يشهد التاريخ المتداوَل للبشرية بأنّ العنف هو أحد أهم السلوكيات التي تلجأ إليها السلطات أو الجماعات أو المكوّنات الاجتماعية حين تشعر بانسداد أفقها السياسي أو مسارها اليومي. لقد أصبح ذلك التقليد المتوارَث جاهزاً عندما تدعو الحاجة إليه، أو حين تستنفره القوى المأزومة. لبنان بتاريخه القديم والحديث لم يشذّ عن ذلك المسار؛ فالمكتوب من ذلك التاريخ يدلّ على أن البحث عن السند والعضد كان من يوميات أمراء الجبل وزعماء ملله. وذلك الإرث تتابع واستدام مع استجلاب كل العالم لكي يكون الفيصل أو الحامي أو المحتل... سيان ما كانت وظيفته؛ المهم هو تأمين المراد من وجوده، بغضّ النظر عن الثمن المدفوع أو النتائج المترتّبة. وها هو التاريخ المنظور لمنظومة سياسية متحكّمة، لم تتردّد يوماً في استجلاب من تريد كي يعبث في ملاعب التناقضات السياسية والاستثمار بها.فالنظام السياسي يعيش اليوم مأزق التكوين، وهو المأزق المتأتي من الطبيعة التكوينية له، والمعمول به منذ مئة عام، والوظيفة المطلوبة منه والمرتكزة إلى الأدوار المرسومة لمكوناته. المعاندة المكشوفة اليوم لأربابه وحالة الإنكار السائدة تجعل التنبؤ بمألات الأحداث صعبة، فدوماً يفاجئونك بتصرفات غير متوقّعة. بلد أودت به مجموعة مصالح، اشتركت في تكوينها خلطة عجائبية بين متناقضين وخارج، جمعتهم جنّة السلطة ومرتكزاتها القائمة على الاستفادة والزبائنية، وعدّتها المستندة إلى الاستتباع للخارج. لقد أصبح البقاء في الحكم قضية حياة أو موت لتلك القوى. تستأثر بالمواقع بأسنانها ولا تفرّط بذرّة تنازل مهما كان ثمن معاندتها. لقد أوصلت البلد إلى القاع المظلم والدرك الأسفل في سلم احترام الحياة البشرية. مواطن يستجدي لقمة العيش وحبّة الدواء والصحة والأمن والمحروقات والعلم والكرامة... كما غده المجهول المصير. لقد أذلّوه حدّ الاستباحة لكلّ مقومات الحياة الطبيعية، ومع ذلك يضعونه اليوم على مقصلة الفرز المقيت، المذهبي والمناطقي والاجتماعي، يشربون نخب إذلاله في طوابير الذلّ وعلى أبواب الأفران وأمام المستشفيات، غير آبهين بكرامة إنسانية فتكوا بها منذ أن أغرقوا البلد بالمديونية والارتهان والاستزلام.
ألم يبقَ أمامهم إلّا القتل والفتن المتنقلة والتوتير كي يدافعوا بها عن حصنهم المتهاوي؟ ألم يبقَ أمام منظومتهم أفقٌ يسند حالتهم المتهالكة وخطابهم الممجوج والمتوارث. صفرُ الوجوه كالحون، يغطون الشاشات، أدوار تُلعب، وخارج يدفع الأموال، ووسائل إعلام تصرف موظفيها أو تقطر عليهم بالمستحقّ عليها من رواتب، بينما تصرف ملايين الدولارات على تبيض وجوه أزلام المنظومة وصبيانها، وهم ينظّرون للخارج ويدعون دببه إلى كرومهم، مع العلم بأنه موجود فيها ومقيم بيننا منذ حين، وها هم سفراؤه وقناصله يجوبون الطرقات والمدن والأرياف، ويحضرون الأفراح والأتراح والمناسبات الاجتماعية والولائم، لا حاجز يصدّهم ولا بروتوكول أو أصول ترعاهم. نعم، لقد وصلت الأمور إلى حدّ التعرية التامّة لهذه المنظومة، البائنة عورتها دوماً، والتي لا تخجل من ذلك.
