بتكتّم مطبق، كأنه سرّ دولة لا يجوز البوح به أو الإشارة إليه، دأب الرئيس الأسبق حسني مبارك، في النصف الثاني من تسعينيات القرن الماضي، بدءاً من عام 1996، على تسجيل شهادته الخاصة عن سنوات حكمه، متضمّنة رؤاه ومكنونات صدره على ما شهدته مصر قبله من تحولات سياسية واجتماعية على عهدَي جمال عبد الناصر وأنور السادات.كان قد مضى عليه خمسة عشر عاماً رئيساً لمصر استطالت خمسة عشر عاماً أخرى. طرأت الفكرة على ذهن نجله الأصغر جمال فيما كان يطل على تجارب رؤساء أميركيين عملوا على إنشاء مكتبات تحمل اسمهم وتحفظ وثائقهم وتاريخهم. راقت الفكرة لمبارك فكلّف مستشاره السياسي الدكتور أسامة الباز وضع تصوّر لما يمكن أن تكون عليه المذكّرات المسجّلة.
اختار الباز خبيراً في مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية بمؤسسة «الأهرام»، موثوقاً به وذا كفاءة، هو الدكتور أسامة الغزالي حرب، لصياغة ما يطرح على الرئيس من أسئلة يتكفّل بالإجابة عليها واحداً إثر آخر أمام الكاميرات دون أن يكون هناك محاور في المكان. صاغ المخطط الرئيسي وانتهت صلته بالتسجيلات، لكنه تكتّم على السر طيلة سنوات طويلة حيث طالبه الدكتور الباز ألّا يحادث أحداً بشأنه، أياً كانت درجة قربه منه وثقته فيه.
في مارس 2009، بدا الدكتور أسامة الغزالي حرب مُفاجَأً تماماً مما نشرته موسّعاً على صفحات جريدة «العربي» عن «مذكّرات مبارك المحجوبة»، كان قد خرج من الحزب الوطني ولجنة سياساته مستقيلاً، ووقف على الجانب الآخر معارضاً لمشروع «التوريث».
التكتم نفسه بدا أكثر تشدداً في الوزارة السيادية التي تولّت المهام الفنية اللازمة لتسجيل مذكّرات الرئيس، باستثناء إشارة عابرة في حديث صحافي بعد ثورة يناير. التسجيلات استغرقت 18 جلسة، طالت بعضها إلى نحو 4 ساعات. التكتم تمدّد في الزمن حيث لم يكن مسموحاً فضّ أحراز التسجيلات، بما تضمنته من شهادات واعترافات، ومبارك على مقعده في رئاسة الجمهورية، أو على قيد الحياة.
في مذكّراته المسجلة تحدث مبارك على سجيّته يقول ما يطرأ له من خواطر دون تحسّب لعباراته ووقعها على مستمعيه. كانت تلك من طبائعه الشخصية في أحاديث الغرف المغلقة.
تطرق بتوسع إلى أزمات وحروب شارك في إدارتها، وشخصيات بارزة - من رؤساء وملوك وقادة عسكريين ومدنيين - عاصرها واقترب منها، عمل تحت قيادتها، أو عملت تحت قيادته.
تلك ملفات كاشفة لنظرة رأس الدولة في أوقات أزمات وزوابع وحروب لم يعهد عنه الاقتراب منها في خطابه المعلن، وطلبه ألا تبث المذكّرات المسجّلة في حياته يوحي بخطورة بعض ما فيها.
لم يخطر في بال مبارك، وهو يسجل شهادته، أنه سوف يُبقي على مقعده الرئاسي لفترة طويلة أخرى تزيد عن الفترة الأولى التي سجّل شهادته عليها! كما لم يخطر في باله أن تكون السنوات التالية الأكثر إثارة للأسئلة القلقة عن مستقبل الحكم بعده.
