سوف يكون السؤال مشروعاً إلى حدٍّ بعيد، عن العلاقة بين استلاب الإرادة والانهيار الشّامل في لبنان، عندما نعلم حجم وطبيعة الفرص التي تساعد بشكل جوهري في معالجة الانهيار الذي نعيشه، والتي – أي تلك الفرص – يتم تعطيلها وتضييعها. والسبب هو افتقاد إرادة متحررة وصلبة، ترتكز إلى المصالح الوطنية للدولة وعموم الناس، وجملة من المعيقات التي تحول دون العمل الجادّ على تلك المصالح. في تحليل عناصر الأزمة (الانهيار الشامل) في لبنان، يلحظ بوضوح مستوى كبير من التوظيف السياسي الذي يمارسه أكثر من خطاب إعلامي وسياسي، حيث يُعمل على تشويه الوعي والتضليل والتعمية... كل ذلك بهدف صناعة رأي عام، يسعى لحصد مكاسب سياسية أو أخرى في موسم انتخابي أو آخر.
بابلو دي فيرما (الأرجنتين)

في هذا السياق، لا بدّ من الوقوف عند ثقافة السلطة والطائفية، وما يمكن أن يستولداه من ديناميات مستديمة للصراع، وافتقاد هوية وطنية جامعة وصلبة، وضعف ثقافة المصلحة العامة في مقابل المصلحة الخاصة، وبنية الاقتصاد في لبنان، وما يعاني منه من اختلالات وعيوب، والفساد في دلالاته السياسية والاجتماعية والاقتصادية... وليس فقط السياسية، وصولاً إلى استلاب الإرادة، وتشظّي الوعي، وتشوّه الرؤية، وتناقضهما على المستوى الوطني.
جميع ما ذكرنا ـــ ولربما غيره أيضاً ـــ هو من أسباب الأزمة (الانهيار) في لبنان؛ لكن سبباً أساسياً ـــ من ضمن ما ذكرنا من أسباب ـــ تجري التعمية عليه، ولا يُولى ثقله في مجمل الخطاب السياسي والإعلامي ذي الصلة. وهو ما صدّرنا مقالنا فيه، من استلاب الإرادة ووهنها، وضلال الرؤية وسقمها، والمستوى الخطير من التبعية للخارج، والاستتباع له، الموجود لدى مختلف النخب السياسية والاقتصادية وغيرها في لبنان، والذي ـــ إذا ما صنّفنا أسباب الأزمة بحسب ثقلها وأهميتها ـــ يعدّ من أهم الأسباب لنشوء الأزمة، وأيضاً ديمومتها، وتفاقمها.
فما الذي يدفع تلك النخب إلى التماهي مع الإرادات الخارجية، في تعطيل أية حلول للأزمات الاقتصادية والمعيشية التي يعاني منها اللبنانيون، أو المشاغبة في بعض الإسهامات التي يمكن أن تخفف من وطأتها، حتى لو أدى ذلك إلى الإضرار بالمصالح الوطنية، والذي قد يصل إلى حدّ تجويع الناس وتعطيل دورتهم المعيشية، وإفقارهم وإذلالهم، وانتهاك كرامتهم؟
يمكن أن نتحدث في مقام الجواب عن مصالح شخصية أو فئوية؛ وأيضاً عن عصبيات (سياسية، طائفية، مذهبية..) تسبب مستوى من العمى السياسي والاستراتيجي والوطني... وتفضي إلى حالة خطيرة من اللاعقلانية في مقاربة الشأن الوطني، كما يمكن أن نشير إلى العداوات ببعدها النفسي والسياسي ـــ وما تنطوي عليه من أمراض نفسية (حقد، حسد...) ـــ لكن قد يكون لثنائية الانهيار والانبهار (انهيار الذات، والانبهار بالآخر)، أو ما قد يُعبّر عنه بثنائية الاستعلاء والاستتباع، دورٌ أساسي في ذلك. أي لعلّ من الأسباب الأساسية عدم وجود المستوى الكافي من الشعور بالكرامة الوطنية، والعزّة القومية لدى تلك النخب، أو حتى انعدام ذلك الشعور لدى البعض منهم، وهو ما قد ينطوي أيضاً على نوعٍ من الدونية والحقارة الذاتية في النظرة إلى الذات (الشخصية أو الاجتماعية أو الوطنية)، في مقابل رؤية الخارج عظيماً والانبهار به، وهو ما يؤدّي إلى الرضا باستخفافه، والانصياع الأعمى له، والقبول بإملاءاته، حتى لو كان مؤادّها الإضرار بالوطن والمواطن وجميع المصالح الوطنية، وما يمكن أن يؤدّي إليه ذلك من تبعات خطيرة اقتصادياً وسياسياً واجتماعياً، وعلى أكثر من مستوى.
