للجيل الرابع، لا تزال الكويت دؤوبة على التنكّر لحق بعض أبنائها في الانتساب. «البدون»، قضية قديمة متجدّدة، نسجت شبكة متقاطعة بين المصالح الداخلية والخارجية خيوطها عليها، وأهال عليها العالم، خصوصاً المتشدّق بالإنسانية والحقوق والحريات، التراب وغض نظرة عنها. وما إن يطمئن حكام الكويت إلى تكميم الأفواه قبل دفن القضية، حتى تطفو ثانية إلى السطح المطالبةُ بالحق التاريخي والإنساني، معرّية في كل مرة الكيانات والجهات المتشدّقة بحقوق الإنسان وهياكلها «النفعية». والمحرومون، أو ما يوصفون بالـ«بدون» في الخليج، والكويت تحديداً، هم نتاج تاريخ طويل من العنصرية والتعالي في المجتمع الكويتي تجاه «الآخر»، أكان «غريباً» أم من بني الجلدة، في دولة تصنّف على أنها «ديموقراطية خليجية».
تصميم: علي فرّان

آل الصباح ينزلون من نجد
في أوائل القرن الثامن عشر، نزلت قبيلة بني عتبة (ومنهم آل الصباح) من نجد، المنطقة الوسطى من شبه الجزيرة العربية، لتهجر أسلوب حياتها البدوي الرعوي لتأسيس أسلوب حياة يعتمد على الصيد البحري والغوص بحثاً عن اللؤلؤ والتجارة والملاحة البحرية في منطقة المرفأ الطبيعي الذي سيصبح في النهاية مدينة الكويت.
بدأت الكويت، كغيرها من المدن والقرى، بجماعات قليلة جاؤوا إليها مكرهين لا مختارين من شتى أنحاء الجزيرة العربية، لظروف سيئة أحاطت بهم واستحكمت عقدها بينهم وبين بني عشيرتهم، فغادروا إلى مكان تتوافر لهم فيه الحياة، فكانت الكويت محطاً للرحال. قدِمت بعد نزول بني عتبة مجموعاتٌ صغيرة متنافرة ومتباينة الطباع والأساليب، يجتمعون على حاجتهم إلى وطن جديد، ومع تزايد التفاعل الاجتماعي والاقتصادي بين سكان الكويت، وفي ظل الوضع الجديد، ظهرت حاجتهم لوجود حكومة تحفظ لهم حقوقهم، وتمنعهم من تعدّيات وعدوان القبائل الأخرى، وصدّ الهجمات المتتالية من جيش ابن سعود وابن عبد الوهاب، فوقع الاختيار على الأمير صباح بن جابر العتبي كأول أمير للكويت.
اشتغل أهل الكويت منذ عام 1710 بالبحث عن اللؤلؤ وصيد السمك، وتخطّت أعداد القوارب المشتغلة الـ800، يعمل بها أكثر من 10 آلاف شخص. بدأت الكويت تتسع مع قدوم قبائل أخرى نازحة إليها، إمّا فارّة من قبائلها أو بسبب تعاظم دور ميناء الكويت اقتصادياً. استغلّ شيخ الكويت عدم وجود دور للحكومة المركزية ــــ الخلافة العثمانية آنذاك ــــ فبدأ يوسّع من نفوذه على الأراضي المحيطة ليتّسع لحجم التجارة المتزايد نتيجة انهيار ميناء البصرة بعد أن ضربه الطاعون عام 1773.
ومع تعاظم الثروات القادمة من اللؤلؤ والتجارة وتزايد أعداد الوافدين، ظهرت بعض التغيّرات التي أفضت إلى تكوين مجتمع طبقي بعد مرور 50 عاماً فقط من إنشاء الكويت. قُسّم المجتمع الجديد إلى ثلاث طبقات بحسب نفوذ العائلة؛ طبقة السلطة قسّمت بين ثلاث عائلات، هم: عائلة صباح بن جابر التي تولّت مقاليد الحكم بعد ذلك إلى يومنا هذا، وخليفة بن محمد وعائلته التي كانت تسيطر على صيد اللؤلؤ، وسيطرت عائلة الجلاهمة عن طريق الشيخ جابر بن رحمة على رعاية البحر والميناء. أمّا الطبقة الوسطى فكانت تتكوّن من الحرفيين والتجار، والطبقة الدنيا كانت تتكوّن من غالبية السكان من عامّة الطبقة العاملة وغير المنتمين لعائلات نبيلة.
