لا يزال الحديثُ هنا عن كتابَين جديدَين صدرا في الغرب عن إدوار سعيد: كتاب لتلميذ سعيد، تموثي برينان، «أماكن في الفكر: حياة إدوار سعيد»، وقبله صدر في فرنسا كتاب دومينيك إده، «إدوار سعيد: فكره كرواية». والكتاب الأوّل أحدث ضجّة كبيرة في الأوساط الأكاديميّة وحتى الصحافيّة في الغرب. والمُراجعات للكتاب تتوالى وهي وصلت إلى اللغة العربيّة، فقد نشرَ موقع «حكمة»، مقالة لمصطفى شلش عن الكتاب وعن إدوار سعيد، وفيها يستنجد الكاتب بالصهاينة مثل مارتن كريمر وحتى موقع «كامبس ووتش» المتطرّف (الذي يرصد التعبيرات المعادية للصهيونيّة وإسرائيل في الأكاديميا الأميركيّة) لذمّ سعيد. ولا يكتمل ذمّ سعيد من دون إحياء صادق جلال العظم. واليمين لم يكن يكترث للعظم إلّا بعد أن هجا سعيد وأصبح مرغوباً في دوائر اليمين والرجعيّة، شرقاً وغرباً. ولو كان سعيد لهالَه هذا الإحياء للعظم، أو حتى الاستعانة به كأنه أخلص أصدقاء سعيد مع أن سعيد في سنواته الأخيره لم يحتقر العظم أقلّ من احتقاره الشديد لفؤاد عجمي، وكان يرى مشروعَي الرجلَين متماثلَين. وتزامناً مع رحلة السادات المشؤومة للقدس المحتلّة، بدأ إدوار سعيد بلعب دور الوسيط بين إدارة كارتر وقيادة منظمّة التحرير، تحت سيطرة ياسر عرفات. والصلة كانت تتمركز حول شخص هودنغ كارتر الذي تزامل مع سعيد في جامعة برنستون، وأصبح الناطق الرسمي باسم وزارة الخارجيّة الأميركيّة في عهد كارتر. والدور الذي لعبه سعيد يبدو مُستغرباً بالمنظار التاريخي لأن موقف سعيد من التفاوض مع الإدارات الأميركيّة ومن أثمان التنازلات التي يمكن لقيادة منظمّة التحرير أن تقدّمها تغيّر كثيراً عبر السنوات. قلَّ إيمان سعيد بإمكانيّة حصول حلّ عن طريق أي إدارة أميركيّة وهو عليم لأن مفاوضاته مع إدارة كارتر جرت على مستوى عالٍ: عرّفه هودنغ كارتر على وزير الخارجيّة، سايرس فانس، وعلى نائب وزير الخارجيّة، فيليب حبيب. وشارك في هذه الاجتماعات عدد من زملاء سعيد في «الجمعيّة الأميركيّة لخرّيجي الجامعات» (لايزال الاسم يصيبني بالامتعاض لنخبويّته). وطلبت الإدارة الأميركيّة من سعيد الحصول على اعتراف بإسرائيل من قِبل منظمة التحرير. وفي المقابل، عرضت إدارة كارتر الترويج لـ«حل الدولتيْن»، على أن تصبح أراضي 1967 من ضمن حدود الدولة الفلسطينيّة. وأنا، في قراءة سرديّة برينان لتلك المفاوضات بين سعيد وإدارة كارتر، أشكّ جديّاً في أن إدارة كارتر كانت مستعدّة لدعم دولة فلسطينية في عام 1977 أو حتى 1978، لأن ذلك يتناقض ليس فقط مع كل مواقف تلك الإدارة (التي قال فيها مستشار الأمن القومي، زبغنيو برجنسكي، «وداعاً لمنظمة التحرير» في مقابلة مع مجلّة «باري ماتش» الفرنسيّة ـــ والمفارقة أن برجنسكي كان الأقلّ مناصرةً لإسرائيل داخل الإدارة واتُّهم من قِبل الصهاينة بمعاداة السامية بسبب أصله البولندي، وكان برجنسكي من الذين وقّعوا على وثيقة معهد «بروكنغز» في عام 1975 والتي طالبت بـ«حق تقرير المصير») بل مع كل مواقف