نحن نتراجع إلى فقاعاتنا الخاصة أي حساباتنا على وسائل التواصل الاجتماعي، حيث نُحاط بأشخاص يشبهوننا ويتشاركون نفس النظرة السياسية ولا يتحدّون افتراضاتنا أبداً. وبشكل متزايد، أصبحنا آمنين للغاية في فقاعاتنا لدرجة أننا نبدأ في قبول المعلومات التي تناسب آراءنا فقط، سواء كانت صحيحة أم لا، بدلاً من بناء آرائنا على الأدلة الموجودة.«فقاعة التصفية» أو «Filter Bubble» هذا المصطلح التقني سبب في تشوّه فهمنا للعالم وإعاقة قدرتنا على اتخاذ قرارات متوازنة. بالنسبة إلى الجزء الأكبر منا، فإننا نلتقط هواتفنا الذكية أو نأخذ مقعدنا أمام شاشات اللابتوب ونفتح علامة تبويب جديدة، ونتصفّح ما يناسبنا مِن مواقع مثل «New Yorker» أو «BuzzFeed» أو «The New York Times» أو «BBC»... إلخ، أو نقرأ سريعاً ما يكتبه ويشاركه الآخرون في «Facebook» أو «Twitter»، وغالباً لا نفعل ذلك بقصد البحث أو الدراسة حول موضوع مُعيّن، بل مِن الممكن للتسلية أو لتمرير وقت الانتظار أو قبل ساعات النوم. نحن جميعاً نقوم بهذه الجولات في المواقع، ومشاركة المكتوب كفعل بريء تماماً، ودون علم أو غير مهتمّين بالقوى التي تؤثّر على ما نراه على الإنترنت وكيف يؤثّر المحتوى علينا في المقابل، وهذا الجهل له عواقب.
(تيم ماكدونا - المملكة المتحدة)

تُقدّم العديد من المواقع الإخبارية ومواقع التواصل الاجتماعي اختيارات للمحتوى بناءً على سجلّ التصفّح والعمر والجنس والموقع الجغرافي والبيانات الأخرى. والنتيجة هي سيل من المقالات والمنشورات التي تدعم آراءنا ووجهات نظرنا الحالية لضمان تمتّعنا بما نراه. حتى عندما لا يقدّم الموقع محتوى مُستهدفاً على وجه التحديد، فإننا نميل إلى متابعة الأشخاص الذين تتوافق آراؤهم مع آرائنا، لنضمن أنه عندما يُشارك هؤلاء الأشخاص أيّ محتوى سيكون شيئاً نهتم به أيضاً.
قد لا يبدو ما سبق سيئاً للغاية، لكنه يسجننا في «فقاعة التصفية» لتخلق الخوارزميات عالماً فريداً من المعلومات لكل واحد منا، ما يُغيّر بشكل أساسي الطريقة التي نواجه بها الأفكار والمعلومات بعدما تخلق فقاعة التصفية غُرف صدى حيث نفترض أن الجميع يُفكّر مثلنا وننسى وجود وجهات نظر أخرى.
يتجاوز أثر فقاعة التصفية عالم التواصل الاجتماعي والإنترنت، ليَسقط التفكير في فخ «الانحياز التأكيدي»، فتتحول دائرتك الاجتماعية بدورها إلى فقاعة تصفية؛ وكذلك موقعك الجغرافي، ودائرة عملك، وستحفّز فقاعة التأثير ميلنا البشري إلى الاعتقاد بأن ما نراه في داخلها هو كل ما هو موجود، دون أن ندرك أن ما نراه يتم إعداده مُسبقاً.
قدّم إيلي برايزر، المدير التنفيذي لشركة «Upworthy»، مفهوم «فقاعة التصفية» لأوّل مرّة في كتابه «Filter Bubbles»، حيث أشار إلى أن عمليات البحث على «غوغل» تؤدّي إلى نتائج مختلفة إلى حد كبير اعتماداً على تاريخ المُستخدِم. ويستشهد بمثال بحَث فيه شخصان عن «BP» (شركة البترول البريطانية)، شاهد أحد المستخدمين (المُهتم بالاقتصاد) أخبارَاً متعلّقة بالاستثمار في الشركة، وشاهد المُستخدِم الآخر (المهتم بالبيئة) معلومات حول التسرّب النفطي.
خضوعنا لفقاعة التصفية يحول شاشة الكمبيوتر الخاصة بنا إلى مرآة أُحادية الاتجاه، تعكس اهتماماتنا الخاصة بينما يشاهد مراقبو الخوارزميات ما ننقر عليه. إننا نعيش في «نظام بيئي شخصي للمعلومات»، يعزلنا عن أي نوع من التنافر المعرفي عن طريق الحد مما نراه. وفي كل مرة نقوم فيها بالنقر أو المشاهدة أو المشاركة أو التعليق، تقوم محرّكات البحث والمنصات الاجتماعية بجمع المعلومات. وتعمل هذه المعلومات على إنشاء إعلانات مستهدفة. ولقد عانى معظمنا مِن فيض إعلانات لمنتج ألقينا نظرة عليه عبر الإنترنت، وكذلك في صناديق البريد الإلكتروني الخاصة بنا، وغالباً ما يستمر هذا الإعلان حتى نستسلم ونشتري المنتج.
