كان مشهدُ مأتم سماح إدريس حزيناً كما كلّ المآتم عند الأقربين، لكنّ الصورَ والمشاهد كانت ستسرُّ خاطرَ الفقيد بالتأكيد. لم يمشِ في جنازة سماح أيّ من سفراء دول الغرب والخليج، ولم يغرّد سفير ألمانيا أو أميركا في إسباغ المدائح عليه. لم تطلق أي حكومة غربيّة اسمَه على مؤسّسة أو مرفق، ولم تتقدّم دولة أوروبيّة أو خليجيّة بمشروع لإنشاء مؤسّسة باسمه. لم ينلْ سماح جوائز من الرجل الأبيض. ولم أتبيّن في الجنازة أياً من وجوه زعماء الفساد الذين يتزاحمون في جنائز كتّاب التبعيّة والانهزاميّة والتحوّل. جنازة سماح شهدت على حياة عاشها بعيداً عن مسار أهل الثقافة في لبنان. نخبة الثقافة نفرت من سماح كما نفرَ هو منها، لفخره. لم يغرِّد أي أمير أو شيخ نفطي أو غازيّ في رثاء سماح. لكنّ المشهد تضمّن ما هو أهمّ بكثير. صِبية من مخيّم شاتيلا تقدّموا الجنازة خافضي الرؤوس حاملين الورود البيضاء إلى المثوى الأخير. هؤلاء كانوا رسلَ سماح على الأرض فيما كانت عائلته وأحبابه يودّعونه على وقع وضع سياسي شنيع يتعارض مع كل ما آمن به سماح حتى رمقه الأخير. أي وداع يليق بسماح أكثر من صِبية مخيّم شاتيلا الذين كانوا ينتظرونه كي يأتي ليقرأ عليهم كتب الأطفال التي كان يكتبها بجديّة من ائتمنَ نفسه على خدمة اللغة العربيّة وتسهيل إيصالها إلى الأطفال والناشئة؟ لا، لم يمشِ سفراء وزعماء في جنازتك، يا سماح، لأن صِبية مخيّم شاتيلا كانوا الأعزّ عندك. لو كان سفير ألمانيا في جنازتك للاكت الألسنُ ولاندهش الناسُ لاهتمام سفير صهيوني عنصري برجل نذر نفسه لخدمة اللغة العربيّة والقضيّة الفلسطينيّة. عاش سماح لخدمة القضيّة ووارته القضيّة في الثرى.

مسيرة سماح إدريس السياسية-الثقافيّة بدأت مبكراً في المدرسة الثانويّة. كان يحمل مشروعاً ثقافيّاً ورثه عن أبويه، ومشروعاً سياسياً موروثاً لكنه طوَّر فيه كثيراً. تعرّفت إليه في مدرسة الـ «آي. سي» (وكان أصغر مني بأشهر فقط، وكنتُ أعلى منه صفاً) أثناء النشاط المناصر للثورة الفلسطينيّة، كما تعرّفتُ إلى شقيقته رنا في نشاط مناصر لقضيّة فلسطين في مدرسة «الليسيه» أثناء قيامنا بإغلاق المدارس الخاصّة والرسميّة إثرَ زيارة أنور السادات للقدس في عام 1977. في مدرسة الـ «آي. سي» النخبويّة المتغرّبة، لم يكن سهلاً المجاهرة بحب اللغة العربيّة. إتقان اللغة العربيّة لم يكن يجلب الهيبة أو «البرستيج» (الكلمة شنيعة في كل لغة لكنها أشنع على ألسنة اللبنانيّين واللبنانيّات). إتقانُ الإنكليزيّة هو الذي يرفع من شأن التلميذ وإتقان العربيّة لا طائلَ منه ولا يفيد في العثور على حقل اختصاص جامعي. حتى إتقان اللكنة الأميركيّة من دون إتقان اللغة الإنكليزيّة يعود على التلميذ بالنفع في تلك المدارس. هذه مدارس تعدّكَ لا للمجتمع الذي تولد وتعيش فيه، وإنما للمجتمع الغربي الذي يشرف على تنشئتك كما يريد الرجل الأبيض. تخيّل لو أن مدرسة في أميركا أو فرنسا تعدّ التلاميذ للتأقلم والعيش في المجتمع الصيني أو النيجيري. لكنّ الاستعمار وموروثاته لا تُقارن بين الأعراق لأنها ليست متساوية ــ بنظر الاستعمار الغربي، طبعاً. وحبّ اللغة العربيّة جمعنا لأن مهمّة تدبيج بيانات الاستنكار والتنديد والاستفظاع كانت مشتركة بيننا، ورافقتنا هذه المهمّة عبر العقود حيث كنا ندبّج بيانات التنديد والاستنكار ثم نعرضها على الغير ونحاول دفن دورنا من خلال الإصرار على التراتبية الأبجديّة (والتي تكون في صالحي).