هل فعلاً، لم يبقَ أمامكم إلّا القتل والتوتير كي تستمرّوا وتجدّدوا لأنفسكم في جنة المال الحرام المكدس في بنوككم وفي الجيوب؛ هو مال حرام مسروق من جيب الشعب اللبناني ومدخراته. ما أنتم فاعلون؟ هل الحرب هي من سيخرجكم من أزمتكم؟ هو التاريخ اللبناني يشهد بذلك وفي محطّات كثيرة، حين كان سفك الدماء، من غير سبب، مخرجاً لأزمة نظامكم المتهالك كما عادته. لقد تهافتت كل سياساتكم وسلوكياتكم والتي أضحت اليوم موضع اتّهام لمثولكم أمام العدالة. هل استثارة الاقتتال الأهلي هو أرنبكم السحري الاحتياطي كي تبعدوا عنكم كأس المحاسبة الآتي حتماً ومن الشعب اللبناني؟ ربما ستنجحون في إلجام اندفاعة هنا أو هناك، أو في إلهاء موضعيّ إلى حين، لكن ما تفعلونه لن يُجيّر إلّا في جردة الحساب المفتوحة معكم ومع من يحرّضكم من خارج مأزوم في كل الجبهات، يفتّش عن منافذ للخروج ولو تحت جنح حجج واهية وفي ظلام دامس.
إلى المنظومة نقول: لقد كُشفت عوراتكم على الملأ، فلا يمكنكم تغطية ما فعلتم. تدمير البلد وإغراقه مجدداً في التوتير الأمني لن يصبّ في مصلحتكم بل سيرتدّ مزيداً من التمسك بضرورة رحيلكم، ولن تكون دماء الشعب اللبناني مجدداً المخرج لأزمتكم. اليوم الاستثمار في غير رحيلكم لن يكون مجدياً. الحل هو بكسر حلقة المكابرة والإنكار التي تعيشون في داخلها. الحل ليس معكم بل من دونكم.
إلى من يتحدثون بالحرص الدائم على وحدة الوطن نقول: خيار لبنان لن يكون إلّا خيار المواجهة، وبكافة الوسائل، إذا اقتضى الأمر، وهذا ليس مستجداً بل انطلق مع مرحلة التأسيس، أي من حوالى مئة عام ولمّا يزل على انطلاقته وزخمها. نعم، لقد ابتُليت منطقتنا بآفة الصهيونية المرتكزة إلى إرث دموي ومدعومة من أعتى إمبريالية في التاريخ. المقاومة بالسلاح كانت الردّ الوحيد والذي أغلق كل بوابات المساومة أو الاستسلام، وهذا مكتوب بالدم على مسافة تلك المئوية ومساحتها. النظم السياسية المزروعة في منطقتنا لم تأتِ إلّا لإدامة ذلك الاحتلال الوافد، والقبول به. لن تكون المقاومة إلّا من خلال فكر ثوري، يرفض الواقع بتبعيّته وتخلّفه، ويعمل على بناء بديل وطني يستطيع تثبيت الانتصار والاستفادة منه في فرض معادلات تحصّنه من جانب، وتُعطي الأفق الحقيقي لبناء الدول الوطنية الديمقراطية القائمة على تلازم معركتَي التحرير والتغيير من جانب آخر. الباب المخلوع، والذي من خلاله تعصف بلبنان رياح التدخلات، هو النظام السياسي القائم، بمنظومته ووظيفته. حماية المقاومة هي حصراً، مشروع وطني رافض للواقع السائد ومنحاز إلى مصالح الشعب اللبناني وخاصة فقراءه وذوي الدخل المحدود، ورفض الهيمنة والاستتباع لأيّ كان... هنا العلة وهي واضحة، وأيّ معالجة من خارجها ليست إلّا استدامة لمنطق الارتهان والانحياز إلى أصحاب رأس المال... فالوجهة واضحة وبائنة فلماذا عدم الإقدام؟
* عضو المكتب السياسي مسؤول العلاقات السياسية
في الحزب الشيوعي اللبناني