قد تساعد المذكّرات المحجوبة - عند الإفصاح عن فحواها - على تفسير بعض ما جرى في مصر أثناء حكمه الطويل. القيمة التاريخية للمذكّرات المحجوبة يُحكم عليها عند النظر فيها، لكنها تتجاوز يقيناً أية شهادات أخرى للرئيس الأسبق، أدلى بها لاعتبارات دعائية وقت حكمه، أو أثناء حملة الانتخابات الرئاسية عام 2005، التي بدت مصطنعة ووراءها خبراء إعلان ودعاية.
«المذكّرات المحجوبة» مضت في اتجاه آخر، لرجل رأي في النصف الثاني من تسعينيات القرن الماضي أن لديه ما يودعه للتاريخ، ولم يكن بوسعه أن يصرح به وهو على مقعد الرئاسة.
تصادف في اليوم نفسه، الذي أزيح فيه الستار لأول مرة عن «المذكّرات المحجوبة»، أن وجد مبارك نفسه محاطاً بمجموعة من رؤساء تحرير الصحف المصرية على طائرة رئاسية في رحلة عمل إلى الخارج يسألونه عن صحة ما نُشر ذلك الصباح، قال باقتضاب: «هذا صحيح». لم يزد حرفاً واحداً، كأنّ صاحب «المذكّرات المحجوبة» يتعمد إضفاء مزيد من الغموض عليها.
اتّسق ذلك الغموض مع عصر مبارك كله، فما هو خافٍ تحت السطح أكثر مما هو ظاهر عليه.
التاريخ لا يُكتب على الهوى، أو بمقتضى الأحوال المتغيرة.
قبل أربعة أشهر من رحيله قرّر مبارك أن يطل على المصريين لآخر مرة مسجّلاً شهادته عن حرب أكتوبر، التي قاد سلاح الطيران خلالها، في مقطع فيديو عبر منصة «يوتيوب».
أراد أن يذكر بدوره في أكتوبر ويسجل روايته للأحداث والوقائع التي عاينها من موقعه.
وهذا حق مكفول لكل الذين لعبوا أدواراً في ميادين القتال، أو على مسارح السياسة حتى يستوفي التاريخ رواياته قبل أن يخضعها للبحث والتقصّي والتدقيق وفق المناهج المستقرة.
لكل دور سياقه وطبيعته وحدوده التي لا يصحّ تجاوزها وإلا فإنها تسحب بغير حق من أدوار القيادات الأخرى.
على مدى سنوات طويلة اختزلت حرب أكتوبر دعائياً في رجلين: أنور السادات - بطل الحرب والسلام، ثم حسني مبارك - بطل الضربة الجوية الأولى. كان ذلك إجحافاً بالقادة العسكريين الذين خطّطوا ودرّبوا وقاتلوا، وبعضهم سيرته لامست الأساطير، كما كان إجحافاً ببطولات الجنود الذين قدموا من قلب الحياة المصرية وضحوا بحياتهم حتى يرفع البلد رأسه.
في الفيديو الأخير أشار مبارك بأكثر من موضع إلى اسم الفريق سعد الدين الشاذلي، رئيس أركان القوات المسلحة في حرب أكتوبر، وهو ما لم يفعله أبداً طوال سنوات حكمه! تبنّى مجدداً وجهة نظر السادات في الثغرة دون أن يأتي على ذكر فرية انهيار الشاذلي.
أي بلد يحترم نفسه يحتاج إلى رد اعتبار تاريخه بالوثائق حتى يمكن التوصل إلى الحقيقة بما يحفظ سلامة الذاكرة الوطنية. لا يمكن قراءة التاريخ بلا وثائق، وإلا فإنها انطباعات عامة أو انحيازات بغير أساس. باليقين فإننا نحتاج إلى فتح الملفات كلها، الحروب والأزمات التي تتالت على مدى سبعين عاماً، بما هو متوافر من وثائق وأوراق في حوزة الدولة، بما فيها «مذكّرات مبارك المحجوبة».

* كاتب وصحافي مصري