سماح كان يعرف مشروعه الدراسي الاختصاصي مبكراً. لم يحترْ كما كثيرين منّا ولم يفاضل أو يوازن بين اختصاصات. لم يكن هناك لبسٌ في رأسه حول اختصاصه الجامعي. اللغة العربيّة كانت نصب عينيه، مبكراً. كنتُ أعجب بتصميمه في عهد الصبا لأن الاختصاص في اللغة العربيّة لم يكن يُفرح الأهل الذين ــ كما في الأفلام العربيّة القديمة ــ يريدون من الولد أن يكون طبيباً (جرّاحاً، لو أمكن) أو باش مهندس ــ «قد الدنيا» طبعاً. الذي يعود إلى الأهل بعرض اختصاص في الأدب العربي كالذي يقول للأهل إنه يريد التخصّص في التنجيم أو دبكة الحائط (مع أن التنجيم يُطعم خبزاً أكثر من اختصاص اللغة العربيّة). راودتني أحلام التخصص في فن الرسم واللغة العربيّة في سنوات الصبا لكنني لم أجرؤ على المضي فيها لأن سمعة التخصّصيْن قاتلة. (من يدري أن صديقي باسم قطّان نصحني من واشنطن وأنا في بيروت بالتخصّص في مجال الأعمال والاقتصاد لكنّ نفوري كان واضحاً كي لا أكمل سنة فيها في الجامعة الأميركيّة في بيروت، وكان هذا التخصّص بعد دراسة عرض وردني للتخصّص في كوبا في مجال الثورات لكن هذه قصّة أخرى لم يحن وقت روايتها بعد).
إن حركة مقاطعة إسرائيل في لبنان تدين له بالكثير، كما يدين له كلّ من يرى في الصهيونيّة خطراً على الثقافة. مات واثقاً من صوابيّة مشروعه وكان تحدّيه الأكبر أمام خطر الموت سياسياً لا شخصياً


طبعاً، كان سماح متفوّقاً في اللغة العربيّة في المدرسة والجامعة وكان تسلّم مهام «دار الآداب» ومجلّة «الآداب» مطروحاً على سماح لكن ليس كواجب عائلي ثقيل بل كمسار منطقي نتيجة الشغف. وعندما سافرَ سماح إلى أميركا للتخصّص في جامعة كولومبيا ثبتَ سماح في دراسة الآداب وكتب أطروحة دكتوراه عن الرواية في الحقبة الناصريّة وتأثّر بنقد إدوار سعيد ومدرسته في الأدب المقارن. وواظب سماح مع رفاقه في الجامعة في نيويورك في النضال من أجل القضيّة الفلسطينيّة (وكان رفيقه وصديقه أحمد دلال معه هناك). لم يدرس سماح خيارات عمل في أميركا إذ كان مُصمِّماً على العودة للنهوض بالمشروع الثقافي النهضوي الذي ورثه عن أبويْه.