الإدارات التي توالت بعدها. وكان سبقَ اجتماعات سعيد مع أقطاب الإدارة ترويج أنور السادات لسعيد في نوفمبر 1977 طرحه كرئيس وفد فلسطين في مفاوضات جنيف المقترحة، أو كرئيس حكومة فلسطينيّة في المنفى. ولم تكن طروحات السادات بريئة، طبعاً بل هي أتت من أجل أن تقطع الطريق على تمثيل رسميّ لمنظمة التحرير. أي أن السادات كان يقدّم خدمة، من خدماته الكثيرة، للبوس الإسرائيلي في أميركا. ولم يستجِب عرفات لطلب سعيد بقبول عرض كارتر. ألحَّ سعيد، عبر شفيق الحوت، على عرفات لقبول العرض لكن عرفات رفضه. وفي المراجعة التاريخيّة، كان عرفات على حق في الرفض. لكن عرفات عاد وطلب مساعدة سعيد للتوسّط مع جورج شولتز في عام 1982 لقبول أقلّ مما عرضه كارتر عليه. وما قبله عرفات في أوسلو كان أقلّ مما عُرض على منظمة التحرير في تاريخ العروض والمفاوضات السريّة. ولكن هل كان سعيد يُشكِّك عبر السنوات في جدوى تلك العروض الأميركيّة بعد أن تبيّن حجم الدعم الأميركيّ للطموحات الفلسطينيّة؟ أنا أقول إن الجواب بالإيجاب، لأنني إن أنسى لن أنسى يوم توقيع اتفاقيّة أوسلو عندما هاتفني سعيد وتحدّثنا طويلاً عن ضرر الاتفاقيّة وضرر الاعتماد على «الوسيط» الأميركي.
ويعود برينان للحديث عن آراء كتبها سعيد عن اللغة العربيّة في مدوّنات غير منشورة أو رسائل. ويبدو فيها أن سعيد بالغ في تأثير القرآن وقدسيّة نصّه على التعبير العربي. إذ يقول إن على العرب إما النطق «كالغربيّين أو كالله». لكن لم تحدّ قدسيّة القرآن من قدرة العرب على التعبير، ما فيه التعبير الإباحي، باللغة العربيّة، أو التعبيرات الزنديقيّة والإلحاديّة والكفريّة. وعلاقة سعيد باللغة العربيّة لم تكن عميقة ولم يكن قارئاً للأدب العربي في تاريخه كي يُصدر أحكاماً قاطعة عن اللغة العربيّة وآدابها. عرف سعيد اللغة العربيّة من خلال قصص لروائيّين محدثين (جداً). وهؤلاء هم الذين أوعز سعيد لدور النشر الغربيّة بترجمة أعمالهم لأنه قرأهم. لم يوعز سعيد لدور النشر الغربيّة بترجمة ونشر أعمال عمالقة الأدب العربي، من أمثال توفيق الحكيم أو طه حسين أو عباس العقّاد أو ميخائيل نعيمة أو خليل حاوي أو زكي نجيب محمود لأنه على الأرجح لم يقرأهم. وهذا التعميم عن أن اللغة العربيّة لا تملك «وجوداً وسائطيّاً لبنى شفهية رسميّة مرتبطة مباشرة ـــ ومسكونة ـــ بالعالم المتغيّر»، يحمل ذات النفس الاستشراقي التقليدي، وهو يبدو قريباً جداً من تعبيرات ليس فقط لبعض المستشرقين التقليديّين (مثل رفائيل باتاي) بل أيضاً لأدونيس. لا ينفك أدونيس الذي تتلمذ على يد الاستشراق اليسوعي في الجامعة اليسوعية حيث نال الدكتوراه في الأدب العربي، يطلع علينا بنظريّات (غير عمليّة وغير دقيقة) عن الفكر العربي والتفكير العربي وعن العقل العربي. لا يجرؤ بعض مستشرقي الغرب اليوم على النطق بما لا يزال ينطق به أدونيس عن الإسلام وعن الثقافة العربيّة والفكر العربي. هذا ما يحدث عندما يخال للشاعر أن شعره يصلح أيضاً لعلم الاجتماع الحديث.
