هذا النص مترجم عن الإنكليزية بالتعاون مع موقع «Liberated Texts»

بدت طائرة IAI-201 Arava، بلونها الأخضر الداكن وهيكلها البيضاوي الشكل، كفاكهة أفوكادو بجناحين، ولهذا السبب كان يطلق عليها طيارو القوات الجوية المكسيكية لقب «الأفوكادو». قامت شركة الصناعات الفضائية الإسرائيلية بتطوير هذا النوع من الطائرات بعد حرب الأيام الستة عام 1967، لكنها فشلت بعد سلسلة من الاختبارات الفاشلة والحوادث المميتة في جذب المشترين المحليين، عسكريين كانوا أو مدنيين.

وعلى إثر ذلك، نقل مسؤولو الشركة تركيزهم إلى الساحة الدولية، وتحديداً أميركا اللاتينية، حيث كانت السوق الرئيسية لمبيعات الأسلحة الإسرائيلية خلال السبعينيات والثمانينيات. جرى تصميم الطائرة لتكون بطيئة وذات إقلاع وهبوط صعب وقصير، وقادرة على حمل ما لا يقل عن 20 راكباً. فوجدت هذه الطائرة طلباً من مشترين لاتينيين، وخاصة الحكومات المشاركة في عمليات مكافحة التمرد وما أطلق عليه «الحرب القذرة». لقد شاهدت هذه الطائرة بنفسي خلال دراستي لحركات حروب العصابات وإرهاب الدولة في ولاية غيريرو جنوب المكسيك. فقد استخدمها المسؤولون العسكريون المكسيكيون انطلاقاً من قاعدة جوية على مشارف أكابولكو لإلقاء الأشخاص، الذين وسموا بـ«المخرّبين»، في مياه المحيط الهادئ ضمن سلسلة من «رحلات الموت».
مستوحاة من عمل للفنان السوري برهان كركوتلي تحيّة لزاباتا وعبد القادر الحسيني (هبة ياسين)

بعد أقل من عقد، سافر الصحافي الغواتيمالي فيكتور بيريرا إلى بلده الذي ولد فيه للتحقيق في ما اصطلح عليه «دبلوماسية أوزي». فمنذ عام 1978 على الأقل، أصبحت إسرائيل المورّد الرئيسي للأسلحة لمجموعة من الأنظمة العسكرية المتتابعة. واكتشف بيريرا أن فرق الموت والقوات الخاصة المسؤولة عن قتل وإخفاء الآلاف من الغواتيماليين كانوا يستخدمون رشاشات أوزي الإسرائيلية. وأثناء زيارته لبلدة شيشكاستينانغو، صادف أفراداً من البلدة يهمّون بدفن أحد أقاربهم قتل على يد الجيش. وعندما سألهم بيريرا عمّا إذا كانوا يريدون القتال أو الانتقام، أجابه حفّارو القبر: «حتى لو أردنا الانضمام إلى المقاتلين، فمن أين نحصل على السلاح؟ يخبروننا في الكنيسة أن العدل الإلهي يقف في صف الفقراء، لكن حقيقة الأمر أن الجيش هو من يحصل على الأسلحة الإسرائيلية».
ومن هنا يتساءل المرء، لماذا تشجّع الحكومة الإسرائيلية مبيعات الأسلحة وتسليع معارف وخبرات مكافحة التمرّد وتوفيرها لأنظمة أميركا اللاتينية خلال أكثر سنوات العنف التي شهدتها هذه المنطقة منذ الاستقلال؟ ولماذا باع الإسرائيليون أسلحة متطورة لديكتاتورية عسكرية في الأرجنتين بين أعوام 1976-1983 وهي نفسها التي قامت بتعذيب الصحافي جاكوبو تيرمان في سجون عسكرية مزيّنة بالصليب المعقوف وصور هتلر؟ الأمر الذي أدى إلى تأطير الصراع بطريقة معادية للسامية على هذا النحو: «للأرجنتين ثلاثة أعداء رئيسيين، كارل ماركس لأنه حاول تدمير المفهوم المسيحي للمجتمع، سيغموند فرويد لأنه حاول تدمير المفهوم المسيحي للعائلة، وألبرت أينشتاين لأنه حاول تدمير المفهوم المسيحي للزمان والمكان». ومن ثم لماذا ستوفّر إسرائيل العشرات، إن لم يكن المئات، من المستشارين العسكريين لأنظمة فرق الموت في أميركا الوسطى، مثل الديكتاتورية العسكرية الغواتيمالية في أوائل الثمانينيات والتي ارتكبت إبادة جماعية ضد سكان المايا الأصليين في البلاد؟

