جماعةٌ من الذين صفت قلوبهم لم يذكر أبو حيّان التوحيدي سوى خمسة أسماء منهم سُموا بـ «إخوان الصفا وخلّان الوفا» من أهل القرن الثالث الهجري (العاشر الميلادي)، توزّعوا على تشكيل اجتماعي متنوّع الطبقات من أولاد الملوك والزعماء إلى الصنّاع والتجار إلى الفلاحين والمزارعين إلى أولاد الفقهاء والأدباء ، وإنّ هذا بحدّ ذاته لا بد من دراسته أكثر حيث نتلمّس لديهم الحس الاشتراكي التوحيدي والمعرفي بمعناه الإنساني الواسع لجهة تحمّل همّ المجتمع والأمة وصولاً إلى تكامل مفقود في سياق عودة راضية مرضية إلى الله والحضور الجدي في ساحته، هذه العودة التي تحيا الغربة والانقطاع عن مجتمعنا الذي يتقلّب على كثير من التمزّق والتشتّت وفقدان التوازن في علاقاته، وتالياً ابتعاده عن دوره ومسؤولياته وانغماسه أكثر فأكثر في حبكة متناغمة من التشابك المصلحي والنفعي المادي، بعيداً عن أية معايير قيمية ترتقي بالمجتمع وتجعله جديراً بالحياة، بل يصبح مجتمعاً بات يتغذى على تفاهة تتحكّم بمفاصله شتى.
«رسائل إخوان الصفا» - الجزء الأوّل، بلاد فارس، القرن الرابع عشر م. (موقع «ساوثبيز»)

قال باحثون إنهم ــ إخوان الصفا ــ فرقة باطنية سرية لا نعرف عن حقيقتها وتوجهاتها الكثير ومنهم من قال بـتأثرها بفلسفة الهند وفارس واليونان ومنهم من جعل الأثر الأكبر لفرقة «الإسماعيلية» في ظهور مذهب هذه الجماعة التي ألّفت رسائل موسوعية قُدرت باثنتين وخمسين رسالة عُرفت بـ «رسائل إخوان الصفاء». وقد اختُلف أيضاً حول أسماء مؤلفيها الحقيقيين، فربما هي من كلام الإمام علي بن أبي طالب أو لبعض متكلّمي المعتزلة الأوائل أو ربما لبعض أئمة «الإسماعيلية».
كان لهم نظام تراتبي خاصّ، فالمرتبة الأولى تضم المبتدئين من سنّ الخامسة عشرة إلى سنّ الثلاثين وهم «الإخوان الأبرار الرحماء»، ثم المرتبة الثانية تضم من هم في سن الثلاثين إلى الأربعين وسُموا «الإخوان الأخيار الفضلاء»، ومن أتمّ الأربعين إلى الخمسين هم المرتبة الثالثة وسُموا «الإخوان الفضلاء الكرام» ومن أكمل الخمسين من العمر هم في مرتبة رابعة «الحكماء» الذين يشاهدون الحق عياناً وهم في أعلى مرتبة.
تعدّدت حول غايتهم آراء الباحثين، فمثلاً يرى طه حسين أن غايتهم سياسية وهي قلب نظام الحكم القائم عبر قلب النظام العقلي الموجود عند المسلمين، ومنهم من يقول بأن غايتهم باطنية غير معروفة الأهداف ومن المستشرقين من أشار إلى أن غايتهم روحية معرفية، أما أبو حيان التوحيدي فيرى أن غايتهم هي تطهير الدين بالفلسفة ممّا لصق به على أيدي الناس من الجهالات سعياً وراء الكمال.
السياسة من أدق الأمور وأكثرها ارتباطاً عضوياً بالحياة اليومية وقضاياها وتفاصيلها، لذا على الحاكم أن يكون أكثر الناس عقلانية واتزانا وحكمةً ووعياً لموقعه


هدفت هذه الجماعة المتعاونة إلى إعداد نوع إنساني راقٍ ومختلف عن الموجود الغارق في غمرة الدنيا وزبرجها، لذا كان المحور عندهم هو إيجاد إنسان متحرر من المقيدات، حرّ في فعله، متحضّر في رؤيته، شريف في غايته، متطهّر من أنانياته وعصبياته المذهبية، منطلق إلى الزمان الخارجي الواقعي بكل مشاكله وتحدياته متحلياً بالجرأة والشجاعة في المواجهة، غير مستسلم لهذا الصخب ومنفصل عن أي تأثير إيجابي فعّال يفرض على السلطة اختياره الذي يحفظ الكيان الجمعي القائم على الاستقامة والطمأنينة. إنَّ الحكام والساسة كما حذَّرت جماعة إخوان الصفا لم يقوموا بما عليهم من رعاية مصالح الناس والتي هي الأساس في قيام حكمهم، لكنهم استغلوا المنصب للتسلط وإدارة شؤونهم الخاصة بدل حسن رعاية مصالح الناس وسوقهم في طريق العدل إلى الغاية المثلى في خلق مجتمع منظّم ومطمئن، فليس قدراً للناس أن يرضوا بأمثال هؤلاء الذين لا يتحلون بالتعقل والصدق والعدل والبصيرة والعزيمة والزهد في الدنيا. إنَّ غاية السياسة ليست الحصول على منصب أو مجد، بل حفظ صلاح اجتماع الناس من كل ضرر مادي أو معنوي وإدارة كل طاقة ممكنة في سبيل بناء مجتمع مسترشد يستطيع الضعيف فيه أن يحصل على حقه وأن يُقتصّ من الفاسد والظالم.