لقد تغيّر الإنترنت كثيراً عن الأيام الأولى عندما كان الناس قلقين من أن يعرف الغرباء مَن هم، وكان عدم الكشف عن هويّته ملكاً ذات يوم. الآن، تمّت التضحية بخصوصياتنا من أجل عائدات الإعلانات. ولا شك أن كُل تقنية جديدة تجلب معها مجموعة كاملة من التكاليف والفوائد، ويتم إدراك هذا مع مرور الوقت، والإنترنت ليس استثناء.
عندما يتم تأطير مجموعة داخل فقاعة، يمكن أن يؤدّي ذلك إلى التعزيز الجماعي. وهذه ظاهرة نفسية حيث تعاني مجموعات من الناس من فقدان مؤقّت للقدرة على التفكير بطريقة عقلانية وأخلاقية وواقعية


أدّى تنامي الاعتماد على خوارزميات فقاعة التصفية إلى قلق واسع النطاق خصوصاً في ما يتعلّق بالمسائل السياسية، حيث تتطلّب الديموقراطية من المواطنين رؤية الأشياء من وجهة نظر بعضهم البعض. ولكن بدلاً من ذلك، نحن محاصرون أكثر فأكثر في فقاعاتنا الخاصة، كما تتطلّب الديموقراطية الاعتماد على الحقائق المشتركة؛ بينما الآن، يُعرض علينا أكوان متوازية ولكن منفصلة. تخدم الفقاعات الدعاية الآلية غير المرئية، وتلقّننا أفكارنا الخاصة، وتضخّم رغبتنا في الأشياء المألوفة وتجعلنا غافلين عن المخاطر الكامنة في المنطقة المظلمة من المجهول.
ناقش الكثير من الناس تأثير فقاعات التصفية على الانتخابات الأميركية الأخيرة وتصويت خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي. في كلتا الحالتين، صدمت النتيجة أعداداً كبيرة من الناس، حتى أولئك المتمرّسين في العالم السياسي والصحافي حيث توقّعوا نتائج عكسية، فقد أصبح تأثير التحيّز التأكيدي على الآراء السياسية أكبر بشكل كبير عندما تعرض وسائل التواصل الاجتماعي على أعضائها مشاركات أصدقائهم، والتي تميل إلى التطابق وبالتالي تعزّز الآراء الحالية لكل مستخدم.
في ورقة بحثية لجامعة برينستون، كشف جاكوب شابيرو عن مدى تأثير فقاعات التصفية، وقدرتها على تشويه أفكارنا، وأظهرت نتائج هذه التجارب أن تصنيفات البحث المتحيّزة يمكن أن تغيّر تفضيلاتنا بنسبة 20% أو أكثر، ويمكن أن يكون التغيّر أعلى بكثير في بعض المجموعات الديموغرافية، ويمكن أن يكون تأثير التلاعب في محرّك البحث قابلاً للتطبيق على مجموعة متنوّعة من المواقف والمعتقدات، ما يعني أن شركات محرّكات البحث، على سبيل المثال، لديها القدرة على التأثير في نتائج عدد كبير من الانتخابات دون رادع، وسيكون تأثير مثل هذه التلاعبات كبيراً بشكل خاص في البلدان التي تهيمن عليها شركة محرّك بحث واحدة ذات توجّه ما (يساري، يميني،... إلخ).
هناك مشكلة أخرى مع فقاعات التصفية، فهي شيء لا يمكننا إلغاء الاشتراك فيه، وليست شيئاً نوافق عليه. في عام 2017، يقدّر أن 1.94 مليار شخص يمتلكون حساباً على (فايسبوك)، منهم 1.28 مليار يسجّلون الدخول يومياً. وبالنظر إلى أن 40% من الأشخاص يعتبرون (فايسبوك) مصدر أخبارهم الرئيسي، فإن هذا أمر مقلق. كما هو الحال مع التحيّزات المعرفية، التي تؤدّي إلى نقص الوعي ما يُضخّم تأثير فقاعات التصفية.
لدينا حد أدنى من الأدلة الملموسة على المعلومات التي تجمعها محرّكات البحث والمنصات الاجتماعية، حتى خبراء تطوير محركات البحث (SEO) لا يعرفون على وجه اليقين كيف يتم تنظيم تصنيفات البحث، ولا نعرف أيضاً ما إذا كانت المواقع تجمع معلومات من مستخدمين ليست لديهم حسابات.