لا يمكن وصف الزلزال الذي أحدثه، ولا يزال، كتاب «الاستشراق» (1978) الذي جاء ليؤكد الشكوك القديمة في الدارسات الغربيّة عن العرب والمسلمين


ويلفت في سيرة سعيد أنه عندما قضى الفصل الدراسي لعام 1975 ــ 1976 في «مركز الدراسات المتقدّمة للعلوم السلوكيّة» في جامعة ستانفورد أنه تزامل هناك مع الجنرال الإسرائيلي السابق، يهوشوفاط هاركابي (وكان مسؤولاً سابقاً عن الاستخبارات العسكريّة). ويصفه برينان بأنه «المستعرب المشهور»، ويضيف أنه «مثقف بعمق وعاشق للشعر العربي» ويقول إنه «مثقّف بديع». ويروي برينان أن سعيد وهاركابي لم يتشاجرا كما كان متوقّعاً (في المراكز البحثيّة الأميركيّة تحرص الإدارات المعنيّة فيها على تعريف العرب بالإسرائيليّين، وأذكر في منتصف الثمانينيّات عندما قضى رشيد الخالدي سنة في مركز «ويلسون» أن الإدارة وضعت الخالدي في نفس المكتب مع المستشرق والإداري الاحتلالي الإسرائيلي، مناحيم ملسون). وأستغرب أن برينان يروي أن سعيد وهاركابي حافظا على علاقة متأدبة وإن متوتّرة في تلك السنة وتحادثا حول مواضيع ذات اهتمام مشترك. وهاركابي، كما يصفه نوم تشومسكي، من أصحاب ممارسة إرسال الطرود البريديّة المُفخّخة في قطاع غزة في الخمسينيّات، ولا نعلم عن جرائمه الكثيرة بحكم التستّر الإسرائيلي الأرشيفي على إرهاب الدولة.
وهاركابي شخص مؤثّر جداً على صورة العرب في الغرب (لن أتحدّث عن جمهور الإسرائيليّين العنصريّين). هو كتب في عام 1971 «مواقف العرب نحو إسرائيل». وهذا الكتاب كان من أفعل المساهمات الصهيونيّة في تشويه مواقف العرب نحو الصراع مع العدو. والمؤلّف، أي برينان، يرى في الكتاب جهداً خارقاً في تحليل كمّ هائل من الكتابات والخطب والبرامج الإذاعية العربيّة. سعيد علّق على كتاب هاركاربي، عن حق في «الاستشراق»، بأنه يصف العرب بأنهم «منحطّون ومعادون للسامية حتى العظم وعنيفون وغير أسوياء» («الاستشراق»، ص. 307). لكن هاركابي كان أكثر من ذلك: هذا كان منظمة «ميمري» قبل أن تولد في عام 1997، وهي المنظمة التي تُعنى بتجميع وترجمة كل ما يصدر عن العرب من خطاب كريه وخزعبلات وتخاريف، كأن العرب وحدهم دون غيرهم من الشعوب ينزعون لخطاب كراهية (والمنظمّة تأسست على يد استخباراتي إسرائيلي «متقاعد»). لكن هاركابي حاول في كتابه أن ينسب كل الأسباب المنطقيّة والوطنيّة للرفض العربي لإسرائيل إلى الكراهية والبغضاء. الكتاب كان معتمداً في سرديّة اللوبي الإسرائيلي لأنه يسلب من العرب حقّ رفض ـــ وليس مقاومة ـــ المشروع الإسرائيلي. ومثل منظمة «ميمري» النافذة، كان هاركابي ينتقي فقط تلك الأقوال الشنيعة ضد اليهود، من دون وضع مروحة واسعة من المواقف العربيّة ضد العدوّ. ومنهج هاركابي أسّس لمدرسة في ثقافة الاحتلال والاستعمار: أنه تستطيع أن تتجاهل حقوق السكان الأصليين وأن تحتلّ وتقتل إذا ما أبرزتَ أدلّة على أن أناساً بين السكّان الأصليّين نطقوا بكراهية ضد المحتل أوضد دين المحتلّ إلخ. كل هذا لا يزعج برينان.