وهذا الموضوع ليس موضوعاً نفسياً محضاً، أو شخصياً محضاً، وإنما هو موضوع سياسي وأمني وسيادي ودفاعي واقتصادي ونقدي ومالي واجتماعي ومعيشي، بل هو يرتبط أيضاً بالأمن القومي، وغيره من مجالات الأمن ومتعلقاته.
إنّ حضور الكرامة الوطنية، والعزة القومية لدى أي مجتمع، ونخبه السياسية وغير السياسية، هو عامل أساس لنجاح الدّول، وتطورها وتألّقها وقدرتها على تجاوز مشكلاتها ومعالجة أزماتها، في حين أنّ الضعف فيهما سوف يفضي إلى نتائج من قبيل:
1- فتح الأبواب أمام مجمل التدخلات الخارجية الفجّة والمضرّة بالمصلحة الوطنية في كثير من الأحيان.
2- إنّ أي خلاف داخلي سوف يؤول بالمجمل إلى خلاف خارجي (إقليمي ودولي)، كما هو الحال في لبنان.
3- تعطيل القدرة على إنتاج الحلول لمختلف الأزمات، أو تعقيدها إلى حدٍّ بعيد.
4- الوهن في اعتماد خيارات وطنية على المستوى الاقتصادي أو الأمني أو السياسي، لعدم وجود إرادة وطنية جامعة وصلبة.
4- التسبّب ـــ بنسبة أو أخرى ـــ بإصابة الدولة في مؤسساتها وإداراتها بالشلل أو الضعف أو العجز عن المبادرة والقدرة على الإنتاج والإدارة.
5- جنوح بعض القوى والنخب إلى التماهي مع إملاءات وتوجهات خارجية لا تنبع من المصالح الوطنية، بمعزل عن الذرائع والمبررات.
أليس هذا ما نعاني منه في لبنان؟ أليس ما نتحدث عنه جزءاً من أزمتنا الراهنة؟ أليست هذه العوارض السياسية والاجتماعية بادية في الاجتماع العام اللبناني مع دلالاتها. ألا يمكن القول إنّ ما نعاني منه هو ـــ ولو على نحو جزئي ـــ وليد استباحة الإرادة واحتلالها، وتشويه الوعي ودونيته، والإيغال في انتهاك السيادة، والإساءة إلى الكرامة الوطنية، إلى درجة يمكن الحديث فيها عن احتلالٍ يُمارس من قبل قوى خارجية للإرادة الوطنية، وللوعي الوطني، حيث إن تحرير الإرادة من الاستلاب والاستتباع والوهن، وتحرير الوعي من التشويه والدونية والقابلية لممارسة الاستعلاء، هما شرط أساس لقيامة الدولة ومكانتها وقدرتها على إعادة إنتاج نفسها وتخطّي أزماتها.
