزاجهم (بمعنى آخر سنتحوّل من وجهة نظر المراقب الرقمي إلى أشياء حتى نثبت العكس).
وهذه ليست المرة الأولى التي يتحدّث فيها عالم المال عن الدمج ما بين هوياتنا البيولوجية والتكنولوجيا الرقمية، ففي 23 كانون الثاني من عام 2016 وخلال اللقاء السنوي لمنتدى دافوس، رحّب عالم المال بقدوم تقنية «الحمل بحسب الطلب»، أي معرفة جنس الطفل، وضعه الذهني والجسدي اللاحق؛ بما يعني التحضّر لولادات بمواصفات معروفة سلفاً: طاقة ذهنية عالية، عيون زرقاء، بنية جسدية وعضلات قوية تتحمّل عناء التعقب اليومي (وكأنهم يتحدّثون عن الروبوت المنافس للإنسان).
- في آخر كانون الثاني عام 2021، دعا منتدى دافوس كبار الدول الصناعية إلى اجتماع حضره رؤساء الدول الكبرى، مثل الصين وفرنسا وألمانيا واليابان وغيرها. كان النقاش يدور تقريباً من جانب واحد هو منتدى دافوس، عن تداعيات كورونا وتأثيرها في الوصل ما بين التكنولوجيا الآتية (روبوت، ذكاء اصطناعي) والمواطن الرقمي. خرج بعدها الرئيس الفرنسي ليعلن أنه وزملاءه «قد خسروا اللعبة وأن هناك أسياداً جدداً للعالم مع هذا الزمن الآتي الذي بدأ مع كورونا، وأن عمالقة التكنولوجيا الرقمية وكبار شركائهم الماليين هم من يتحكّم بعقارب ساعة هذا الزمن».
وللتذكير، فإن منتدى الاقتصاد العالمي – دافوس تحوّل في العشرين سنة الأخيرة إلى منصة حوار (أو قرية عالمية كما يسمّونها) لكبار النخبة المالية والسياسية يتهافتون عليها لرصد حركة العالم المالية ورسم النظم المستقبلية للاقتصاد العالمي من خلال أجندة رأس المال. وغالباً ما يحضر إلى دافوس الكثير من رؤساء الحكومات طلباً لنصيحة مالية أو مساعدة للحصول على قروض لبلادهم. وكلاوس شواب، مؤسس ورئيس المنتدى، يُعتبر من أكثر الشخصيات تأثيراً في عالم المال (عندما يرفع سماعة تلفونه، فهو يستطيع أن يتصل بأي شخص على سطح الكرة الأرضية)، وهو صاحب الكتاب الشهير عن إعادة بناء العالم: Great Reset.

في خدمة عالم المال
يتضح مما تقدّم، أن الجائحة شكّلت منجماً من ذهب لعالم المال. نذكر، على سبيل المثال لا الحصر، أرباح «أمازون»، بلغت خلال أربعة أشهر من الحجر المنزلي 24 مليار دولار، وكذلك شركات التصنيع الدوائي ومنها «فايزر» التي وصلت أرباحها في الستة أشهر الأولى من استعمال اللقاح إلى الخمسين مليار دولار.
يريد عالم المال من كورونا أن تدوم الوقت الكافي لإعادة بناء عالم قائم على تكنيس المؤسسات العامة والخاصة وإلغاء الوظائف. «بعشرات الملايين»، بحسب تصريح المدير العام لـ«مايكروسوفت»، يسمح بإعادة بناء قطاعات قائمة على الرقمية مثل فرص العمل، التسوّق، التربية، الطبابة ووسائل الترفيه كافة، إلخ... وباستمرارية التباعد الاجتماعي والحجر المنزلي، تقول دافوس إن عودة الاقتصاد القديم، أي ما قبل كورونا، يصبح مستحيلاً. فأصحاب المؤسسات، وهرباً من الإفلاس المحكم، سيتجهون نحو التشغيل الآلي ونحو إلغاء الوظائف اليدوية، وسيكون الرابح هو الرقمي حليف الروبوتات والذكاء الاصطناعي.
أمّا المواطن العادي، فسيتحوّل إلى «مستهلك عالمي» تحت تأثير السوق، مع سهولة مراقبة سلوكه وانفعالاته ونمط تفكيره من خلال المراقبة الصحية (أي من خلال الجواز اللقاحي)، مما يسمح بالانتقال السهل من السياسة إلى البيوسياسة: سلطة السياسة في مراقبة وإدارة الجغرافيا، وسلطة البيوسياسة في مراقبة وإدارة الأفراد.
وكذلك الدول والحكومات التي سترى نفسها، أمام ارتفاع نسبة الفائدة، عاجزة عن دفع ديونها ومجبرة على تسديد الدين العام على أكتاف الأجيال القادمة. ناهيك عن إنهاكها وقيمة استلامها لعالم المال الذي سينقضّ على الاستثمار في قطاعات حياتية مثل الصحة والتربية والمأكل والتنقّل وغيرها. مارك روكر برك بدأ يتحدث عن أن «فايسبوك»، بقراراته الداخلية، بدأ يشبه شكل حكومة سياسية أكثر مما يشبه شركة تقليدية.