شقيقة سماح، رنا، تولّت إدارة «دار الآداب» التي حافظت على مستواها في الطباعة والتحرير والنشر وانتقاء المخطوطات التي تتوالى على مكاتبها، فيما كانت مجلّة «الآداب» من حصّة سماح. لم يحمل سماح المجلّة وسارَ بها كما كانت، بل أعادَ إنتاجها بنَفَس جديد وبخط جديد لم يحد عن ثوابت المجلّة من بداياتها. مجلّة «الآداب» تأسّست في عام 1953، وكانت مرتبطة بالخط القومي العربي الوطني الناصري. لكنّ «الآداب» نشأت وترعرعت في لبنان، ولم يكن هذا سهلاً. الوسط الثقافي اللبناني المُهيمِن كان—كما الآن—شديد الميل نحو الرجعيّة واليمين والتقوقع وعبادة الاستعمار وخصوصاً أن صناعة الثقافة (من خلال «دار النهار»، ودور النشر المُمَوَّلة غربيّاً وخليجيّاً لمحاربة الشيوعيّة) كانت مرتبطة بالمشروع الانعزالي اليميني في لبنان. وكانت الثقافة المُهيمِنة صارخة في طائفيّتها إلى درجة أن باحثة أميركيّة متخصّصّة سمعت ناشراً لبنانيّاً مؤثّراً ومعروفاً (كثيراً) يصف مؤسّس «الآداب» بـ «سُنّي مرتّ».
كان غير المسيحيّين العاملين في المجال الثقافي يوصَفون دوماً بالطائفيّة في محاولة لتهميش إنتاجهم. هكذا حاربت الثقافة الطائفيّة السائدة العالم الفذّ، عمر فرّوخ، كما أن محمود أيّوب، الذي كان ربما أوّل لبناني ينال شهادة الدكتوراه في التاريخ من جامعة هارفرد في عام 1975، ماتَ قبل أيّام مجهولاً من ثقافة لبنان، على الأرجح بسبب نشأته الفقيرة في الجنوب وطائفته. والاعتراض على طائفيّة النخبة السياسيّة والثقافيّة المُؤسّسة في لبنان يُعتبر طائفيّاً. وهذا نفس الأسلوب العنصري من البيض هنا في ثقافة السيادة البيضاء: إن كل محاولة مبكرة للحديث عن المساواة كانت تُقابل بتهم «العنصريّة» كأن هُويّة المضطهدين تحمل من القوّة والسلطة ما يسمح لها بأن تكون متساوية في التأثير مع ثقافة العنصريّة البيضاء التي كانت عنصراً من عناصر العقيدة المؤسِّسة للجمهوريّة الأميركيّة والتي طرحت في أدبيّاتها فكرة «كل الرجال متساوون» فيما كان القصد أن كل الرجال البيض الميسورين متساوون. تماماً كما في لبنان: المساواة بين الطوائف لم تكن إلا استتاراً لطائفية نخبة مارونيّة حاكمة.
مجلّة «الآداب» كانت ملتزمة بالمشروع القومي العربي في عزّه، لكن هذا لم يضعف من التحدّي الذي واجهته في لبنان. كانت على طرف نقيض من مجلّة «شعر» التي كانت ترجمة عربيّة لتيّارات شعرية أميركيّة معاصرة. وكان الابتعاد عن التراث العربي عنوان التقدّم والحداثة. كانت مجلّة «شعر» «كول»، أقرب إلى شباب النخبة وكان الشعر الحرّ دارجاً، والتقليد مرغوباً. أخبرني عمّي ناجي أبو خليل، أنه وغسان كنفاني (عندما كانا يعملان في مجلّة «الحريّة» الناطقة باسم حركة القوميّين العرب) كتبا ساخريْن قصيدة من الشعر الحرّ، وكانا ينتقيان الكلمات عشوائيّاً وكان أن نشرت المجلّة نتاجهما الواعد.