وبرينان لا يبدو أنه يميّز بين الجبهة الشعبيّة والجبهة الديموقراطيّة. هو ساعة يقول إن «الهدف» نشرت دعوة قتل ضد سعيد، وساعة يقول إنه كان متعاطفاً معها بسبب صديقه سامي البنا. لكن كيف كان متعاطفاً مع الجبهة الشعبيّة وهو كان وسيطاً بين عرفات وإدارة كارتر للحصول على اعتراف فلسطيني بوجود إسرائيل مقابل اعتراف أميركي بالمنظمّة ووعد بدويلة فلسطينيّة؟ هذه لا تستقيم بالمرّة. هو كان في فترة متعاطفاً مع الجبهة الديموقراطيّة التي جذبت بطرحها المبكر لحلّ الدولتَين الكثير من المثقّفين العرب ذوي النزعات التسووية، خصوصاً في دول الغرب.
ويتطرّق برينان إلى العلاقة المتوترة بعض الشيء بين سعيد وبين أنور عبد الملك. عتب الأخير على سعيد لأنه لم يُشِر كفايةً في كتاب «الاستشراق» لمقالته الرائدة، «الاستشراق في أزمة» والتي نشرت في مجلة «ديوجين» في عام 1963 (لكن سعيد ذكر عبد الملك أكثر من مرّة في «الاستشراق» وذكر المقالة المذكورة). ولم تكن مقالة عبد الملك هي الأولى في نقد الاستشراق. يغيب عن الأذهان، بسبب شيوع وشهرة كتاب سعيد، أن هناك مجموعة من العرب (كتاب تقديميّون وإسلاميّون) بكّرت في نقد الاستشراق في مطلع القرن العشرين. (ليس فقط نجيب عقيقي في موسوعته عن «الاستشراق» بل أيضاً كتابات جرجي زيدان وعمر فاخوري ـــ الأخير في «آراء غربيّة في مسائل شرقيّة». لكن الجهد الأكبر والذي لا يزال مطموسا هو كتابات ومراجعات المؤرّخ الفلسطيني، عبد اللطيف طيباوي. ولم يُعَد نشر كتابات طيباوي بالرغم من جدتها وأهميّتها. وطيباوي، كان مبكراً حتى في تفنيد ونقد الترجمات السيّئة لكبار المستشرقين، مثل نقده لترجمة فرانز روزنتال (راجع نقد طيباوي في كتاب «ثيمات عربيّة وإسلاميّة»، ص. 370). لم يكن هناك نقد محلّي لترجمات المسشرقين في حينه. وشدة نقد طيباوي للاستشراق حرمه من مناصب أكاديميّة في أميركا، وبقي في لندن في مناصب موقتة.
والقول إن سعيد رفض كل المستشرقين يخون مضمون كتاب «الاستشراق». وشكا محمد أركون في محاضرة في جامعة جورجتاون في أوائل التسعينيّات من أن طلاب الدراسات العليا العرب في الجامعات الفرنسيّة كانوا يقسمون الببليوغرافيا في الأطروحات بين مؤلّفين عرب وغربيّين. لكن من الظلم نسب هذا المسلك إلى سعيد وكتبه. على العكس. إن سعيد لم يكن رؤوفاً في نقده للاستشراق من قبل عرب، مثل فؤاد عجمي ولاحقاً للعظم (من دون أن يذكر نقده للعظم في كتاباته). سعيد كان شديد الإعجاب بمستشرقين مثل مكسيم رودنسون وجاك برك وفيليب حتي.
