على امتداد عصور الحداثة وما أنتجته، كان مفهوم «الحكم والديمقراطية» يتصدّر الكثير من الدراسات والممارسات، ويشكل أساساً بارزاً في تحديد شكل النظام السياسي، حيث تطور وتغير واستُخدم بأساليب ومن قبل قوى مختلفة. تعدّدت المفاهيم والتسميات، فكان ينتقل من حكم الأكثرية إلى حكم الشعب، ومن تداول السلطة إلى الحرية والعدالة وغير ذلك من الأمور. لكن، إذا أمعنّا النظر، ولو قليلاً، في هذه المفاهيم وقارنّاها بما يواجه عالمنا المعاصر من تغيّرات، وما شابه من تحوّلات، لوجدنا أنَّ ما نعيشه اليوم، هو شكل من العلاقة السلبية أو لنقل «الديمقراطية السلبية» التي تجعل من الشعب شعباً مستلباً بإرادته، متلقّياً لكل ما يُصنع له وليس نشيطاً أو فاعلاً أو متفاعلاً أو مُنتجاً لأفكاره ولأعماله. إنها حالة لا وجود فيها للصراع السياسي الحر ولتنافس البرامج لاختيار الأصلح في جوّ من النقاش الحر وتكافؤ الفرص، وإنما استُبدل بصراع «ألوان»، سواء في الشارع أو في وسائل الإعلام، فاحتلّ اللون، من ربطة العنق إلى الشارة إلى الخلفية، المشهد السياسي، وأصبحت المنافسة قائمة على أساسه، وإذا أردنا التطوّر، فيمكن أن يُدعم اللون بالطائفة أو المذهب؛ فلا مقارعة للحجة بالحجة والفكرة بالفكرة وإنما صراخ وضجيج وأكثر مجال له هو افتعال خلافات وحروب إعلامية وإذكاء التوترات المتنقلة. منذ عام 2002 ظهر ما يسمى اصطلاحاً «استراتيجية الحروب الوقائية» في الخطاب السياسي والإيديولوجي والعسكري الغربي؛ تهدف هذه الاستراتيجية إلى محاربة عدوّين مفترضين للولايات المتحدة الأميركية و«للعالم الحر» وهما: الإرهاب والدول التي تمتلك أسلحة الدمار الشامل مع بعض الاستثناءات، وتهدف أيضاً، حسب زعمهم، إلى منع الحركات المتطرفة والأصولية من امتلاك التكنولوجيا، العسكرية بخاصة. إذن نحن أمام واقع مختلف وافتراضي، «فضفاض» ونسبي، وبما أنه لا يوجد تعريف أو توصيف لنوعَي الأعداء السالفَين الذكر، يصبح عندئذ كل إنسان بذاته مشروعاً إرهابياً، أو يمتلك أسلحة أو يسعى إلى تكنولوجيا، وهنا يوجد تعارض جوهري بين حق الإنسان كإنسان في حياة كريمة وحرة وبين «خوفه» الدائم من شبهة «الاتهام» أو شبحها.
في الحصيلة، سنكون أمام نوع من الفوضى، سواء في التوصيف أو الافتراض أو الممارسة، ما يستدعي حُكماً نتائج لا تقلّ كارثية عن مسبّباتها. هنا لا قيم ولا أسس ولا معايير، ومعها تصبح السلطة، أي سلطة تملك شرطَي التحكّم، المال والقوة، قادرة على فرض نمط حكمها بكل الوسائل، وانتهاك ما ينص عليه القانون الدولي من دون أي رادع، ما دام هذا القانون ومؤسساته لا هدف لهما إلّا تشريع تلك الحالة وحمايتها. فالمتعارف عليه في إرث الحداثة الغربية بأنَّ الديمقراطية تعبّر بشكل صريح عن طبيعة النظام السياسي، إذ إنَّ السلطة الموجودة تستمدّ وجودها وشرعيتها من الشعب، الذي له حق مراقبتها من خلال الآليات الدستورية والقانونية. ولكن هذا المفهوم، وأمام نمط العالم – المعولم السائد، تطور وأصبح عكس الصورة السائدة، ليصبح الشعب بذاته تحت مراقبة النظم السياسية، خاضعاً لإرادتها ومستلباً منها.