مع ظهور الطبقة النبيلة ظهر احتياجهم إلى الكثير من الخدم. بحسب تقاليد البادية، كثرة الخدم والعبيد دليل على مكانة الشخص. لكن لم يكن شراء أو بيع العبيد جانباً من جوانب التجارة الكويتية، ولكن «العبيد المنزليين»، وُلدوا في أسر لأبوين عبيد ربما كانوا في عائلة واحدة لعدة أجيال، إذ يقول المؤرخ البريطاني جون لوريمر، إنه في عام 1904 كان عدد سكان الكويت 35 ألف نسمة، من بينهم 4 آلاف من العبيد المنزليين.
ويرجع كثرة العبيد خلال حقبة ما قبل النفط إلى ثلاثة عوامل، هي: الحرب، والاختطاف، والفقر. ففي خلال السنوات الأولى لتأسيس دولة الكويت دخلت القبائل القوية في حروب ضد بعضها في فترات الجفاف، وعن طريق تلك الحروب وقع كثير من الناس أسرى ثم أخذوا بعد ذلك كعبيد، يتم وهبهم أو بيعهم. والسبب الثاني «الاختطاف» حيث كانت تتشكّل عصابات تدخل القبائل المجاورة لها فتخطف أبناءها لتبيعها بعد ذلك مرة أخرى كعبيد. ولاقى الخطف رواجاً في مجتمع سواحل الخليج، حتى إنه كان من بينهم أمير من أمراء الكويت امتهن عمل القرصنة في بحر الخليج هو الأمير دعيج الجابر الصباح. أمّا السبب الثالث، فكان «الفقر» حيث كانت تلجأ بعض العائلات، أثناء القحط والمجاعات في المجتمعات المجاورة، إلى بيع أطفالها، فكان يقسّم العبيد أنفسهم إلى أقسام: المستورد من الخارج - من ولد في الكويت - عبيد بيض - عبيد ملونون من أفريقيا وآسيا.

بداية التغيير: ظهور البترول
«تعرّض مجتمع الجزيرة العربية منذ اكتشاف البترول لجملة متغيّرات، عصفت به واقتلعت إرثاً اجتماعياً متكاملاً، ومسّت بعمق نفسية الإنسان ونمط سلوكه الاجتماعي» ـــ أنور عبدالله.
كان لجغرافيا دولة الكويت، الضئيلة نسبياً، أثر كبير على مجتمعها وسكانها، فهي من الناحية الاقتصادية مطمع لمكانتها التجارية على بحر الخليج، مما ترتب عليه من زرع عدم الاستقرار داخل سكانها، فأرضهم مهدّدة بشكل دائم منذ القدم. ففي ظل غياب دور الدولة العثمانية عمّا يحدث في شبه جزيرة العرب، تُقرّر حدود «الدولة» عن طريق فرض القوة والنفوذ عليها. وعلى الرغم من بعض المحاولات لإخضاع الكويت للسيطرة السعودية أو العراقية، فإنها بقيت متماسكة وصدّت تلك المحاولات، حتى بلغت أقصى مساحة لها (17818 كيلومتراً مربعاً)، تقع في الركن الشمالي الغربي من الخليج العربي الذي يحدّها من جهة الشرق، ومن الشمال والغرب جمهورية العراق، ومن الجنوب المملكة العربية السعودية، فهي تظهر كأنها مقتطعة من الأراضي السعودية أو العراقية.
ظلّت دولة الكويت، منذ نشأتها، خارج إطار الدولة العثمانية. فلم تتواجد إدارة مدنية عثمانية داخل الكويت ولم تتواجد حامية عسكرية، كما أن الكويتيين لم يخضعوا للتجنيد في الجيش العثماني، ولم يدفعوا أي ضرائب ماليّة للعثمانيين. بقي الوضع هكذا حتى وقّع الشيخ مبارك الصباح في 23 كانون الثاني 1899 اتفاقية الحماية مع الإمبراطورية البريطانية.