وفي الوقت الذي كانت جامعات هارفرد وجون هوكبنز وكولومبيا تتنافس لجذبه إليها، كتب سعيد في شباط من 1974 إلى صديق عائلته، قسطنطين زريق، لبحث إمكانية حصوله على مركز ثابت في الجامعة الأميركيّة في بيروت بالرغم من التجربة السيّئة التي مرَّ بها في تلك السنة التي قضاها هناك، عندما رفضت إدارة الجامعة قبول عروض سعيد للتعاون والتعليم). وقال سعيد بوضوح لزريق في طلب العمل في الجامعة الأميركيّة: «إن كل المعرفة عن الشرق الأوسط التي في حوزتي هي الآن بتصرّف وبخدمة الإمبراطوريّة الأميركيّة، فلماذا لا أضعها في خدمتكم؟». هذه المعضلة شغلت الكثير من الأكاديميّين العرب، مثل حنا بطاطو الذي أصبح في آخر سنواته مغتاظاً من وجود تلامذة أميركيّين في صفوفه. كان يقول لي باستياء: كيف أضمن أن هؤلاء ليسوا، أو لن يكونوا، في خدمة الـ«موساد» أو إدارة الحرب الأميركيّة مثلاً؟ ولم يتقاعد بطاطو عن التعليم طوعاً بقدر ما أنه وصل إلى مرحلة لم يعُد يستطيع أن يتحمّل فيها ديموغرافياً الطلاب في الجامعة (جورجتاون). ويبدو أن سعيد، مثل شرابي في نفس الفترة، رأى أن العودة باتت مرغوبة لأسباب سياسيّة وحتى شخصية عائليّة (كان معظم أصدقاء شرابي ـــ إن لم يكن كلّهم ـــ خلافاً لسعيد، من العرب). ويتحدث برينان عن تأثير زريق على سعيد، وكان زريق ـــ قبل العظم ــــ من الذين بالغوا في التفسير الثقافوي للهزيمة أمام إسرائيل، كأن العرب لو كانوا مدرّبين ومنظمّين ومسلّحين ــــ وهذا الأهم ـــ جيداً لم يكونوا سينتصرون على العصابات الصهيونيّة لأن الشعر لا يزال ملتزماً بالعروض، أو لأن التعبير العربي قاصر بسبب قدسيّة النص القرآني أو لأن تدريس العلوم في المدارس متخلّف عن مدارس الغرب.

محمد أركون

ثم نصل إلى إطلاق كتاب «الاستشراق» في عام 1978. لا يمكن وصف الوقع، أو الزلزال، الذي أحدثه هذا الكتاب، ولا يزال في الأكاديميا الغربية والثقافة العربيّة. لم يأتِ الكتاب في العالم العربي إلا ليؤكد الشكوك القديمة من العرب نحو الدارسات الغربيّة عن العرب والمسلمين، وإن كانت الطليعة العربيّة المثقفة التي تلقتنت العلم في مدارس وجامعات الإرساليّات أقل نقداً للاستشراق من غيرها. ولهذا، فإن ذوي النزعات الإسلاميّة كانو أكثر نقداً ـــ وأبكر نقداً ــــ للاستشراق من الليبراليّين واليساريّين. أمثال عمر فروخ ومصطفى الخالدي خصوصاً في كتاب «التبشير والاستعمار في البلاد العربيّة» كانوا طليعيّين. والكتاب لم يأخذ حقّق لأنه النخبة الثقافيّة في لبنان نبذت أي نقد أو تعريض بالمنحى الطائفي الصارخ للنخب الحاكمة في لبنان. وعمر فروخ هو ضحيّة للنظام الثقافي الاستشراقي في لبنان. عمر فروخ درس في جامعات الغرب (الجامعة الأميركيّة ثم جامعة برلين وارلنجن في ألمانيا). عاد فروخ بشهادة دكتوراه، على ندرة تلك الشهادة في ذلك الزمن، ولم يجد لا الجامعة الأميركيّة ولا الجامعة اليسوعيّة تسمح بتوظيفه مدرّساً، فاضطرّ إلى العمل مدرساً في ثانوية المقاصد في