تُعيدُ معركة الدفاع عن حي الشيخ جرّاح طرح موضوع القيادة الفلسطينية إلى واجهة القضايا الواجب معالجتها من قِبَل المعنيين السياسيّين والمفكّرين. فعلى الرغم من الأزمة التي تعاني منها الحركة الوطنية الفلسطينية، أظهرت هذه المعركة جملة من المقوّمات الإيجابية، وأهمّها: ـــ المخزون النضالي الهائل، والمتجدِّد، لدى الشعب الفلسطيني في جميع أماكن تواجده، وبالذات في الأرض المحتلة منذ عام 1948.
ـــ النقلة النوعيّة في إدارة الصراع العسكري، تجهيزاً وتخطيطاً وتنفيذاً.
ـــ التفاعل الشعبي الكبير، عربيّاً وإقليميّاً وعالميّاً، مع القضية الفلسطينية.
رافاييل إنريكيز (كوبا 1984) ١٩.٥ x ٢٩،٥ سنتم (OSPAAAL - منظمة التضامن مع شعوب إفريقيا وآسيا وأميركا اللاتينية)

هذا الأمرُ يدعو للتفاؤل، ويدفعنا في غمرة الاحتفال بالإنجاز الكبير، إلى عدم نسيان أن الاستفادة العملية من هذه المقوّمات تتطلّبُ قيادة فلسطينية فعّالة، تُحسن استثمار الطاقات النضالية الشعبية الفلسطينية على أفضلِ وجه، وقادرة على تحويل المهارة العسكرية إلى إنجازات سياسية تصبّ في الهدف الاستراتيجي، وتجعل من هذا المدّ التضامني العالمي تيّاراً متنامياً، يراكم إنجازاً تلو آخر، ليصبح مؤثّراً في سياسة الحكومات تجاه القضية الفلسطينية. فالإنجازات والانتصارات الجزئية في التاريخ النضالي للشعب الفلسطيني لا تُحصى ولا تُعد، لكنّ معظمها كان يضيع سدى بسبب الافتقار للقيادة المناسبة. يكفي أن نذكر انتفاضة الحجارة مثلاً، وكيف استُثمِرَت للوصول إلى إعلان أوسلو، السيّئ الذكر، والاتفاقيّات التي بُنِيَت عليه.
للقيادة دورٌ أساسي في حياة الشعوب، وغالباً ما يكون حاسماً في تقرير مصيرها. لذلك، فإن تقويم أية تجربة، لمجموعة ما من الناس، لا بد أن يُولي اهتماماً خاصاً لدور القيادة. ما يُؤْسَف له، أننا، نفتقر إلى التقويم العلميّ لتجاربنا، وبالذات للقيادة. كما أن الدراسات، المتعلّقة بهذا الشأن، نادرة جدّاً، إضافة إلى الخلط بين المصطلحات ذات الصلة. فعند ذِكْرِ مصطلح القيادة، في أدبيّاتنا، غالباً ما نقصد به القادة الذين يتخذون القرار نيابة عن الشعب أو الحركة الوطنية؛ ومن الأمثلة على ذلك، تعبير «القيادة المتنفّذة في منظمة التحرير» الرائج في الخطاب السياسي الفلسطيني. إنّ هذا غير دقيق، ويحرف أنظارنا عن المعنى الحقيقي للمصطلح (المفهوم)، فنخلط بين القيادة والأفراد الذين يمارسونها، ويُوجّه اهتمامنا نحو القائد الشخص على حساب ما يتبناه من نموذجٍ ونهجٍ وممارسة، ما يعطي العلاقة معه، والموقف منه، طابعاً شخصيّاً. هناك فرقٌ كبير بين المفهومين، ويجب عدم الخلط بينهما، وهذا ما سنحاول توضيحه.

تعريف القيادة
قبل الدخول إلى التعريف لنتذكر الفرق بين قيادة السيارة وقائدها، فهذا يساعدنا على التمييز بين المفهومين. «القيادة هي عملية يقوم فيها فردٌ بالتأثير في مجموعة أفرادٍ لتحقيق هدفٍ مشترك» (Peter G Northouse Leadership in theory and practice ). تمّ اختيار هذا التعريف، من بين التعريفات العديدة المتداولة، لأنه بسيطٌ، وواضحٌ، ووافٍ، ويذهب مباشرة الى صُلب الموضوع. إذن، القيادة هي عملية (process)، وليست شخصاً، ولا مجرّد صفات له أو ممارسات معيّنة يقوم بها. وهي تهدفُ إلى القيام بما يؤهّل المجموعة، لتحقيق الأهداف المشتركة التي من أجلها تشكّلت. لذلك، يُمكن القول، إن تقويم عمل «القائد» يجب أن ينطلقَ، بالأساس، من مدى مساهمته في تحقيق أهداف المجموعة التي يقودها. ومن جانبٍ آخر، يجب الأخذ في الاعتبار، أنّ القيادة عملية مركّبة تتضمّن النموذج المُتّبَع، والتخطيط، والأسلوب، والممارسة، واتخاذ القرار... إذن، وعند التقويم، لا بد من ملاحظة الفرق بين القيادة كعملية مركّبة والقائد (أو القادة) على الرغم من العلاقة العضوية بينهما. قد يكون الخلل في أحدهما أو في كِليْهما، وإدراك ذلك يساعدُ على اكتشاف مكانه ومعالجته.

