منذ انقلاب الأمير حمد بن خليفة على أبيه وتوليه حكم إمارة قطر عام 1995، باشرت إدارة سياستها الخارجية بمعزل عن المملكة العربية السعودية التي طالما كانت الراعية لسياساتها الخارجية وشديدة التأثير فيها، وبدأت رحلة سياسة التناقضات التي أتقنتها قطر جيداً، بالتزامن مع إطلاقها أبرز منصة عربية إعلامية والأكثر متابعة في المنطقة؛ «الجزيرة».تميّزت الإمارة الصغيرة المُحاطة بعملاقين، أحدهم من الشرق (السعودية)، وآخر من الغرب (إيران)، اللذين يتصارعان على النفوذ في غير بلدٍ عربي. بحركتها الدائمة التي لا تهدأ، كالقرش الأبيض الذي لا يعرف السكون، كما يحلو للبعض توصيفها. وإدارتها لسياسة خارجية حبلى بالتناقضات؛ إذ تستضيف أكبر قاعدة أميركية في الشرق الأوسط (قاعدة العُديد) من جهة، وتربطها علاقة متميزة مع إيران من جهة ثانية. وفي الوقت عينه لديها مكاتب تمثيل تجارية لـ «إسرائيل»، وفي المقابل تتخذ حركة «حماس» منها مقراً لقياداتها بعد مغادرتها سورية عام 2012 إثر اندلاع الحرب السورية. ولـ «حزب الله» نصيب من العلاقة معها نشأت بعد الحرب الإسرائيلية على لبنان عام 2006، وتلقيه المساعدات منها لناحية إعمار الضاحية الجنوبية لبيروت على الأقل. التي زارها الأمير القطري آنذاك حمد بن خليفة وسط رايات «حزب الله» وعلى وقع شعار «شكراً قطر».
سياسة قطر الخارجية تُدخلك في حيرة عند مقاربتك لمختلف الأدوار التي تضطلع بها في المنطقة، إذ كيف لهذا البلد الصغير أن يلعب هذا الدور؟ أو بالأحرى، كيف يُسمح له لعب هذا الدور؟ وهو أصغر الكواكب السيّارة في الفلك الأميركي! فيساورك الشك أن هذه السياسة المتناقضة ملعوب أميركي مئة في المئة، ولا يسعها إلا تحقيق مآرب العم سام. وبمكان آخر ترى عكس ذلك، فثمة أفعال تقوم بها قطر تزعج أميركا وتضر بمصالحها، لكن الأخيرة سرعان ما تغفر لها فعلتها لغاية في نفس يعقوب.
ثمة من يرى أن اللعب في ملعب الكبار يفرض على الإمارة جمع التناقضات، لحماية نفسها واستقرارها أولاً، ولحجز مكان لها على لوحة الشطرنج الشرق أوسطية ثانياً، بما يفوق حجمها بكثير، متسلحة بسياسة ونهج براغماتي فوق العادة وباقتدار مالي هائل يمكّنها من استقطاب مختلف الدول الكبرى نحوها وتمتين العلاقة معها. ولم تترك الإمارة باباً لتعزيز دورها إلا وطرقته، وليست هناك أية موانع تحول أمامها مهما كانت الوسائل قذرة، إذ لم تتورع قطر عن دعم جماعات إرهابية في غير بلد عربي اشتعل بنيران ثورات الربيع العربي، أو في بلد إسلامي، حتى أضحت خبيرة بشؤون تلك الجماعات لدرجة بات بمقدورها ترويض بعضها وإحالته إلى جماعات «معتدلة» كما هو الحال في احتضانها لحركة طالبان وإقامة عدد من قادتها البارزين على أراضيها، ودفعها إلى التفاوض مع الولايات المتحدة وتوقيع اتفاق أفضى في نهاية المطاف إلى انسحاب الأخيرة من أفغانستان وتركها لحكم الملالي.
