في أيّ بلدٍ يحوز الحد الأدنى من السوية والتوازن، في شروط العلاقة بين السلطة والمعارضة وبين الحاكم والمحكوم، تكون محطات الانتخابات العامة أداة لترصيد المحصلات الجديدة والتوازنات المتحركة. تبعاً لذلك، تكون الانتخابات حقل المحاسبة الأكبر ومرآة تجسيد نسبة وحجم التأييد أو الرفض، النجاح أو الرسوب... (من دون إسقاط تأثير تقنيات وعوامل قديمة وجديدة في تقليص المحاسبة أو في تضخيمها، كالإعلام والمال والقمع ووسائل الدعاية الجماهيرية المتنوعة). قياساً إلى ذلك، ينبغي أن تكون الانتخابات، في الربيع القادم، مناسبة حاسمة لإحالة سلطة البورجوازية الكبرى الحاكمة عبر منظومة التحاصص الطائفي، ليس إلى الخسارة والسقوط فحسب، بل إلى غياهب السجون. بالتأكيد بعد محاكمات وأحكام بحجم الجريمة التي تكاد تكون فريدة في فظاعتها، وفي حجم متضرّريها، وفي قوتها التدميرية الهائلة التي أصابت البلاد والعباد كما لم يحدث في أيّ بلد آخر! هل هذا ما سيحصل في لبنان في انتخابات الربيع القادم (طبعاً في حال حصولها)؟ الجواب للأسف، وببساطة: لا قطعية! الأسباب كثيرة، وهي كالعادة داخلية أو خارجية على تفاعل وتداخل كبيرين.أولاً، لا بدّ من التأكيد أن الطبقة الحاكمة، قد راكمت واقعياً أسباب قوة وتأثير بفضل استخدام الكوتا الطائفية والمذهبية أداة للهيمنة على السلطة وتقاسمها بين أقطاب البرجوازية الكبرى. من خلال ذلك تمكّنت من استخدام جهاز السلطة وموارد الدولة، كل الجهاز وكل الموارد، في خدمة تحقيق أهدافها وتعزيز نفوذها وتأثيرها. هي إذن، بالعصبيات والإكراه والخداع أو بالإغراء والزبائنية، بسطت هيمنة كاملة على كل المؤسسات والمرافق والمرافئ والحقول الاجتماعية والنقابية والتربوية والفنية والرياضية والاغترابية، يتصل بذلك ويكمله تعطيل الدستور والقانون ومعهما كل أشكال المحاسبة، بما عزَّز قيم النهب الجامح والصفقات والشطارة والرشوة والفساد. وحّدت هذه الممارسات أطراف السلطة التي تدور فيما بينها، أحياناً، خلافات ونزاعات ضارية حول الحصص والسياسات الداخلية والخارجية (وصولاً إلى حروب أهلية!)، لكنها في النهاية تكشّر عن أنيابها، مجتمعة وموحّدة، حيال أي تهديد، ولو بسيط، لسيطرتها وسلطتها وديمومتها.
ثانياً، لا تواجه الطبقة المسؤولة عن الكارثة والانهيار معارضة موحدة ذات برنامج بديل وقيادة وخطة فاعلين. إن المعارضة الوطنية التقليدية، هي في حالة ضعف وتشتت، وسيكون شبه مستحيل تدارك ذلك عبر تشكّلها سريعاً، في خطة وبرنامج وقيادة في الفترة الفاصلة عن الانتخابات النيابية بما يوفر لها حدّاً أدنى من الحضور والمشاركة والتأثير.