التربٌّح من الإرهاب
يقدّم الباحث الفلسطيني بشارة بحبح بعض الأجوبة عن كل ذلك في كتابه «إسرائيل وأميركا اللاتينية: البعد العسكري» (1987). حيث قام بحبح وهو المدير المساعد السابق لـ«معهد الشرق الأوسط» في «هارفرد»، والمحرّر الصحافي، بوضع تجارة الأسلحة بين إسرائيل وأميركا اللاتينية ضمن سياق «ضرورة لا بد منها». فوفقاً لبحبح، فقد أدّت الصناعات العسكرية المحلية الإسرائيلية بعد عام 1967 دوراً مركزياً في الاقتصاد الإسرائيلي، حيث إنه بحلول عام 1984 كان نصيب الفرد من الدين الخارجي في الاقتصاد الإسرائيلي الأعلى على مستوى العالم. إذ أصبحت الصناعات العسكرية، بدعم مكثّف من الدولة، نوعاً من البديل لعمليات الاستيراد، وبشكل يزوّد البلاد بأسلحة متطوّرة، وخصوصاً خلال الأزمات والحروب (كمقاطعة الأسلحة الفرنسية خلال حرب 1967 ومرة أخرى عام 1969). والأهم من ذلك، كان تطوير قطاع التصدير يعوّض الميزان التجاري السلبي، بالإضافة إلى تراجع ميزان المدفوعات. من ثم نصل إلى نتيجة على الشكل الآتي: أصبح نصيب الفرد من صادرات الأسلحة الأعلى عالمياً بحلول عام 1985، حيث شكّلت صادرات السلاح حوالى 16 في المئة من إجمالي الصادرات. وعلاوة على ذلك، وبحلول عام 1982، وظّفت الصناعات العسكرية ما يقارب 40 في المئة من القوة العاملة الصناعية في البلاد و10 في المئة من إجمالي القوة العاملة.
شكّل هذا الواقع حاجة داخلية تمليها الضرورات الوحشية للاستعمار الاستيطاني والحروب التوسعية ضد الدول المجاورة، فشكّلت العسكرة الإسرائيلية قطاعاً من قطاع التراكمProvince of Accumulation إذا ما استعرنا من روزا لوكسمبورغ، يعتمد بشكل رئيسي على صادرات الأسلحة. في الواقع، وبحلول السبعينيات والثمانينيات من القرن المنصرم كان الاقتصاد الإسرائيلي بأكمله يعتمد على هذه الصادرات. وبتعبير بحبح، فإن «كل القطاعات الاقتصادية الأخرى كانت مجرّد اشتقاق من القطاع العسكري»، وهذا ما يشمل مبيعات الأسلحة للديكتاتوريات العسكرية وأنظمة فرق الموت في أميركا اللاتينية.
فلأجل دعم اقتصادها باعت إسرائيل رشاشات الأوزي لفرق الموت في غواتيمالا وطائرات Arava لرحلات الموت لسلاح الجو المكسيكي، وهذا تحديداً ما قصده بيريرا بعبارة «دبلوماسية أوزي».
من هنا، تنطلق الدراسة الموضوعية لبحبح حول اعتماد إسرائيل على صادرات الأسلحة وما ينجم عنها من عواقب اقتصادية وسياسية داخل حدودها وخارجها. وعلى وجه الخصوص، يحلّل بحبح العواقب التي تتعلّق بالحكومات والمجتمعات والأفراد خلال السبعينيات والثمانينيات في أميركا اللاتينية، والتي تعدّ أكبر سوق للسلاح الإسرائيلي وللعملاء العسكريين الذين يوسمون بشكل ملطف بأنهم «مستشارون».
يكشف الفصلان الأوّلان من الكتاب السياسة الرسمية للدولة تجاه الصناعات العسكرية وكذلك تاريخ الأبعاد الداخلية لتطور هذه الصناعة والتي تعكس في نهاية المطاف الهدف الرئيسي: تحقيق الاكتفاء الذاتي العسكري والاستقلال عن المصدّرين الأجانب لدوافع تتعلّق بالأمن القومي. ومع ذلك، وبحلول منتصف السبعينيات، تجاوز حجم الإنتاج العسكري حجم الطلب المحلي، فأدّت عمليات التصدير هذه إلى تحفيز ديناميكيات أنتجت تطوراً في القدرات الصناعية، ولكن مع الإبقاء على اقتصاد وطني مثقل بالديون بشكل مزمن، ومعتمداً على المساعدات الخارجية. وهو ما سيؤكد أن الاستقلال عن استيراد الأسلحة وتحقيق الاكتفاء الذاتي أمر غير واقعي.

