يا أصحاب الغبطة، أنتم من يجتمع اليوم في صرح بطرس للبحث في «أمور الشرق»، لست ملمّاً في الشؤون الإكليركية واللاهوتية ولن أكون. غير أن الأمر يختلف عندما تهبط علينا الشؤون الدنيوية. ساعتها يصبح من واجب المواطن، أي مواطن، مقاربة الأمور بمسؤولية مختلفة، أقلّه من ناحية الالتزام المبدئي والأخلاقي.لنذهب مباشرة إلى جوهر الموضوع. يواجه مشرقنا اليوم مخاطر جسيمة في محطّة جديدة من مسار المظالم التي ابتُلي بها منذ القرن التاسع عشر في ذروة صعود المطامع الاستعمارية بتعقيداتها والآلام التي تسبّبت بها لشعوب بكاملها، أذكر منها بصورة خاصة، في مشرقنا العربي، ما لخّصه البعض في أدبياته الاستعمارية تحت تسمية «المسألة الشرقية»، وذلك على سبيل المثال لا الاختزال.
أول هذه المظالم عملية التجزئة الاستعمارية التي بدأت في القرن التاسع عشر وتمخّضت بعد حربين «عالميتين» عن شرذمة النسيج المجتمعي المشرقي الذي استهدف أولاً بأوّل جميع عناصر ومكوّنات الربط والتواصل، المادية والفكرية ومن بينها المشرقيون المسيحيون، لما كان لهم من دور بنيوي في بناء العمارة العربية المشرقية.
أما المحطة الظالمة الثانية فهي قضية فلسطين، التي آن الأوان أن يعترف العالم بأنها أوسع عملية تزوير تاريخية حصلت في القرن العشرين، والتي لا تزال فصولها الدموية البشعة تتوالى.
أما آن الأوان لنا أيضاً أن نعترف بأننا لو واجهنا المخططات التدميرية منذ البداية، أي بدايات تنفيذ مشاريع التفتيت والإلغاء بالاحتلال، وعلى أرض فلسطين بالذات، لما كنا مضطرين اليوم لمواجهة تحديات وجودية على امتداد المشرق.
في هذه اللحظة التي تلتئمون بها «للصلاة وأمور أخرى» تزداد الأوضاع المشرقية خطورة، أريد أن أذكر منها أمرين:
خطر التفتيت المطّرد من خلال التقوقع على النفس والانعزال الواهم والمميت في بؤر مقفلة متناحرة تنخرها الأنانيات تحت تسميات متعدِّدة.
وخطر استكمال عملية التزوير التاريخية التي بدأت في فلسطين والتي يُراد استكمالها اليوم تحت اسم «اتفاقيات ابراهام» في سياق استكمال مسار الخرافات والغشّ والاحتيال الذي أسس للرواية الإيديولوجية التي انبنى عليها الكيان الصهيوني، والتي يراد لها التمدد الجغرافي استكمالاً للتزوير.
يا أصحاب الغبطة، أمام هذا الواقع، وهذه المخاطر لا بدّ لنا ولكم من العودة إلى روح أنطاكية، هذه الروح التي تحملون لقبها: «بطاركة أنطاكية وسائر الشرق» ؛ روح الجمع والتكامل والتعاضد والتضامن بين مكوّنات هذا المشرق الغني بتنوّعه وتفاعله ووحدته التاريخية.
فليخرج من صلواتكم نفس أنطاكية التاريخي، بصفته الإجابة التاريخية على لحظة وجودية تاريخية، نفس يستجيب للإنسان والمستقبل.
ما ورثته شعوب المشرق العربي من مظالم ليس قدراً.
هناك من انطلق باتجاه ورشة تاريخية تعيد وصل ما انقطع، محترماً إرث التاريخ ورافضاً مظالمه في آن.
عودوا إلى نفس وروح أنطاكية.
كونوا الحاضنة الروحية لهذه الورشة التي ستعيد تملُّك ذاتنا وتحرّرنا من الألم والاستلاب بسواعد شعوبنا ودولنا ومجتمعاتنا.

*أستاذ جامعي