بيد أن الحديث عن السلطة والمعارضة الوطنية لا يختصر المشهد إطلاقاً. ثمة لاعب مهم آخر في الصراع في لبنان وعليه. وهو نشط اطراداً مع تدهور الوضع الاقتصادي إلى درجة أنه أصبح اللاعب الأبرز في الحقل التعبوي الإعلامي والسياسي، إنه اللاعب الخارجي. هذا اللاعب يمثّل تحالفاً ثلاثياً يضم واشنطن والرياض وتل أبيب! تدير واشنطن نشاط هذا التحالف، في لبنان، خصوصاً عبر سفارتها في بيروت. أوكل جزء من المهام في نطاق أهداف وخطط هذا التحالف لباريس عبر رئيسها وموفديه واتصالاتهما. لعب هذا التحالف دوراً أساسياً في تسهيل ولادة حكومة الرئيس نجيب ميقاتي. كان وراء ذلك تقديرات من نوع أن من الممكن ضبط إيقاع الوضع اللبناني من دون مجازفة المضي به نحو الفوضى الكاملة بكل ما تحمله من مخاطر في لبنان وفي الإقليم. من تلك المخاطر تعقيد وتوسيع ملف الهجرة الحالية والمتوقّعة. مسألة تحولات توازنات الداخل واحتمال أن يستفيد منها أكثر، المحور السوري الإيراني وحليفاه الروسي والصيني. مبدئياً وسياسياً وعملياً يركِّز الفريق الأول، بقيادة واشنطن على الانتخابات كجولة يحاول أن تكون حاسمة في توليد أكثرية وتوازن جديدين في السلطة لمصلحة أدواته المباشرة (في عدد من منظمات المجتمع المدني الذي تموّله وتوجهه السفارة الأميركية) وفي الحلفاء التقليديين: «قوات لبنانية»، كتائب، مجموعات عميلة للصهاينة، مستقلون معارضون للتيار العوني أو انفصلوا عن كتلته. وظيفة هذه الأكثرية نزع الشرعية عن المقاومة وفتح معركة معها قد تصبح ذات طابع أمني (في الشارع أو مع بعض الأجهزة الرسمية الأمنية)... «موقعة» الانتخابات هي «أم المعارك» حتى إشعار آخر: فإمّا النجاح والعمل من داخل الشرعية وبواسطتها، أو الفشل والعمل في الشارع ضد الشرعية الجديدة أو القديمة (كما أوضح د. سمير جعجع في 5 أيلول الماضي). أي إن المعركة ستستمرّ، ولنفس الأهداف ومحورها تعطيل الدور الذي تمثله المقاومة في الصراع الداخلي والإقليمي: خصوصاً ضد العدو الصهيوني والمطبعين معه.
الطرف الخارجي، بقيادة واشنطن، هو الأنشط والأوضح والأكثر انتهاكاً للسيادة. «يطنّش السياديون» عن ذلك. هم لم يشهروا يوماً حسهم السيادي ضد إسرائيل أو واشنطن أو بعض الدول الخليجية. هذا الطرف يستغلّ الأزمة، يهجو شكلياً الطبقة السياسية (كلن يعني...). إلّا أنه يطلق رصاصة فقط على رأس المقاومة. هو في الواقع لا يحاسب المسؤول عن الأزمة كما يدّعي، بل يحاسب خصمه السياسي في لبنان والإقليم، خصوصاً أن أكثرية الفاسدين الساحقة هي فعلياً من حلفائه وأدواته في السلطتَين السياسية والمالية. هذا فيما يجري الآن الإعداد لكي يفرض صندوق النقد وصفته «الإصلاحية» لإقراض لبنان بعض الأموال بشروط يسعى لأن يدفع ثمنها شعبياً خصومه في الانتخابات، لا أتباعه التقليديون في السلطة والمعارضة المزيفة. بذلك هو يضرب عصفورين بحجر واحد: وضع لبنان تحت وصاية صندوق النقد، وإعفاء المسؤولين الحقيقيين من العقاب على جرائمهم! يزج الحلف المذكور إمكانيات هائلة في معركته تلك: ميزانية بمليارات الدولارات. آلة تحريض وتضليل إعلامية هائلة خارجية وداخلية (الإعلام المرئي خصوصاً). تفريخ المنظمات المدنية وتقديم مساعدات سخية لها ومحاولة تقويتها وتوحيدها. تقديم مساعدات (رشاوى) كبيرة لأجهزة وجماعات وفئات أهلية متنوعة بهدف انتخابي فج ومباشر.
ما هو الموقف الوطني من الانتخابات؟
ينبغي أن يتحدّد هذا الموقف بالعمل، دون هوادة، لفضح وإفشال المشروع الأميركي الخليجي الإسرائيلي، من جهة، ولتوحيد وتوجيه السهام ضد قوى المحاصصة: بالنهب والفساد وتدمير البلد وتجويع الناس، من جهة ثانية. برنامج وتراث القوى الوطنية واليسارية يرشحانها، هي وحدها، لتخوض هذا الخيار الثوري الكبير: نرجو، (ينبغي أن نعمل من أجل) أن يحصل ذلك: اليوم قبل الغد!!
ليست المهمة المذكورة سهلة. لكن، هل ثمة مهمة وطنية يمكن أن يكون إنجازها سهلاً: في ظروف قوى التغيير الوطني المعنية، وفي ظروف لبنان الراهنة؟! الحكم والتقييم سيتحددان وفق الاستجابة أو الرفض؟!
* كاتب وسياسي لبناني