مراقبة مسار التحضير للمعركة الانتخابية «العظمى»، كما يمكن تسميتها (نظراً للمعوَّل عليها من قبل الفريق الأنشط في تغذية الأزمة اللبنانية وفي استغلالها) يقود بسهولة لتوقّع أن تذهب الأمور، وفق كلا الاحتمالين الراجحين أو المرجّحين، إلى صمود وبقاء النظام السياسي اللبناني كما هو، وإلى إفلات منظومة التحاصص من المحاسبة الحقيقيّة. طبعاً هذا أمر غريب بعد أهوال الأزمة المتمادية، وبعد تحوّل الأكثريّة السّاحقة من الشعب اللبناني إلى ضحايا لها، دون حدود ورحمة، بما لا مثيل له، تقريباً، بالمقارنة مع كوارث ونائبات مماثلة في لبنان وحتى في العالم!في مباشر القول ومختصره أن الصراع الحقيقي الذي ستُترجم محصّلته في صناديق الاقتراع (في حال حصول الانتخابات) هو ذلك الذي يتمثّل قُطباه، بمنظومة التحاصص من جهة، والمجموعات والأحزاب التي يعبّئها ويحرّكها عموماً الطرف الأميركي من جهة ثانية. بالتأكيد لن يقتصر المشهد الانتخابي والسياسي العام على هذين اللّاعبَين. ثمّة قوى أخرى، تحاول أن تجد لها موقعاً. وهي قوى متضرّرة واسعة: قديمة وجديدة. غير أنّها محدودة التأثير. وهي بالتالي، عاجزة عن أن تدخل المنافسة من بابها الواسع الذي يوفّر لها فرصة الحضور في النتائج وفي توجيه الأحداث ولو بنسبة محدودة.
لا يُلغي ما تقدّم، ومن ضمن سياقه أو بمحاذاته، احتمال وصول أفراد ومجموعات (يُوفّر لها الدعم السياسي والمالي، ويوفّر لها الإعلام اللبناني الذي يعمل جلُّه في كنف الخطة الأميركية، فرصة الظهور الكثيف) إلى الندوة النيابية. لكن ذلك لن يمثّل تعبيراً عن الاحتجاجات الشعبيّة وعن معاناة أكثريّة اللبنانيّين المفقَرين والموجوعين والمنهوبين والضائعين. هو بالأخصّ، لن يمثّل صوت هؤلاء ومصلحتهم في فرض المحاسبة والعقاب والتغيير الجذري والإصلاح...
الثّابت، وربّما المفاجئ في الأحوال العاديّة، أنّه في المحصّلات، حتى لو خسرت قوى المنظومة وحارسة النظام السياسي اللبناني، الأكثرية في الانتخابات، فالنتيجة لن تكون على حسابها إلّا جزئياً. ذلك أن تلك النتيجة لن تكون، أبداً، ضد نظامها السياسي مصدر الخلل وأساس العلل: العجز عن بناء دولة مؤسسات سيّدة حصينة مستقرة مزدهرة. انعدام وحدة وطنية تحرس السيادة والاستقلال وتوحّد البلاد في وجه الطامعين أو المفرِّطين، وتدافع عن المصلحة الوطنية في وجه المرتكبين والنهَّابين والعابثين من الداخل والخارج...
لقد جرى إلباس المصالح الأنانيّة الخاصة بالفئات العليا من الطبقة البرجوازية والإقطاع السياسي: أي أصحاب النفوذ والثروات والأرباح الخياليّة، والولاء للخارج خصوصاً، لبوس تمثيل مصالح سواد المنتمين، عفوياً وطبيعياً، إلى الطوائف والمذاهب. بذلك تم تطييف ومذهَبَة المؤسسات والنشاطات الرسمية عموماً. اقترن هذا التطييف بتحويله إلى هوية وانتماء وأداة سلطة على حساب الهوية والانتماء الوطنيّين، وبرعاية دائمة من قوى خارجية طامعة أو محتلة. بالموازاة تمَّ تغذية مسار أيديولوجي دعائي بإضفاء هالة وهمية من الفرادة والتميّز والتفوّق على «الخلطة» أو «الصيغة» الوليدة التي لم توفّر يوماً السيادة، أو الوحدة الوطنية، أو العدالة، أو الاستقرار...