كان لتدفق النفط أثر عظيم على التركيبة الأنثربولوجية للبدوي الذي كان يعيش في الحواضر أو بقي في الصحراء، فظل متمسّكاً بعاداته وتقاليده


كانت الحياة في المجتمع الكويتي قد انتظمت لما أقرّته القبائل صاحبة السلطة من تقسيم للمجتمع، فظلّت القبائل الثلاثة المسيطرة على السلطة والمال في الدولة تجني ثروتها من التجارة والصيد، حتى تغيّر كل شيء لحظة اكتشاف النفط. أوائل القرن العشرين، وبالتحديد عام 1913، بدأ النفط يأخذ مكانته أثناء الحرب العالمية الأولى ثم الثانية، فأضحى معروفاً أن من يملك النفط يملك النصر (يصف السياسي الفرنسي هنري بيرانجيه، في كتابه «ملك العالم الجديد»، تعقيباً على انتصار الحلفاء على النازية في الحرب العالمية الثانية، أنه «ما كان الانتصار الذي نلناه ليتم لولا دم آخر هو دم الأرض، الذي نسمّيه النفط»). فما إن هدأت طبول الحرب حتى أخذ النفط مكاناً في تشكيل العالم الجديد، وبعد معرفة أهمّية السيطرة على منابع النفط أثناء الحرب، اكتشفت أهميته الاقتصادية بعد دخول مشتقاته في مجالات الصناعة المختلفة.
اكتشف النفط في الأراضي الكويتية عام 1938، ثم تسارعت عمليات التنقيب بعد ذلك، فدخلت الكويت في صراع مع بريطانيا من أجل التفاوض على حصص أكبر من النفط لكنها لم تتلق ما طمحت إليه. ظل الشعب الكويتي يرى ثروات بلاده تنهب أمام ناظريه لأكثر من عشرين عاماً، حتى عام 1961 إلى أن ألغيت الحماية واستقلت الكويت. ظهر بعد الاستقلال وبداية تأسيس الدولة لمحات من الدولة المدنية الحديثة ممزوجة بالنظام القبائلي القديم. ففي عام الاستقلال، فتحت الدولة باب طلب الجنسية الكويتية، الأمر الذي ينافي دور الدولة في حصر سكانها، خصوصاً في حالة مثل دول الخليج كان عدد كبير من قاطنيها يعيشون في الوديان وغير مرتبطين بالدولة، الأمر الذي نتج منه بعد ذلك مئات الآلاف من «البدون».
لم يستفد المجتمع الكويتي من النفط حتى منتصف السبعينيات، فبعد أزمة النفط العالمية التي حدثت جراء تضامن الدول العربية مع مصر وسوريا في حربهما ضد الكيان الصهيوني عام 1973، ارتفعت أسعار النفط العالمية بشكل عظيم، وبعد عودة الصادرات الكويتية للعالم عام 1975 قامت الدولة بوضع مخططات لتوزيع ثروات النفط، فتم تصميمها لضمان وصولها إلى جميع المواطنين الكويتيين، بالإضافة إلى تمويل مشاريع التحديث داخل البلاد.
كان لتدفق النفط أثر عظيم على التركيبة الأنثربولوجية للبدوي الذي كان يعيش في الحواضر أو بقي في الصحراء، فظل متمسّكاً بعاداته وتقاليده، فكان يفضّل اللقب القبلي على اللقب العائلي. كما إنه يعتبر المهنة/ الحرفة تحط من المنزلة الاجتماعية والشرف القبلي، فظل يحتقر المهن الحرفية والزراعة. فهم كانوا يعتمدون على تبادل البضائع قديماً، ثم مع تدفّق ثروات النفط لم يواكب البدو العصر فظهرت فجوة بينهم وبين التطور الصناعي الزراعي العالمي. بعد النفط، ظل البدوي يعيش في خيمته ويمتلك جمله إلا أنه يمتلك أيضاً سيارة فارهة وتلفازاً وأدوات منزلية حديثة، ويستخدم بضائع أجنبية الصنع.
بالنسبة للعبيد، بقيت الممارسات المحدودة للاتجار بالعبيد في الكويت بعد اكتشاف النفط، حتى أصدر شيخ الكويت مرسوماً في 1924 بتجريم الاتجار بالعبيد بشكل رسمي. قدّرت الأعداد الإجمالية للعبيد في أواخر القرن العشرين بـ 5 آلاف، حصل منهم ألفان على حرّيتهم، بينما ظل 3 آلاف مستعبدين. تقلّصت أعداد العبيد في الكويت بشكل كبير نتيجة للقوانين والمعاهدات التي التزمت بها دولة الكويت. فبعد حصول العبيد على حرّيتهم كانوا يعملون بشكل حرّ بعد ذلك في الكويت ويحتفظون بالمال لأنفسهم. لم يرحّب المجتمع الكويتي في البداية بتحرير عبيدهم بشكل مباشر، لكن الظاهرة اختفت بشكل تدريجي من الأراضي الكويتية ابتداء من عام 1940، ومع تدفق عائدات النفط عام 1946 مع إرسال أول شحنة نفطية، تم دمج العبيد المحرّرين في المجتمع الكويتي.