بيروت. لم ترُق لا طائفة الأكاديمي فروخ ولا منحاه السياسي للجامعتيْن. لم يعمل فروخ في التدريس الجامعي إلا بعد تأسيس الجامعة العربيّة في بيروت والجامعة اللبنانيّة (وحتى في سنواتها الأولى، لم يسمح له فؤاد أفراد البستاني بالتدريس فيها، والبستاني رئيسها مع أنه حمل شهادات أقل من فروخ). لم يقرأ سعيد كتاب فروخ والخالدي ولم يعلم به على الأرجح لأن سعيد لم يكن مطلعاً على النتاجات الأكاديميّة بالعربيّة. وكتاب «الاستشراق» وصل بأصداء كبيرة إلى العالم العربي مع أن النقد العنيف كان أوّل ردّ على الكتاب، من قِبل صادق جلال العظم ومهدي عامل. أزعج الرجلان الإساءة إلى كارل ماركس وسمعته أكثر مما أزعجهما إرث من الاستعمار والعنصريّة الذي وثّقه سعيد في كتابات غربيّة متنوّعة. وللساعة، عند بعض اليسار العربي، فإن الإساءة إلى اسم ماركس هو أفظع من تاريخ من جرائم الاستعمار الغربي. لا، بل إن العظم ثار بالنيابة عن الرجل الأبيض ـــ ماركس أو غيره ـــ لأنه ينطق باسم إنسانية مفترضة يلومون سعيد على تجاهلها. أي أن سعيد في نقد الاستشراق أكثر جذريّة بكثير من اليسار الذي انتقده ــــ أو حتماً أكثر من اليسار العربي الذي انتقده، لأنه كانت هناك دراسات نقديّة للكتاب من وجهات نظر يساريّة أخرى، مثل كتاب إعجاز أحمد أو كتاب وائل حلّاق.
الكتاب كان أشبه بثورة. وحتى ماكسيم رودونسون الذي كتب نقداً مُلطفاً للكتاب في كتابه «الافتتان بالإسلام» (والذي كان سبّاقاً في نقد الاستشراق في دراسته «الصورة الغربيّة والدراسات الغربيّة عن الإسلام» في كتاب «إرث الإسلام» الذي حرّره المستشرق جوزيف شخت) قال إن الكتاب كان ذا فائدة لأنه هزَّ الغرور والصلف الاستشراقي الغربي. لعلّه كان يقصد فيمن يقصد برنارد لويس، الذي كان من ضحايا الكتاب الضروريّين، والذي لم يستطِع حتى آخر يوم من حياته أن ينقذ نفسه مما لحق من سمعته ومرتبه العلميّة من ضرر بسبب نقد الكتاب. أصبح برنارد لويس التجسيد للاستشراق المعاصر، رغم أن الضرر الأكاديمي الذي لحق بسمعة لويس لم يؤثّر على نفوذه في الإعلام وفي الحكم الأميركي، لا بل هو زادها. أي أن نفور سعيد وجمهور نقد الاستشراق للويس زاد من رواج كتابات لويس لأن أتباع الفكري العنصري الغربي وجدوا في لويس ضالتهم، خصوصاً وأن عداءه العنصري ضد العرب والمسلمين أصبح أكثر رواجاً في العقود الماضية، وخصوصاً بعد 11 أيلول، حيث أصبح لويس من دعاة الحروب الأميركيّة المستمرّة (لم يكن اللبناني الصهوني، فؤاد عجمي، ألا تابعاً للويس).
ملاحظة. شاركتُ قبل أيّام في ندوة عقدها مركز كمبردج للدراسات الفلسطينيّة عن كتاب برينان حيث تسنّى لي أن أطرح ملخّصاً عن نقدي للكتاب بحضور المؤلّف، الذي لم يوافق على نقدي له وخالف تفسيري للكتاب. وهو اعترض بشدّة على توصيفي المُمتعض لتنميقه لصورة مجرم الحرب الإسرائيلي، يهوشوفاط هاركابي، لكنني أدرجتُ هنا وصف برينان كما هو من دون روتوش.

* كاتب عربي - حسابه على تويتر asadabukhalil@