لم يأتِ دور قطر من عدم، إذ عرف أميرها الأب حمد بن خليفة، فور تسلمه الحكم أن الطريق للعب دور في الإقليم يمر بتل أبيب وصولاً إلى واشنطن، فكانت قطر إضافة إلى عُمان من أولى الدول الخليجية التي فتحت أبوابها لقيادات العدو الإسرائيلي واعتماد مكاتب تمثيل تجارية إسرائيلية في الإمارة إضافة للنشاطات الرياضية المشتركة وغيرها. وأمست قطر وجهة «آمنة» للسيّاح الإسرائيليين لقضاء عطلة في منتجعاتها الفاخرة دون أية عقبات تعكّر صفو استجمامهم. وورث حمد عن أبيه علاقة مع إيران متميزة عن شقيقاتها من دول الخليج العربي، إذ اعتمدت قطر سياسة محايدة طوال الحرب العراقية الإيرانية إلى حدٍ ما، رغم بعض مواقفها السياسية في إطار مجلس التعاون ونتيجة لضغوط سعودية، حيث كانت تضطر إلى تزويد نظام صدام حسين ببعض المساعدات المالية والدعائية. وهذا ما سمح بتطور العلاقات بين قطر وإيران فور انتهاء الحرب، علماً أن قطر تعتبر الدولة الوحيدة في المنطقة التي أيّدت في عام 1990 تنفيذ اتفاقية الجزائر بين إيران والعراق.
كذلك أدرك الأمير حمد باكراً أهمية القوة الناعمة بتأسيسه شبكة قنوات الجزيرة القطرية، وذلك بعد انقلابه على أبيه بنحو خمسة أشهر فقط. وسعت قطر من خلال قنوات الجزيرة لترسيخ قوتها الناعمة في محيطها العربي والإسلامي عن طريق انتهاج سياسة تحريرية «قومية عربية» تُعادي فيها بالظاهر، الولايات المتحدة وإسرائيل. وتساند القضية الفلسطينية وتخاطب الوعي الجمعي العربي بخطاب لم نعهده من مختلف القنوات العربية. حتى تحولت قناة الجزيرة إلى أكثر الوسائل المؤثرة والمزعجة للدول المناوئة لقطر. وقد ظهر ذلك جلياً في سنوات القطيعة (2017 ــ 2020) بين قطر من جهة، والسعودية والإمارات والبحرين ومصر من جهة ثانية. ورفضت قطر كل الضغوطات والأصوات المطالبة بإسكات القناة التي باتت مفاعلاً نووياً بنظر قادتها قياساً بفعاليتها وتأثيرها بالمحيط. وعندما اشتدت الضغوط السعودية على «الجزيرة» تصدت الدوحة لهذا المطلب لأن قناتها هذه تشكل جيشها الأول في جبه العواصف والتحديات التي تعترضها. ويكفي الدوحة تردد اسمها على مدار رأس كل ساعة إخبارية في «الجزيرة» التي أثبتت أنها أفعل من الدفاع عن بلدها أكثر من مردود الإنفاق على صفقات الأسلحة.
ولم يتخلّف الأمير الابن عن سياسة أبيه منذ توليه الحكم عام 2015، بل أضفى مزيداً من الأدوار الملتبسة على الإمارة في الإقليم، بدءاً من دعمه للجماعات المتشددة، مروراً بزيادة وتيرة تمويل عدد من مراكز الأبحاث ذات التأثير في واشنطن، لا سيما معهد بروكينجز الشهير، والذي يديره المسؤول الأميركي البارز مارتن إنديك، وصولاً إلى استيعابه حركة طالبان وترويضها ودفعها للتصالح مع أميركا. حتى أمست الإمارة حاجة أميركية لا يُستغنى عنها، وفي مقدمة حلفاء واشنطن في المنطقة.
بفضل الأدوار الأخيرة للإمارة، تحولت قطر من دولة تابعة لأميركا إلى دولة شريكة في صناعة بعض سياساتها في الإقليم، إذ تعتبر قطر اليوم الأقل قلقاً على مستقبل علاقتها مع واشنطن، بخلاف دول الخليج الأخرى، لا سيما السعودية التي تتوجّس شراً من انكفاء أميركا عن المنطقة، سواء بسحب دفعة من صواريخ «الباتريوت» قبل أسابيع قليلة من المملكة، أو من انسحاب القوات الأميركية من أفغانستان الذي سوف يكون مقدمة لانسحابها من سورية والعراق، والتفرغ لصراعها الاستراتيجي مع الصين في آسيا والمحيط الهادئ.
إنها الإمارة اللغز، وستبقى كذلك، تجمع الأضداد والتناقضات، ومطمئنة إلى وضعها الداخلي.

* كاتب سياسي