تصدير الأسلحة ومكافحة التمرّد
يتمثّل الجزء الأكبر من دراسة بحبح حول أميركا الجنوبية (الإكوادور والأرجنتين) وأميركا الوسطى (السلفادور ونيكاراغوا وهندوراس وكوستاريكا وغواتيمالا). ويتتبّع بحبح لماذا وكيف برزت هذه المنطقة كمشترٍ رئيسي للأسلحة الإسرائيلية، وذلك عبر البحث في عشرات الصحف والكتب السنوية الحكومية، بالإضافة إلى إجرائه ما يقارب العشرين مقابلة مع خبراء ومسؤولين حكوميين ومقاتلي حرب عصابات. وتوفر الروابط التاريخية هنا جزءاً من الإجابة، حيث يشير بحبح إلى أن جميع دول أميركا اللاتينية تقريباً كانت قد دعمت التطلعات الصهيونية بين أعوام 1947 و1947، بما في ذلك الدور المباشر الذي قام به مسؤولون دبلوماسيون من الأوروغواي وغواتيمالا في تصميم خطة التقسيم. فسرعان ما اعترفت المنطقة بأسرها بإسرائيل مؤيّدة انضمامها إلى الأمم المتحدة. حتى إن بعض العلاقات كانت تسبق عام 1948 وتجسّدت في المساعدة الدبلوماسية التي قدّمها ديكتاتور نيكاراغوا أناتاسيو سوموزا لعملاء الهاغانا في جهودهم لشراء الأسلحة في أواخر الثلاثينيات.
وكذلك، توفّر الخريطة الجيوسياسية التي رسمتها الحرب الباردة، والتي أعادت رسمها حركات التحرّر الوطني في كل من أفريقيا وآسيا، جزءاً آخر من الإجابة، حيث إن دول أميركا اللاتينية لم تكن جزءاً من الكتلة السوفياتية ولا دول مؤتمر باندونغ التي وصفت إسرائيل عام 1955 بأنها «كجسر للاستعمار الغربي».