نحن أمام أزمة نظام عالمي ومأزق حقيقي للسياسة والمفاهيم والقيم؛ فالهجوم الرأسمالي – المعولم يزداد شراسة في مقارباته للأمور، وفي تعاطيه مع القضايا، بخاصة منها ما يتعلق بالحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان، ويعمل على حتمية انتصاره، وهو بذلك يحاول إثبات وجوده من خلال المعادلة التالية: إذا انتصر، فالشعوب الفقيرة هي من سيدفع الثمن، وإذا تعثّر فالشعوب ذاتها هي من سيدفع الثمن أيضاً، وفي كلتا الحالتين هو لن يخسر شيئاً وإنما الآخر، ولأجل ذلك لا يتردد في استنباط أساليب ووسائل جديدة للحكم، وليس أقلها وأكثرها إثارة للدهشة، ما سماه «برنامج الفوضى البنّاءة»، الواضحة الأهداف والمضمون الإجرامي. إنَّ تعدد أسباب الحروب حول العالم وتنوعها، من تأديبية إلى وقائية إلى «مقدسة»، وغير ذلك من تسميات أدرجها الخطاب السياسي – العسكري لعالم ما بعد الحرب الباردة، جعل من نتائج تلك الحروب تترجّح بين «الفوضى البنّاءة» و«الفوضى المبرمجة» و«الفوضى المطلوبة»: نزاعات، حروب أهلية، دينية وتوترات، حصار تجويع... والحل كان دوماً باستجلاب العامل الخارجي وسيادة الخطاب المذهبي الاثني وتعميم منطق الفوضى الدائمة القائم على نظام ليبرالي – متوحّش، يستغل القرارات والمؤسسات الدولية ويستخدمها لتسهيل إمرار السياسات والسلوكيات المتبعة، وتعميم ثقافة واستراتيجية الخوف والعنف والفوضى، متكئاً بذلك على أدواته المنتشرة بين الاقتصاد والمال والنُّظم السياسية المركّبة لتنفيذ مهامّ محددة خدمة لتلك السياسات وتسهيلاً لتنفيذها.
وها هو لبنان، الخاضع اليوم لمفاعيل الفوضى وآلياتها والمحكوم بذهنية الولاء المطلق لصاحب الأمر، والقائم على نمط من تبعية ذيلية، أنتجت من الفساد والمحسوبية والزبائنية فائضاً لا يمكن تحمّله، ويعيش حالات من النفاق السياسي، وتدهور لغة التخاطب حتى هذا الدرك من السفاهة، مع استخدام التوظيف المذهبي والمناطقي واستغلال حالات الانهيار الحاصلة، وإذا أضفنا انفلات الوضع الاقتصادي وتدهوره، فإن البلد يخضع حالياً لمنطق الفوضى المستشرية في كل مفاصل الحياة اليومية لمواطنيه. هو منطق التفلّت من كل منطق وتعميم حالات الانهيار المبرمج والمقصود والذي بات نهجاً سياسياً، تُجنّد له قوى المذاهب والطوائف، ويعمل على خدمته صبيانها ومحتكروها والسفارات ودولها، كما تُبذل لأجله الأموال وتُحشد التصاريح وتنفتح أريحية المفسدين على خطابات فارغة وسلوك أرعن، بات يهدد الكيان بالفعل، وأصبح خطراً داهماً، وربما محقّقاً على وجود البلد، المهدّد اليوم بفعل فاعل معروف الهوية والإقامة.
أمام هذا المشهد، السوريالي، فليس ثمة خيار أمام عامة اللبنانيين، الواقعين في مأزق الانتماء، إلّا خوض المواجهة، من خلال رفض المنظومة السياسية، بنظامها وقواها وأدواتها وسلوكها؛ فهي الباب المخلوع الذي تدخل منه رياح الفوضى العاتية إلى غرف المنزل كي تعبث بها وتبعثر محتوياتها، والدعوة إلى تشكيل اللجان الشعبية في كل المناطق، بهدف التعبئة والمساهمة في الإمساك بالوضع على الأرض، وتوجيه الغضب نحو أصل العلة، والذي هو النظام وقواه جميعاً، مع ضرورة العمل على إجهاض أي محاولات لاستجرار الفتن أو الاختلاف الأهلي أو استجلاب التوترات، مع العمل على قطع الطريق على التوظيف السياسي لأي قضية. وأيضاً بتشجيع المبادرات الأهلية في المناطق وتعميم نماذجها والمساعدة على إطلاقها وإنجاحها.
هي جمهورية الفوضى المُعلنة والمحمية من أرباب الاحتكارات ومافيات السلطة وصناديد التهريب وناهبي المال العام والخاص. هي تلك الفوضى القادمة من فضاء عام، مساحته الكرة الأرضية وأصحابه من يعتقدون بديمومة سيطرتهم الأحادية. هي الفوضى المبرمجة على ركيزتين: الانهيار والإنكار وما بينهما من شعوب تستجدي لقمة العيش وحبة الدواء وهي واقفة في طوابير الذل تنتظر الفرج. هذا ليس حلم ليلة حارة أو يقظة في ليل حالك، هذا نهج سلطة وتسلط وهيمنة وتوجيه ونظام حكم وأسلوب سيطرة، هو الاستثمار في الجوع والألم والفقر والعبث في المجتمع وكسر الإرادات... وتسألون عن الفوضى إن حكمت؟ هي من تحكم وستبقى تحكم إن لم نلتفت إلى أصل العلة الحقيقية، ونقول الأشياء بأسمائها، والتي هي واضحة ومعروفة بالاسم والصفة والإقامة وكذلك بالدور...

* عضو المكتب السياسي، مسؤول العلاقات السياسية في الحزب الشيوعي اللبناني