يستطيع لبنان أن يحوّل التهديد إلى فرصة من خلال إيجاد بيئة مناسبة لتنافس اقتصاديّ لكلٍّ من الشرق والغرب عليه، بحيث تكون القاعدة هي المصلحة الوطنية


في هذا الإطار توجد لدينا في واقعنا اللبناني أمثلة كثيرة على ما نقول سواء في التاريخ القريب أو البعيد، لكن أذكر مثالاً ماثلاً قد يكون على قدر من الوضوح في السياق الراهن.
أما مثالنا فيتصل بالأزمة الشاملة التي يعاني منها المواطن في لبنان؛ حيث يوجد العديد من الفرص والعروض الاقتصادية المتأتية من دول مشرقية والتي يمكن أن تسهم ـــ في حال الأخذ بها ـــ بشكل مؤثّر وفاعل في المساعدة في معالجة العديد من الأزمات التي يعاني منها المواطن اللبناني في لقمة عيشه وصحته ومختلف حاجاته الأساسية والضرورية؛ لكن ـــ وللأسف ـــ لا يُعمل على اقتناص هذه الفرص والأخذ بهذه العروض، حيث إن الذي يسهم في ذلك هو استلاب الإرادة، وتدنّي الشعور بالكرامة الوطنية، وجفاف الحسّ الوطني، وعدم وجود إرادة وطنية متحرّرة وشجاعة لدى مجمل النخب السياسية، بما يحصّنها في مواجهة أية تبعية أو هيمنة أو إملاء أو تدخّل أو استعلاء أو انتهاك للسيادة من قِبل أية دولة.
مع أن هذا التهديد الذي يواجه لبنان حالياً يمكن أن يتحوّل إلى فرصة، وذلك من خلال إيجاد بيئة مناسبة لتنافس اقتصاديّ لكلٍ من الشرق والغرب عليه، بحيث تكون القاعدة في ذلك المصلحة الوطنية اللبنانية اقتصادياً وغيرها، وليس الخضوع لأي تغوّل خارجي أو هيمنة خارجية والارتهان للخارج. وهو ما يحتاج بالدرجة الأولى إلى تحرير الإرادة، والارتقاء بمستوى الكرامة الوطنية والعزة القومية لدى النخب السياسية وغيرها.
في هذا السياق لو أن قراراً وطنياً وسيادياً صلباً وشجاعاً، يُؤخذ بشكل حازم وفاعل على المستوى الوطني، لفتح الباب أمام أية عروض وفرص، يمكن أن تساعد على حلّ الأزمة التي نعاني منها في لبنان، بحيث يكون المعيار فيها ما ينسجم أكثر مع المصلحة الوطنية العليا للدولة والمواطن؛ ألن يفضي هذا الأمر إلى إيجاد بيئة تنافسية لقوى دولية وإقليمية على تقديم العروض الأفضل اقتصادياً ومالياً للبنان، وخصوصاً لو كان معلوماً لدى تلك القوى أنّ ممارسة أي حصار اقتصادي أو تدخّل أو تغوّل، كلّ ذلك لن يفضي إلى كسر الإرادة الوطنية اللبنانية أو إخضاعها؟
لكنّ المشكلة تكمن ـــ بشكل أساس ـــ في هذه النخب السياسية وغير السياسية، وإرادتها المستتبعة، ورؤيتها المشوّهة، والتي تحول دون اعتماد هذا الخيار الاستراتيجي، بالانفتاح على كلٍ من الشرق والغرب معاً، وتنويع الخيارات الاقتصادية للبنان على أساس من المنافسة والمفاضلة، المنافسة بين الشرق والغرب، والمفاضلة داخلياً ووطنياً في اختيار ما هو ألصق بالمصلحة الوطنية.
فهنا، كيف يمكن أن نتعقّل هذه العداوة، التي تبديها هذه النخب، أو القوى لأية جهة، تسعى إلى تحرير الإرادة اللبنانية، وتعزيز الكرامة الوطنية، وتطهير الوعي الوطني، وصولاً إلى تحرير القرار الاقتصادي اللبناني؛ إلا على النحو الذي ذكرنا، بمعزل عن المبررات والذرائع والسردية الهزيلة التي يعلنون عنها.