قوى المنظومة ولو على نزاع وتنافس وتقاتل، لن تغادر إلّا مرغمة نظامها ومنظومتها. أما القوى الخارجية التي تقود معركة ضارية ضد سياسات بعض أطراف السلطة وضد العلاقات والتحالفات التي استظلّت بها، فلا تستهدف المنظومة ونظامها أبداً. هو نظام تريد له أن يستمر ويتعمَّم كنظام تبعية وتفتيت وتنازع من ضمن سياق ينبغي أن يعم المنطقة جمعاء. المستهدف هو ذلك العامل «الدخيل» الذي تسلّل من خلال ثغرات المنظومة وفئوية ونزاعات أطرافها، ليُدخِل عاملاً خطراً و«إرهابياً» على المعادلات المحلية والإقليمية. ذلك هو المقاومة، بكل ألوانها، التي فرضت الهزيمة على العدو الصهيوني: أداة وهراوة المشاريع الغربية الاستعمارية الرامية إلى فرض هيمنتها على المنطقة والسيطرة على مواردها وأسواقها وقرارها.
تجارب بلدان عديدة من مصر إلى تونس إلى السودان... كشفت أن تغيير حكّام في أنظمة موالية للغرب، بتشجيع من دول المتروبول الاستعماري، لم يؤدِّ يوماً إلى تغيّر تلك الأنظمة. وهكذا فإن واشنطن التي تنخرط مباشرة في شأننا الداخلي لم تُثِر حساسية دعاة السيادة ولا سدنة «الصيغة»، بل هي شحذت شهيّتهم وأذكت حماسهم من أجل أن يتنكبوا أدواراً لم يستطع جزء من فريق السلطة الحالي أن يتنكبها.
لماذا نتحدث فقط عن احتمالَين راجحَين أو مرجّحين. السبب بسيط أثارت الأزمة احتجاجات مئات الآلاف من المتضرّرين. لكن هؤلاء لم يتوحدوا على برنامج وقيادة وأولويات لمواصلة ومحاسبة المسؤولين عن الأزمة وإطاحة نظامهم، ولبلورة البديل الإنقاذي المطلوب. لقد تشتّتوا. من بقي في الميدان ليس، عموماً، سوى أنصار أحزاب يسارية حائرة، أو المجموعات التي جرى تجنيدها في خطة ذكرنا أهدافها وهي تحويل النقمة في وجه خصوم واشنطن وتل أبيب وحلفائهما، وليس ضد المسؤولين الأساسيّين المحليّين عن الفساد والنهب والفشل والانهيار.
زاد في قتامة المشهد أن قوى التغيير القديمة التي ناضلت عقوداً طويلة ضد النظام وتركيبته وأطرافه وسياساته وارتباطاته، عجزت عن أن تتشكل في عمل جبهوي موحَّد وموحِّد تستطيع بواسطته التأثير في الحركة الشعبية الجماهيرية الهائلة التي كانت ولا تزال تحتاج إلى نواة صلبة ثورية توجّه وتفعّل نشاطها ضد المرتكبين في الداخل والمستغلّين المتآمرين في الخارج.
الانتخابات، في حال حصولها، لن تكون نهاية المطاف. الأزمة مستمرّة حتى سنين غير محدودة. ما تبقّى من وقت حتى موعد الاستحقاق يتّسع لإطلاق ومباشرة بداية عمل تأسيسي كبير بما يتجاوز الموعد الرسمي للانتخابات المقبلة والانتخابات نفسها، وذلك من ضمن كفاح مفتوح يتوقّف في محطّات الاستحقاقات لكنه يستمر ويثابر حتى تحقيق هدفه النهائي والجذري.
* كاتب وسياسي لبناني