غلاف الكتاب

فالدبلوماسية الإسرائيلية، وبالنظر إلى عدم حاجتها إلى ديمومة تقوية علاقاتها السياسية والاقتصادية في المنطقة العربية (باستثناء النفط)، فقد كانت هذه الدبلوماسية «تنحو لخدمة مبيعات الأسلحة». من هنا، فقد قدّمت النزاعات الحدودية وحروبها في أميركا اللاتينية وفي الحقبة التي كانت فيها المنطقة تظهر كـ«أرخبيل من البلدان الحمقاء والمدرّبة على كره بعضها البعض»، على حد تعبير إدواردو غاليانو، فرصة لمبيعات الأسلحة الإسرائيلية المتطوّرة مثل الطائرات المقاتلة والصواريخ والزوارق الحربية.
ولكن لماذا اشترت دول أميركا اللاتينية ــــ 18 دولة منها تحديداً ــــ كمّيات كبيرة من الأسلحة الإسرائيلية؟ ففي منطقة تشهد تطرّفاً سياسياً باستمرار، وكذلك معارضة سياسية واسعة النطاق، وحالات من الكفاح المسلّح في الستينيات وأوائل الثمانينيات، احتاجت الأنظمة إلى الأسلحة والتقنيات الفنية والتدريب من أجل «السيطرة على السكان» ومكافحة التمرّد. بل في الواقع، وكما يجادل بحبح بشكل مبطّن، فإن هذا ما يمثّل «ميزة نسبية» لإسرائيل: فقد تم تحويل تجاربها وخبراتها الاستعمارية والاستيطانية في فلسطين إلى سلعة تعلّب وتباع كسلعة «ناجحة». هذه «الدول المنبوذة»، العسكريّة اليمينيّة، شديدة الوحشية إلى حدّ أن أمر تقديم المساعدة العسكرية لها بات محل نقاش سياسي ساخن في الولايات المتحدة أواخر السبعينيات والثمانينيات. لذا كانت هذه الأنظمة أفضل زبائن السلاح الإسرائيلي، إذ وفّرت الأسلحة والمستشارون الإسرائيليون ما لا يمكن لنظرائهم الأميركيين توفيره من دون انتهاك الحظر الرئاسي والكونغرس أو إثارة رقابة عامة. وقد قال وزير الخارجية إسحاق شامير لصحيفة «لوس أنجلوس تايمز» عام 1981: «نبيع للجميع... أي أننا لا نبيع لأعدائنا أو للكتلة السوفياتية».
استوردت هذه الدول المنبوذة، التي تشمل معظم دول أميركا الوسطى والمجلس العسكري الذي حكم الأرجنتين، كمّيات ضخمة من السلاح الإسرائيلي والمستشارين العسكريين ذوي المهارات الخاصة بحلول أوائل الثمانينيات. وكما علّق كولونيل سلفادوري شارك في عمليات مكافحة التمرّد لصحافي فرنسي عام 1985: «الأميركيون لا يعرفون شيئاً، لا تنسوا أنهم خسروا في فييتنام، الإسرائيليون يعرفون». وكذلك ردّد زعيم الكونترا في نيكاراغوا ذات المشاعر «نعتقد أن الإسرائيليين سيكونون الأفضل لأن لديهم الخبرة التقنية». إن عبارات كمثل الخبرة التقنية، والسيطرة على السكان، ومكافحة التمرّد، ما هي إلا عبارات ملطّفة لتعتيم شن حروب إقصاء ضد المجتمعات والمنظمات الشعبية التي قاومت الحكم العسكري الأوليغارشي والثورات المضادة الانتقامية.
توضح دراسة بحبح لأميركا الوسطى كيف أن كلاً من انعدام وجود قيود سياسية على الإسرائيليين، واستخدام الرئيس الأميركي جيمي كارتر لسياسات حقوق الإنسان لتحديد المساعدات الخارجية خلال أواخر السبعينيات، كانا قد وفّرا فرصاً اقتصادية للإسرائيليين. فخلال مواجهته لثوار الساندينيستا عام 1978 ــــ ومع الحظر الأميركي على المساعدات العسكرية بعد مقتل صحافي أميركي على يد قوات النظام ــــ اعتمد الديكتاتور سوموزا الثالث بشكل كبير على إسرائيل كمزوّد الأسلحة الوحيد. ومع انتصار الساندينيستا في تموز 1979 «كانت الأسلحة الإسرائيلية منتشرة في كل مكان، إلى درجة أنها أصبحت مرادفاً لديكتاتورية سوموزا». تكرّر الأمر في السلفادور مع اتساع رقعة مواجهة الحكّام العسكريين الدمويين عبر احتجاجات شعبية وإضرابات عمّالية وخمس منظمات حرب عصابات منفصلة ستشكل في نهاية المطاف «جبهة فارابوندو مارتي للتحرير الوطني» (FMLN)، فبعد قطع إدارة كارتر للمساعدات العسكرية سيحصل الجيش السلفادوري على ما يقرب من 80 في المئة من أسلحته من إسرائيل نهاية عام 1980.