ولن ينجو قطاع الخدمات الصحية من هذا الفرز الاجتماعي الكبير، حيث قلّة من الأثرياء ستملك مقدّرات مالية هائلة، مع التطوّر التكنوبيولوجي، تحلم بالأزلية، بينما قسم المعوزين الفاقدين للقدرة على الحياة يعيشون في العتمة بانتظار الموت المحتّم، بما سيسمح لهذه الإمبراطورية التكنولوجية أن تتربع تدريجياً على عرش العالم وتصبح الطبقة الحاكمة العالمية. لأن من يملك التكنولوجيا والمال يصبح الآمر الناهي، خلف الجدران، لأفراد تعدادهم حالياً بالمليارين من مستخدمي وسائل التواصل، وتصبح معهم القوى التقليدية من دول وجيوش ومعامل عديمة التأثير في إحداث أي تغيير.
تبقى أخيراً الإشارة إلى أن مشروعية التساؤل عن سبب عقم الرؤى التغييرية وعدم خلق سلطة رادعة لجشع عالم المال داخل المجتمع والطبقات الاجتماعية بمجملها، تفضي إلى الشك بوجود تقاطع أو تلاقٍ ما بين حركة عالم المال وحركة المجتمع. هذا التقاطع، إذا كان موجوداً فعلاً، فهو لن يكون الأوّل. فقد سبق، برأينا، أن حصل ذلك بينهما وتبيّن في التاريخ الحديث:
- التقاطع الأوّل في أواخر الستينيات، كان عنوانه حرية حركة رأس المال والبرجوازية في استثمارات خارج الحدود الوطنية، بالتزامن مع حرية حركة المجتمع في التعبير والمساواة والمرأة والرغبات (أيار 1968) تحت شعار: لا حدود – لا قيود (no border - no limit) بما أسّس لخروج رأس المال من حدوده الداخلية والاتجاه نحو عولمة توطين الاستثمارات وعولمة سوق الاستهلاك العالمي.
- التقاطع أو التلاقي الثاني حصل في عام 2015 مع «الأجندة 2030» التي نوقشت في الأمم المتحدة واعتُمدت كخطة عمل في تشرين الثاني عام 2020 (أي في صميم الحجر المنزلي المفروض) مما سمّي يومها بـ«قمة الأفق الأخضر» حيث تلاقى مدافعو البيئة (الديموقراطيين والاجتماعيين) مع عالم المال في الرؤية التي تقضي بأن الحجر المنزلي يساعد على المحافظة على البيئة لأن من شأنه انخفاض الانبعاثات الكربونية (بمعى آخر ارتفاع الاستهلاك الرقمي). مع العلم بأن مراكز الداتا الضخمة تلوّث أكثر من المدن «من الآن ولغاية عام 2025، سيلوّث الرقمي ثلاثة أضعاف ما يلوّثه الطيران المدني في العالم».
إذا كنا نعيش فعلاً هذه الأيام أمام تقاطع ثالث وتناغم ما بين حركة عالم المال الواضحة المعالم وحركة المجتمع القائمة على الحسابات قصيرة المدى والاستنزاف المعيشي، فإن الواقع يقول بأن عشرات الملايين من الأشخاص حول العالم قد أصبحوا تحت خط الفقر منذ بداية الجائحة. في الوقت نفسه (ما بين 18 آذار و19 أيار 2020)، زاد المجموع العام لثروة مئة ملياردير أميركي حوالي الـ 434 مليار دولار، وزادت ثروة أول خمسة مليارديريي أميركا 75 ملياراً (بيزوس، بيل غيتس، زوكربيرغ، بافت وأليسون).
كل الدراسات تشير إلى أن الطبقة الوسطى، بكل انتماءاتها المهنية والاقتصادية وحتى الفكرية ستكون أكبر ضحايا هذا الهجوم المالي. هذه الطبقة الوسطى، المعروفة بإبداعها الفكري، يميناً ويساراً، إضافة إلى موقعها الاقتصادي والاجتماعي داخل كل فئات المجتمع، مدعوّة اليوم إلى الخروج من نفق الاستنزاف اليومي والاستسلام للأمر الواقع المالي، وإلى مواكبة التغييرات الحاصلة في العالم وخلق ميزان قوى بمواجهة هذه السلطة العالمية الجديدة والسعي لتشكيل سلطة رادعة محلية، إقليمية وعالمية، من أفراد ونقابات ومجتمع مدني للتصدّي لعالم المال الذي سيزداد وحشية في السنوات المقبلة مع دخول الروبوتات والذكاء الاصطناعي منافساً شرساً بوجه الإنسان.

* طبيب لبناني أخصائي في جراحة الأعصاب مقيم في فرنسا