وقد أصبحت الفضائح شائعة بشكل متزايد، حيث تبيّن أن المواقع والخدمات تقوم بجمع التفاصيل دون موافقة. على سبيل المثال، تعرّضت «Evernote» للنقد عندما كشفت المستندات أن الموظفين يمكنهم الوصول إلى المعلومات، كما تم نقد سياسة «Unroll» المتمثّلة في بيع تفاصيل البريد الإلكتروني للمستخدم. حتى عندما يتم سرد هذه المعلومات في اتفاقيات المستخدم أو إخلاء المسؤولية، قد يكون من الصعب على المستخدمين التأكد من المصطلحات المربكة حول كيفية استخدام بياناتهم ومِن قبل مَن ولماذا!
تم تصميم فقاعة التصفية مِن أجل استهلاك المعلومات التي تتوافق مع أفكارنا عن العالم، وهذا أمر سهل وممتع، على عكس الإحباط مِن استهلاك المعلومات التي تحاول توجيه تفكيرنا إلى طرق جديدة أو التشكيك في افتراضاتنا، وهذا هو السبب في أن أنصار أحد الخطوط السياسية لا يميلون إلى متابعة وسائل إعلام أخرى. ونتيجة لذلك، فإن بيئة المعلومات المبنيّة على إشارات النقر ستفضّل المحتوى الذي يدعم مفاهيمنا الحالية حول العالم على المحتوى الذي يتحدّانا.
لدينا رغبة متأصّلة في أن نكون حول أولئك الذين يشبهوننا ويعزّزون نظرتنا إلى العالم. لا يختلف سلوكنا عبر الإنترنت عن السلوك البشري لتكوين القبائل بناءً على الاهتمامات والموقع الجغرافي والوظيفة والانتماء وتفاصيل أخرى. وهذه المجموعات (subreddits، Tumblr fandoms، Facebook، Google+،... إلخ) لها قواعدها، واتفاقياتها، ودعابتها، وحتى مفرداتها اللغوية. تتكثّف داخل المجموعات (حتى لو لم يلتق الأعضاء بعضهم ببعض) المعتقدات، وقد يتم طرد أي شخص لا يتوافق معها. ويسمّي علماء الاجتماع هذا السلوك «التعزيز الجماعي»، ويؤكّدون أن الأفكار المستمرة لا علاقة لها بالواقع أو الدليل التجريبي.
يمكن أن يكون الانحياز التأكيدي إيجابياً عندما تكون المجموعات موجّهة للأشخاص الذين يعانون من مشاكل الصحة العقلية والأمراض المزمنة والإدمان وغيرها من المشكلات. وقد يساعد العديد من الأشخاص الذين قد لا يكون لديهم منفذ آخر للدعم. ومع ذلك، عندما يتم تأطير مجموعة داخل فقاعة، يمكن أن يؤدّي ذلك إلى التعزيز الجماعي. وهذه ظاهرة نفسية حيث تعاني مجموعات من الناس من فقدان مؤقّت للقدرة على التفكير بطريقة عقلانية وأخلاقية وواقعية. وعندما يتعرّض جميع أعضاء المجموعة لنفس المعلومات المؤكدة، يمكن أن تكون النتائج متطرّفة. وتشمل الأعراض الإفراط في التفاؤل، والمخاطرة، وتجاهل الأعراف القانونية والاجتماعية، واعتبار من هم خارج المجموعة أعداء، وفرض الرقابة على الأفكار المعارضة، والضغط على الأعضاء للتوافق.
أخيراً، كيف يمكننا تجنّب فقاعات التصفية؟ لحسن الحظ، ليس من الصعب تفجير فقاعة التصفية إذا بذلنا جهداً للقيام بذلك، ويتضمّن الأمر تحويل تركيزنا من الترفيه إلى التعليم، حيث يمنحنا تفاعل الإنترنت أدوات جديدة وقويّة للعثور على المعلومات والتعبير عن أنفسنا والتواصل مع الآخرين. كما أنه يحوّلنا إلى فئران مختبر تنقر باستمرار للحصول على حبيبات صغيرة من الغذاء الاجتماعي أو الفكري، لذا يمكن قراءة المواقع والمدوّنات الإخبارية التي تهدف إلى تقديم مجموعة واسعة من وجهات النظر.
ولنتذكّر أن الأسماك لا تعرف أنها في الماء ولا نعرف أننا في فقاعة تصفية ما لم نبذل جهداً لمغادرة الكبسولة - إذا كُنا نجرؤ. حيث فهم أن ما نراه ليس كل ما هو موجود سيساعدنا على إدراك أننا نعيش في عالم مشوّه ويذكّرنا بخلع النظارات.
* كاتب من مصر