كيف يمكن أن نفسّر خطاباً إعلامياً يستهدف بالإرجاف والتشويه والشيطنة والتضليل، على أنه محاول لبنانية لكسر الحصار المفروض على لبنان، ومبادرة تسعى إلى التخفيف من آلام الشعب اللبناني، ومعالجة بعض الأزمات التي يعاني منها المواطن في مجمل حاجاته الضرورية؛ إلا على النحو الذي ذكرناه.
إنّ ما تقدّم يتطلب تحرير الإرادة وتطهير الوعي. وهما يستدعيان تقديم النموذج، والمبادرة في الميدان، وممارسة القيادة. وهو ما تقوم به المقاومة في لبنان، من خلال الإقدام الشجاع على استقدام البواخر من الجمهورية الإسلامية في إيران، لتلبية حاجات المواطن اللبناني، ولو بشكل جزئي ومتواضع، حيث إن القيمة الكبرى لهذا القرار تكمن في بعده المعنوي والرمزي، من جهة الدفع بالقرار الوطني إلى المدى الذي يلامس فيه الكرامة الوطنية، والعزّة القومية، ومصلحة لبنان دولةً وشعباً، ويتحرّر فيه من أية دونية أو ضِعة أو خوف أو رهاب، عندما يكون الأمر متصلاً بالمواطن اللبناني وكرامته ولقمة عيشه، وخبزه وصحته وجميع حاجاته ومصالحه.
وهو ما يقودنا إلى استحضار تجربة المقاومة في لبنان، عندما بقيت إسرائيل تحتلّ وتقتل وتعتدي وتنتهك وتعربد وتخيف وترعب... لسنوات وعقود عديدة، لكن ما إن تبلورت إرادة وطنية لبنانية صلبة، ترتكز إلى وعي متحرّر ومستقل، حتى أمكن قلب المعادلة، وتحقيق واحد من أهم الإنجازات الوطنية في تاريخ لبنان الحديث، والمتمثّل في تحرير الجنوب اللبناني ـــ في مجمله ـــ من الاحتلال الإسرائيلي عام 2000، وإيجاد معادلات ردع مع العدو الإسرائيلي، عطّلت مجمل مبادرات العدوان لديه على لبنان، وشعبه وسيادته ومصالحه.
هذا في الحرب العسكرية والأمنية، أما في الحرب الاقتصادية والعدوان الاقتصادي، الذي يُشنّ على لبنان إسرائيلياً وأميركياً، فنحن نحتاج إلى إرادة مشابهة وإلى وعي مشابه. أي إننا أحوج ما نكون إلى نقل عدوى الإرادة في مضمونها التحرري، من التجربة العسكرية في مقاومة الاحتلال إلى التجربة الاقتصادية في مقاومة الحصار والتجويع وسياسات الإذلال التي تمارس من قبل الولايات المتحدة الأميركية.
إنّ أهمية ما تقوم به المقاومة الآن أنها تعمل على استنساخ الوعي المقاوم في مضمونه السيادي، من سياقه العسكري والأمني إلى سياقه الاقتصادي والمعيشي، بما يساعد على تدشين مسار تراكمي في الإنجاز، وتقديم النموذج، وقيادة الاجتماع اللبناني العام إلى حلّ أزماته، وتجاوز مشكلاته، من خلال إعمال مصالحه، وإرادته الوطنية، من دون أي خوف أو وجل من أية قوّة خارجية، وتحديداً الولايات المتحدة الأميركية، رغم ما قد يواجهه هذا المسار من تحدّيات وصعوبات في الداخل قبل الخارج.
* أستاذ الفلسفة في الجامعة اللبنانيّة