من هنا فالسياسة من أدقّ الأمور ومن أكثرها حساسية وارتباطاً عضوياً بقضايا الحياة اليومية وتفاصيلها، لذا على الحاكم أن يكون أكثر الناس عقلانية واتزاناً وحكمة ووعياً لموقعه وخطورته وأكثرهم معايشة للقلق المعرفي الحريص على نقل المجتمع من حالة الاهتزاز إلى حالة الانسجام والاستقرار. إنها مهمة دقيقة وشاقة لكنها شريفة - إن فطن- الحاكم والسياسي إلى واجباته في حفظ النوع الإنساني والسهر على مصالحه ومحاولة علاج أي تنافر أو ضعضعة في المشهد العام، إنه ينظر إلى الصورة ككل بناء على أساس حفظها ولا ينظر إليها بشكل تجزيئي قاصر من أجل حفظ مصالحه.
كما أنَّ التعصب للدين ليس من أجل الوصول إلى الجاه الاجتماعي وإلى التسلط على الناس بل خدمتهم وسوقهم سوقا حكيماً إلى تعزيز فضائلهم وتناغم محبتهم للمعرفة المنتجة المنفتحة.
من هنا على الأمة واجب التصدي لمنطق الرشوة وانتشار الفساد الديني والسياسي والاستثمار في مشاريع طائفية ومذهبية بغيضة وحفظ الحق ونصرة أهله، والعمل على الوحدة الشعورية والاجتماعية والإنسانية وكفّ يد الفاسدين في الميادين كافة والتأسيس لقيام دولة الإنسان.
كثيرةٌ هي المباحث والموضوعات التي تعرّض لها إخوان الصفا في رسائلهم، وما يهمّنا اليوم أننا نحتاج إلى منطق يدفع بالناس إلى الإحساس بمسؤولياتهم أكثر في ظل الغبن والغفلة والخنوع وانتشار الفساد والتضليل والتعصب المذهبي والطائفي، وفي ظل سطوة المتغطرسين من أرباب السلطة الدنيوية الجشعين، وإلى منطق يفرض على الحكام غير المؤهلين للحكم أن يخرجوا من حياة الناس ويعتقوهم من تسلطهم وألاعيبهم القذرة.
تعالت روحية إخوان الصفا على الفواصل الاجتماعية والدينية وتعاضدت على وضع عقد اجتماعي وثقافي يركز على آمال الناس وآلامهم، فكم من عقود اجتماعية وثقافية وسياسية لا بد من القيام بها من قبل الحريصين على البدء بمشروع بناء دولة الإنسان والمواطنة الصالحة التي تنبذ كل العصبيات وترفض كل المتاريس المصطنعة التي تحوّلت إلى عوائق تكرّس تخلفنا؟
يعيش البلد اليوم أوج التوتر السياسي وانعدام الأمن الاقتصادي والاجتماعي وحتى المعرفي، فعلى الأقل في القرن الثالث الهجري كان هناك من يُنتج ويبدع ويتجرأ على القول ويعمل سراً وعلانيةً على التغيير والنهوض على الرغم من التعقيدات والتحديات. فدعوة إخوان الصفا حاولت استثارة دفائن المشاعر والوجدانيات وأسئلة الفكر الحرة بشكل متعالٍ حتى يمسك الإنسان بزمام المبادرة ويخلق واقعاً يليق به ويبقى دائم القدرة على توليد الرؤى والأفكار بشكل متجدّد، وكأنّ صدى هذه الحركات والدعوات لم تَعِها إلى الآن أُذنٌ واعية.
لم تعد الأمورُ منضبطة للتعرف بوضوح إلى حجم التداخل المصلحي بين الطوائف وحسابات الخارج من الدول والسياسات ولا بين التداخل المخيف بين الأنا والذات وبين مصالح العباد، حتى بتنا أمام فقدان أصالة الإنسان ومشروعه العقلاني ولم يعد الكلام عن التغيير إلا حديثاً أشبه بحمار الطاحونة الذي يدور دائماً على منوال واحد.
* أكاديمي وحوزوي