«الفلسطنة» في غواتيمالا
يكشف بحبح في دراسته لغواتيمالا عن علاقة عميقة امتدّت إلى ما هو أبعد من مجرّد مبيعات أسلحة وتكنولوجيا التدريب والمراقبة لمكافحة التمرّد لتصل إلى أنماط أوسع من الحكم الاستعماري. ففي الواقع، شكّل حكم إسرائيل للفلسطينيين في الأراضي المحتلة ــــ وغزو لبنان 1982 ــــ مصدر إلهام ونموذجاً للنخب اليمينية والحكام العسكريين هناك. فتحدثوا عن «فلسطنة» شعوب المايا في البلاد في أعقاب الإبادة الجماعية وحملة الأرض المحروقة أعوام 1981 و1983 والتي أرسلت حوالى 100 ألف للمنفى وشرّدت مليوناً داخلياً. حيث ساوى الجيش مئات القرى بالأرض، وقتل الجنود الأطفال أمام أهاليهم عبر تحطيم رؤوسهم بالحجارة. لقد أحرقوا الناس أحياء أمام أحبائهم وارتكبوا عمليات اغتصاب جماعي وهدموا مواقع المايا المقدسة. حتى كتب الصحافي جورج بلاك أن شعب المايا «بدا إلى حدٍّ كبير كشعب جرّد من وطنه».
لجأ المسؤولون والمخططون العسكريون في غواتيمالا، إلى الريف المدمّر خلال حملات الإبادة الجماعية وبعدها، إلى المستشارين الإسرائيليين للحصول على المشورة بشأن كيفية إعادة تنظيم المجتمعات الريفية والحياة اليومية فيها. وقد أدّى ذلك إلى «فلسطنة» المجتمعات الريفية الأصلية، وإعادة تنظيم الريف لتسهيل المراقبة الحكومية ومكافحة الإرهاب. يضاف إلى ذلك عمليات التجنيد الإجباري للقرويين في دوريات الدفاع المدني السيئة التسليح. وساعد المستشارون الإسرائيليون على الأرض في تنفيذ برامج تعاونية زراعية على غرار «الكيبوتستات» و«الموشاف» في المجتمعات الريفية المعاد تجميعها وتكتيلها. وبدلاً من كسب «القلوب والعقول»، عملت خطط التنمية الزراعية هذه، بشكل أساسي، على ترويع المجتمعات بحيث لا تتجرّأ على دعم الحالات الحالية والمستقبلية للنضال الثوري المسلح. ويشير بحبح إلى استخدام الجيش الغواتيمالي طائرة Arava في عمليات «لنقل المنتجات الزراعية من المناطق النائية إلى الأسواق بسبب سوء الطرق» وكذلك عمليات قصف قرى السكان الأصليين.

«دبلوماسية أوزي» وعواقبها
يختتم بحبح دراسته عبر فحص «العلاقة المعقّدة» التي نشأت بين الولايات المتحدة وإسرائيل، وخاصة خلال فترة السبعينيات والثمانينيات. فمع فشل الهدف الأوّلي المتمثّل في تحقيق الاكتفاء الذاتي العسكري من خلال إنشاء مجمع صناعي محلي، تعمّقت الحاجة الإسرائيلية إلى التكنولوجيا العسكرية الأميركية المتطوّرة وكذلك حجم المساعدات المادية، رغم توسّع مبيعات صناعاتها العسكرية على الصعيد الدولي. ففي مناسبات عدة، استخدمت الولايات المتحدة حق النقض ضد بيع طائرات حربية إسرائيلية (التي تستخدم التكنولوجيا الأميركية) لدول أميركا اللاتينية لأنها تتعارض مع المصالح الجيوسياسية للولايات المتحدة في تلك المنطقة. وجسّد اعتماد الاقتصاد الإسرائيلي على المساعدات الأميركية حالة أقرب «للمدمن، فكلما زادت الجرعة التي يتعاطاها زادت الحاجة للعلاج بشكل أكبر». ومن هنا، تنعكس حالة التبعيّة هذه على العلاقة السياسية بين البلدين. يرى بحبح أن دخول إسرائيل إلى سوق أميركا اللاتينية على نطاق واسع لم يكن لولا حظر الولايات المتحدة لمبيعات الأسلحة للأنظمة القمعية اللاتينية في ظل ما يسمّى بالسياسة الخارجية المتمحورة حول حقوق الإنسان لإدارة كارتر، ولتصبح هذه العلاقة الأشبه بعلاقة تأجير الأرحام surrogacy أكثر وضوحاً مع نهاية عهده. كما حصل مع حملة التسليح الخفيّة للكونترا والتي شنّت ثورة مضادة دموية في نيكاراغوا، حيث طلب الأميركيون من الإسرائيليين التصرّف كنوع من الوكيل مع «البلدان التي شعرت واشنطن بعدم الارتياح في التعامل معها بشكل مباشر». وكما صرّح كبير المنسّقين الاقتصاديين في حكومة مناحيم بيغن (1977-1983) حول هذا الدور الإسرائيلي «دعونا نقوم بذلك!». وإن لم تؤدّ سياسة «تأجير الأرحام» هذه دوراً مهيمناً داخل الحكومة الإسرائيلية إبّان الثمانينيات، إلا أنها أخضعت الدولة لضغط كبير من إدارة رونالد ريغان. حيث إن عدم اتباع الإملاءات الصادرة من واشنطن قد يؤدي إلى منع مبيعات الأسلحة الإسرائيلية، ما سيسبّب اضطرابات اقتصادية محلية. فعلى حد تعبير يوحنا رماتي، الرئيس السابق للجنة العلاقة الدولية في الكنيست أوائل الثمانينيات: «إذا تمكّنّا من مساعدة الدول التي من غير الملائم للولايات المتحدة مساعدتها فستكون التبعات السيئة علينا أكثر من تلك على الولايات المتحدة».
ساهمت صناعة الأسلحة الإسرائيلية عبر تصدير أنظمة «فرق الموت» في خلق الظروف التي دفعت عشرات الآلاف من اللاجئين من أميركا الوسطى إلى الفرار من أوطانهم في السنوات الـ 15 الماضية