مجلّة «الآداب» كانت حارسة اللغة العربيّة والأمينة عليه لكن من دون جمود أو تحجّر. وكم من النتاج الأدبي الحديث في تلك الفترة وجد طريقه إلى القرّاء عبر «الآداب». لكنّ «الآداب» لم تؤمن بفصل قاطع بين الأدب الحديث وما سبقه من أدب عربي كلاسيكي. «شعر» وغيرها من المدارس اللبنانيّة كانت تريد القطع مع الماضي (أدونيس لم يختلف مع هذه الرؤية مع أنه في «الثابت والمتحوِّل» ميّز بين نزعات مختلفة في الأدب العربي كما ميّز حسين مروّة في كتابه «النزعات المادية في الفلسفة العربية والإسلاميّة»). «الآداب» كانت مجلّة سهلة الإصدار قبل 1967 لكنها أصبحت مجلّة صعبة الإصدار بعدها، لأن المجلات الموغلة في استشراق النقد الذاتي (مثل مجلّة «مواقف» لأدونيس) والمجلات اليساريّة الطابع (مثل «دراسات عربيّة») استقطبت الاهتمام الأكبر. كان نبذ عبد الناصر والقوميّة العربيّة دليل تحضّر المثقّف وعصريّته. لم يكترث سهيل إدريس لذلك، ولم يكترث ابنه بعده لذلك.
التحدّي الكبير أمام سماح بعد عودته من الدراسة الجامعيّة كان في إكمال إصدار المجلّة لكن بعد تجديدها ونفضها. بدت المجلّة بخطّها العروبي الثابت «أناكرونستيّة» (بالية أو غير متناسقة مع الزمن الذي هي فيه). وكان سماح، وهذا موضوع لم يدر الحديث عنه في المراثي التي صدرت عنه، يريد أن يُعلِّم مادة الأدب العربي في الجامعة الأميركيّة في بيروت. لكنّ الدائرة، التي كان وثيق الصلة بأساتذتها قبل ذهابه إلى نيويورك بعد حصوله على الماجستير، لم ترحِّب به أبداً، بل هي صعّبت مهمّة انضمامه إليها ولم تكن تريد اعتبار بعض كتاباته من ضمن الإنتاج الذي يُرفَّع على أساسه الأستاذ. لم يتسنّ لسماح التعليم الجامعي الذي كان يمكن أن ينجح فيه لأنه بالإضافة إلى المعرفة كان طويل الأناة كما ظهر في تعامله مع الأطفال في المدارس والمخيّمات عندما كان يجول بينها لقراءة أدب الأطفال. استفاد سماح في إقامته في أميركا لمدِّ «الآداب» بنفَس جديد يزاوج بين التراث القومي الناصري للمجلّة وبين اليسار الجديد الذي يهتم بشؤون لم يكن اليسار التقليدي يكترث لها (مثل قضايا الحريّات والنسويّة والمساواة والعدل الاجتماعي). لكنّ الأصعب في حالة مشروع سماح في المجلّة أنه أصرّ على الاستمرار في زمن اندثرت فيه المجلّات (مَن منكم ــ غير العاملين في السفارات والقنصليّات السعوديّة ــ يعلم أن مجلّة «المجلّة» السعوديّة لا تزال تصدر؟).
المجلّات لم تعد منسجمة مع العصر السريع الذي نعيش فيه. المجلّات تنتمي إلى عصر ما قبل الفضائيّات. كان الناس يتابعون الأخبار يوماً بيوم والمجلّات كانت ترفد الصحافة اليوميّة بتحليلات أسبوعيّة وصفحات فنيّة أو ثقافيّة لم تتسع لها جرائد قليلة الصفحات (لم يكن حجم بعض الصحف يتعدّى الست صفحات أو الأربع في الستينيات). الفضائيّات ضربت الصحافة اليوميّة، فما بالك بالصحافة الأسبوعيّة؟ أنتَ تستطيع أن تتابع الأخبار على مدار الساعة فما حاجتك إلى مطبوعة تنتظرها من أسبوع إلى أسبوع؟ المجلّات كانت في زمن كانت العائلة تتحلّق حول تلفزيون العائلة كل مساء لمتابعة نشرة الأخبار فيما كان الأولاد يجدون صعوبة في التركيز على تلاوة رتيبة للنشرة بصوت رجولي بالغ الخطابيّة والمسرحيّة (لا يزال بعض مذيعي «الجزيرة» من هذه المدرسة ــ أو كانوا، لأنني توقفتُ عن متابعة المحطة قبل عشر سنوات تقريباً).