القفزة الاقتصادية الهائلة في الكويت، من اقتصاد صيد وتجارة إلى اقتصاد يقوم على الثروة البترولية، أدّت إلى تغيير في تركيبة المجتمع. تم خلق طبقة عمّال لم تكن تعرف أراضي الكويت من قبل، لعدم اعتماد المجتمع على الصناعة والاكتفاء بعمّال الميناء والصيد المستعبدين. تم الاعتماد على العمالة الرخيصة من الخارج بشكل ضخم للعمل في المشاريع النهضوية في الكويت، بدايةً من التعليم وشبكات الكهرباء والمياه وإنشاء الطرق والمواصلات وتشكيل مؤسسات للدولة، حتى أصبح عدد العمّال المستقدمين من الخارج ضعف عدد سكان الكويت.
تم خلق طبقة عاملة في المجتمع بموازاة خلق طبقة برجوازية محدودة في القبائل التي كانت تمتلك السلطة والنفوذ من قبل اكتشاف النفط. وفي عام 1959 تم وضع قانون ينظّم الجنسية الكويتية. بموجب المادة 6 من قانون الجنسية، تعتبر الدولة كل من يأتي بما يثبت أن أجداده كانوا في الكويت أثناء عام 1920 أو قبله مواطناً من الدرجة الأولى. ثم عدّل القانون رقم 70 في عام 1966 بالتمييز بين المواطنين من أصل كويتي، وبين المواطنين من الدرجة الأولى، المجنسين، وبين المواطنين من الدرجة الثانية، الأجنبي الذي حصل على الجنسية. فلا يحق لمواطن الدرجة الثانية أن يترشّح للانتخاب أو يعطي صوته في أي استحقاق خلال عشرين عاماً من تاريخ حصوله على الجنسية. كما أن القانون نص على أن تفقد المرأة الكويتية جنسيّتها حين تتزوّج من أجنبي. كل ما أتى بعد ذلك من تمييز بين ثري وعامل ومواطن درجة أولى وثانية وبين الرجال والنساء... كان ينمّي العنصرية في الكويت.
الأمر ظهر جليّاً أيضاً في تعامل الدولة مع «غير المعترف بهم»، إذ ظهرت بعد الثراء الفاحش الحاجة إلى جنود لحفظ الأمن داخلياً و خارجياً، في ظل استحاله تجنيد وتجنيس غرباء وعدم رغبة القبائل الثرية في تشغيل أبنائها. بدأت الدولة في النظر إلى مئات الآلاف من «البدون». بحسب الإحصائيات، قبل إقدام العراق على غزو الكويت عام 1990، كان معظم «البدون» يخدمون في سلكي الجيش والشرطة، حيث بلغ تعدادهم وفقاً للتقديرات الرسمية نحو 350 ألف نسمة.
يشير أنور عبدالله، في كتابه «البترول والأخلاق»، إلى أن الفيضان البترولي قد ألحق بتلك الجذور تشوّهات قاتلة، في علاقتهم مع بعضهم وعلاقتهم مع أسرهم والغرباء عنهم، فانقطّعت حياتهم الجديدة عن جذورهم وعاداتهم وتقاليدهم بشكل خاطف. فمسّ ذلك التغيّر نفسيّة الإنسان ونمط سلوكه الاجتماعي، ما أدّى إلى انهيار منظومة العلاقات الاجتماعية، من دون أن يتجاوزها المجتمع إلى بديل آخر ينبغي أن يكون أفضل من سابقه. اضمحلال العادات التي يتميّز بها مجتمع الصحراء، ترك المجال لأخرى هشّة هجينة ومشوهة، تزيد في تغريب إنسان هذه المنطقة وتعمّق مأساته.

مراجع:
- «البترول والأخلاق»، أنور عبد الله
- «تاريخ الشعوب العربية»، ألبرت حوراني
- «من هنا بدأت الكويت»، عبد الله بن خالد
- «التمايز الاجتماعي والعرقي في الكويت»، وليد المنيس
- «عرب الصحراء»، هارولد ديكسون
- «ملك العالم الجديد»، هنري بيرانجيه

* من أسرة «الأخبار»