ماذا استفادت إسرائيل أيضاً من هذه العلاقة مع دول مختلفة من أميركا اللاتينية؟ إلى جانب مبيعات الأسلحة والحصول على العملات الأجنبية، أدّت علاقة دعم الأنظمة الوحشية إلى إنهاء سياسة ودبلوماسية النيات الحسنة والتي كانت سائدة في أميركا اللاتينية خلال الأربعينيات. وكذلك كلّفت هذه السياسة الربحية لإسرائيل دعمها في الأمم المتحدة حيث انتقد العديد من ممثلي أميركا اللاتينية مراراً وتكراراً معاملتها للفلسطينيين في الأراضي المحتلة وكذلك غزو لبنان عام 1982. فعلى الأرض، كانت كلفة مبيعات الأسلحة وسمعتها كوكيل أميركي «تعاطف شرائح كبيرة ليس فقط من الرأي التقدّمي في أميركا اللاتينية، ولكن أيضاً من السكّان المحلّيين بشكل عام»، فتماماً كما في حال حفّاري القبور في بلدة شيشكاستينانغو فقد عرف الناس مصدر الأسلحة التي كانت تقتلهم.

الحدود الفلسطينية ــــ المكسيكية
يختتم بحبح كتابه بالتنبؤ باستمرارية سياسة تصدير الأسلحة في إسرائيل، على الرغم من عواقبها السيئة على الإسرائيليين. وهذا ما أثبت الواقع صوابيته، فلا غنى عن دراسة بحبح لفهم المنطق الذي يقود صناعة الأسلحة التي استمرّت بالتوسع منذ الثمانينيات. فلم يقتصر الأمر على تعميق الاعتماد على المساعدات الأميركية، بل أصبح نصيب الفرد في إسرائيل من صادرات الأسلحة الأكبر في العالم. علاوة على ذلك، أدّت عقود من القهر الاستعماري للفلسطينيين في غزة والضفة الغربية، والوحشية اليومية التي تنطوي عليها هذه العملية، إلى تصدير أسلحة إسرائيلية عليها طلب متزايد كالتكنولوجيا والبنى التحتية المتعلقة بعمليات مراقبة الحدود.
فمن كشمير التي تحتلّها الهند إلى الحدود بين الولايات المتحدة والمكسيك، تبيع إسرائيل نموذجها الحدودي الاستيطاني من الجدران والطائرات بدون طيار وتكنولوجيا المراقبة، والتي تقتل المهاجرين في الصحارى الحدودية القاحلة وتشوّه أجساد الشعوب الرازحة تحت الاحتلال. في مؤتمر ومعرض حول تكنولوجيا الحدود عام 2012، قال العميد في جيش الدفاع الإسرائيلي روي الكابتس للجمهور: «لقد تعلّمنا الكثير من غزة، إنه مختبر رائع». وقد دفع التشابه بين الحدود بين الولايات المتحدة والمكسيك مع نظيراتها في غزة والضفة الغربية الصحافي جيمي جونسون إلى تسميتها بحدود «فلسطين ــــ المكسيك».
ساهمت صناعة الأسلحة الإسرائيلية عبر تصدير أنظمة «فرق الموت» في خلق الظروف التي دفعت عشرات الآلاف من اللاجئين من أميركا الوسطى إلى الفرار من أوطانهم في السنوات الخمس عشرة الماضية. لقد فرّوا من عواقب «دبلوماسية أوزي» وذلك فقط ليواجهوا الحدود بين فلسطين والمكسيك، وهو الموقع الذي يلتقي فيه ماضيهم وحاضرهم.

* مؤرّخ عن المكسيك وأميركا اللاتينية في جامعة ولاية أريزونا. وهو مؤلّف كتاب «Specters of Revolution: Peasant Guerrillas in the Cold War Mexican Countryside» (Oxford University Press 2014).