لم يغرِّد سفير ألمانيا أو أميركا، أو أي أمير أو شيخ نفطي أو غازيّ في رثاء سماح... صِبية من مخيّم شاتيلا تقدّموا الجنازة خافضي الرؤوس، حاملين الورود البيضاء إلى المثوى الأخير


المجلّة الأدبيّة الشهريّة مشروع أصعب بكثير لأن ذلك يتوجّه إلى جمهور يصغر عبر السنوات. المتابعة الأدبيّة لم يعد لها الجمهور الذي كان لها. كان الناس حتى السبعينيّات يتزاحمون لحضور ندوات شعريّة (كان محمود درويش يلقي قصائده في مسرح الأونيسكو منذ السبعينيّات بسبب حجم جمهوره). الناس لم يعودوا يتابعون بكثافة شعراء جدداً (غير درويش) أو أدباء جدداً (ربما غير أحلام مستغانمي على نطاق الوطن العربي). إدراكاً من سماح لطبيعة السوق، قرّر أن يتسع صدر المجلّة للنتاج السياسي والأكاديمي أكثر من قبل بكثير. لكنه أدخل إلى المجلّة تحريراً عصريّاً لم تألفه المطبوعات ودور النشر العربيّة. لم أمرّ بتحرير عربي مثل «الآداب» ومثل قلم سماح الدقيق. الذي لا يحترم اللغة العربيّة والذي يعتبر أن تحرير النص وتصحيح الأخطاء والإصرار على مراجع توثيقيّة هي انتقاص من مقامه، قد يتبرّم من تحرير سماح. أذكر أن محرّرة في جامعة جورجتاون أخبرتني عن حنا بطاطو أنه كان يرفض أي تعديل في نصوصه ولو كان لغوياً. لكن بطاطو كان حالة خاصّة لأنه كان شديد التمحيص والدقّة والإمعان في التوثيق في نصوصه، كما أن نصوصه تمتّعت بأسلوب خاص به يصعب تقليده (أذكر كم كان صديق ــ رفيق سابق ــ يقول لي عن الفصل الـ44 في كتاب بطاطو الضخم عن «الطبقات الاجتماعيّة القديمة والحركات الثوريّة في العراق»، عن انتفاضة الموصل في آذار 1959 أنها مكتوبة كقصّة بوليسيّة).
سماح أصرَّ على تماسك نصوص «الآداب» وانسجامها، من ناحية اللغة والتوثيق. كان يقضي من الوقت على تحرير نص ليس أقل من الوقت الذي استغرق لكتابته من المؤلّف. حوَّل سماح «الآداب» إلى مشروع سياسي ثوري مرتبط بمشروع لغوي عريق ــ مشروع يحارب محاولة إضعاف وتهميش اللغة العربيّة. وترك سماح لنا إرثاً هائلاً في رقمنة أعداد «الآداب»، وهذه نافذة للباحثين والباحثات عن حقبة لم يُكتب تاريخها، أو هو كُتب لكن من زاوية انعزاليّة. وكان ذلك بالتوازي مع مشروع سماح في كتابة أدب أطفال يُقرِّب الناشئة من اللغة العربيّة. وكتابة أدب الأطفال لا تحظى بالتقدير في مجتمعاتنا بعد لأن تلك الكتب لا تمرّ على أعين نقاد الثقافة في عواصم تسليع الثقافة.