القائد الجيّد أو الفعّال
مسألة أخرى، لا بد من أن تُؤخذ في الاعتبار؛ وهي أن القيادة إمّا أن تكون ناجحة أو فاشلة، والنجاح والفشل على درجات: مقبولة وجيّدة وممتازة، وتبعاً لذلك، تُقَيَّم العملية، ويُقَيَّم كلُّ من يتبوّأ مركزاً قياديّاً. ولأن كلّ عمل بشري يُنجَزُ بمستويات متفاوتة من الجودة، سوف أقترح مسودةً لتعريف القائد الفعّال (بدرجة جيّد وما فوق) ليكون مقياساً للمقارنة، وحافزاً لإنجازٍ أفضل على الدوام.
القائد الجيّد أو الفعّال هو الذي يقوم بالدور الأبرز في عملية القيادة (التخطيط والتوجيه واتخاذ القرارات واستثمار الطاقات والكفاءات وتطويرها،..إلخ)، لتمكين مجموعته من الوصول إلى الهدف المشترك بأفضل الطرق، وأقصرها، وأقلّها كلفة. فالقادة الجيّدون لا يكتفون بتحقيق الهدف كيفما كان، وإنّما يبذلون كلَّ ما في وسعهم للتميُّز في ذلك. للتوضيح، نأخذ المثل التالي: قائدان عسكريّان خاضا معركتين مماثلتين، والاثنان انتصرا في فترة زمنية متقاربة، لكن خسائر كلٍّ منهما (الضحايا والأسلحة والدمار،...إلخ) كانت متفاوتة. عند التقويم يكون القائد الذي تكبّد خسائر أقل هو الأفضل. قيادة السيارة مثل آخر؛ فالفرق واضحٌ بين قائدٍ يصل إلى الهدف في زمنٍ أقل، وبدون أن يتعرّض لحوادث سير أو مخاطر كبيرة، وآخر، على الرغم من وصوله إلى الهدف، استغرق وقتاً أكثرَ، هذا عدا الحوادث والمخاطر التي تعرّض لها.
يجري التقويم على مستويين، أو مقياسين: الأول، النجاح والفشل، والثاني، درجة النجاح. وهذه العملية شبيهة بتقويم الطالب في المدرسة، فإمّا أن يكون ناجحاً أو فاشلاً، وليس كل الناجحين متساوين، فهناك المقبول والجيّد والممتاز.

صعوبات تقويم القيادة الفلسطينية
بناءً على ما تقدّم، يجري تقويم القيادة على أساس تحقيق الهدف المحدّد سلفاً. فإذا تم ذلك، تكون ناجحة، وإذا لم يتم، تكون فاشلة، وبعد ذلك يمكن تقويم درجة النجاح. أمّا أهم صعوبات تقويم قيادة الحركة الوطنية الفلسطينية، وقادتها، فهي:
ـــ عدم وضوح الأهداف، وخاصة منذ البرنامج المرحلي (1974) وما بعده. فما من هدفٍ إلّا وكان حمّالَ أوجه، ويحتمل التأويل. والأسوأ من كلِّ هذا أن المُعلنَ كان غير المُضمَرِ كما تبيّن لاحقاً.
ـــ الافتقار للأطر والهيئات الفاعلة، والمقرِّرة، التي تضع الأهداف والخطط الواضحة، وغياب هيئات المتابعة والرقابة، والتقويم الدوري الموثَّق، وكذلك التصويب.
ـــ بعد رحيل عرفات، وتعاظم قوة حماس، صارت القيادة برأسين لجسد واحد. إذن، نحن أمام قبطانين متصارعين يقودان السفينة الفلسطينية، وبسبب التكافؤ النسبي لا يمكن، اليوم، الحديث عن «قيادة فلسطينية» واحدة. لذلك، لا بد من تقويم نموذجَي القيادة لدى كلٍّ من السلطة-فتح و حماس.

حي الشيخ جرّاح وسيف القدس
من المبكِّر إجراء تقويم شاملٍ لمعركة الشيخ جرّاح وعملية سيف القدس لعدم ظهور النتائج النهائية. لكن، هناك مؤشّرات إيجابية بالنسبة إلى الشيخ جرّاح، وأهمّها اضطرار سلطات الاحتلال لتأجيل تنفيذ قرار المحكمة الإسرائيلية. المعركة لم تنْتَهِ بعد، ويبدو أنها طويلة، وسيكون النجاح عندما يتم إلغاء قرار المحكمة رسميّاً. أمّا بالنسبة إلى عملية سيف القدس، فالتقويم معقّدٌ، ودونه صعوبات لا يُستهان بها، وأهمّها:
ـــ عدم ظهور نتائج نهائية بالنسبة إلى هدفَي العملية المُعلَنَيْن، وهما: وقف تهجير سكان حي الشيخ جرّاح، ووقف الاعتداءات على المسجد الأقصى، وعلى حرية ممارسة الشعائر الدينية فيه.
ـــ بينما كان خطاب المقاومة في غزة، أثناء المعركة، يتمحور حول قضية القدس، نشهدُ، بعد وقف إطلاق النار، تركيزاً على قضايا مثل: هدنة طويلة الأمد، تبادل الأسرى، حصار غزة والمعابر، ترتيب البيت الفلسطيني،..إلخ، وكل ذلك ربطاً بعملية سيف القدس.
ـــ ليس واضحاً بعد، إذا كانت المبادرة لسيف القدس قد اتُّخِذَت من قبل المكتب السياسي لحماس أم الجناح العسكري في غزة، إذ أن آلية اتخاذ القرار تدخل في صلب عملية التقويم.
في الخلاصة، لا بد من تقويم موضوعي وعلمي للقيادة الفلسطينية، كعملية متكاملة، ولدور القادة فيها، لأن هذا يؤسّس لبروز قيادة من نمطٍ جديد، وقادرة على إنجاز الأهداف الوطنية للشعب الفلسطيني.
* باحث وكاتب فلسطيني