مشاغل سماح في «الآداب» لم تُبعده عن مشروع القاموس الذي عمل عليه وتسلّمه من والده. وكنتُ أستمع إلى اهتمامه بالمشروع بحزن، لأن ذلك ذكّرني بالمعاناة التي كنتُ أسمع عنها في طفولتي عن عبدالله العلايلي في مشروعه القاموسي الضخم. أذكر حزن عائلة أميّ عندما علمنا أن أوغاد حزب الكتائب اقتحموا منزل العلايلي في حي بيضون في الأشرفيّة وبعثروا كل محتوياته بما فيها مواد القاموس التي كان يجمعها في علب بسكويت «غندور». مات سماح ولم يكتمل القاموس وعسى أن يكمله خلفاء سماح في مشروعه الأدبي.
لكنّ اسم سماح ارتبط أكثر ما ارتبط بحركة المقاطعة. وسماح مسؤول بدرجة كبيرة عن منع تحوّل حركة المقاطعة BDS ــ على الأقلّ في لبنان ــ إلى حركة ليبراليّة غربيّة تحضّ العرب على نبذ الكفاح المسلّح وانتهاج قرع الطناجر والمقاطعة بديلاً عن الثورة. لا، سماح أراد حركة المقاطعة أن تكون مكمّلة أو رافدة أم مُساندة لحركة المقاومة العسكريّة وليس بديلاً عنها. سماح كان يقضي الساعات في تجميع مواد شركات تستحق المقاطعة وكان مسؤولاً عن بث ثقافة المقاطعة في لبنان وفي الدول العربيّة. طبعاً، كان عمل سماح تطوّعياً ولم يكن عنده نظام، أو حزب، أو شيخ، أو أمير، يمدّه بالمال لدعم حركته. على العكس، إن ثقافة التطبيع التي اعتنقها سماح ونشرها كانت في تضادّ مع ثقافة التطبيع التي بدأت بفرض الهيمنة في العقد الماضي والحالي. وُوجِهَ سماح بحملات ليبراليّة لبنانيّة سمجة لم توهنه أو تؤثّر عليه إلا في المزيد من العزم.
إعلاميّون في محطة «الجديد» ثابروا على السخرية من سماح واعتبروا أن جهود متطوّع في حملة مدنيّة ضد إسرائيل تستحقّ الدحض والمحاربة وأن محاربة المقاطعة أهم بكثير من محاربة إسرائيل. إعلاميّون في «الجديد» (ذات الهوى الإماراتي بعد أن تغزّلت إلى درجة الغثيان بمشروع المقاومة) رأوا أن تكريس سماح لوقته وجهده لرصد تغلغل إسرائيل في ثقافتنا عبثٌ ما بعده عبث، وأنه من الضروري تحوير الأنظار عن همّ محاربة التطبيع. إعلامي في «الجديد» نشر قبل سنتين ساخراً من سماح قائلاً إنه ــ أي سماح ــ يفضّل أن يموت بالسرطان على أن يأخذ «دواءً» له من إسرائيل (وأرفقَ الخبر بـ «خبر»، من موقع أصفر لا يمتّ للعلم والرصانة بصلة، يزعم أن إسرائيل على وشك اختراع «دواء» للسرطان، تماماً كما أن جوقة الليبراليّين نفسها، روّجت في آذار (مارس) 2020 لـ «خبر» شكّكت فيه صحافة العدوّ عن قرب اجتراح لقاح لكورونا في إسرائيل. همُّ هؤلاء هو انتظار الترياق من إسرائيل كي يقولوا بأن لا مناصَ من التطبيع مع إسرائيل لأن المسألة حياة أو موت). مات سماح بالسرطان واقفاً، ولم يحتج إلى لقاح أو دواء إسرائيلي.
مات سماح واثقاً من صوابيّة مشروعه وكان تحدّيه الأكبر أمام خطر الموت سياسياً قبل أن يكون شخصياً. إن حركة مقاطعة إسرائيل في لبنان تدين لسماح بالكثير، كما يدين له كلّ من يرى في الصهيونيّة خطراً على الثقافة والسياسة العربيّتيْن. عهد المقاطعين والمقاطعات إكمال المسيرة وفاءً ليس لسماح فقط، بل لشعب فلسطين برمّته.
* كاتب عربي ــ حسابه على تويتر
asadabukhalil@