الواقعيّة السياسية تفرض علينا قراءة مشروعية أيّ من المشاريع السياسية من خلال اكتسابه شرعيته عبر مروره بالمؤسسات الدستورية والأطر القانونية. فلو أردنا قراءة مشروعية فكرة «الحياد»، يجب أن نجد عدداً من النواب الحاليين في البرلمان النيابي اللبناني يتقدم من هيئة المجلس باقتراح مشروع قانون يسعى لاعتماد الحياد كواقع سياسيّ قانونيّ ودستوريّ في البلاد. وعلى هذا المشروع أن يتضمّن في مقدمته وفي بنوده الخلفيات التي دعت إليه، والأبعاد التي يرمي إليها، ويشرح كل التفاصيل المتعلقة به، ويحدّد ماهيته وكيفيته، ويرسم التصور السياسي المبتغى منه، ويوضح الأهداف التي يسعى لتحقيقها، والأهم من كلّ هذا أن يبيّن مصلحة النظام والدولة والشعب المتوخاة من إقرار هذا القانون. عندها يمكنه أن يبدأ مسيرة اكتساب شرعيته من خلال دراسته من قِبل اللجان المختصة في المجلس النيابي، ومن ثم عرضه على المجلس للتصويت عليه لإقراره أو رفضه. هذا هو المسلك الدستوري لأيّة فكرة سياسية أو قانونية تسعى لأن تصبح واقعاً سياسياً. [اشترك في قناة ‫«الأخبار» على يوتيوب]
بينما ما نقرأه ونسمعه منذ أشهر عن فكرة الحياد لهو طرح ضمن خطاب طائفي يقدّمه ممثلٌ لطائفة من الطوائف اللبنانية الثماني عشرة. فصاحب هذه الفكرة هو بطريرك الطائفة المارونية في لبنان. وقد قدّم طرحه هذا من على منبر الكنيسة، وقدّم خطابه من على منبر مقر البطريركية المارونية المسيحية. ولو دققنا قليلاً في بعض مصطلحات هذا الخطاب لوجدنا مجموعة من الأوهام تتخلّله لتشكّل وهماً في عموميته.
أولاً: يقول البطريرك في خطابه إنه يتحدث باسم اللبنانين جميعاً. وهذا أوهم الأوهام. لأنك أيها البطريرك لا تملك أية صفة رسمية لا في النظام السياسي ولا في هيكلية الدولة، تخوّلك رسمياً أن تتحدث باسم اللبنانيين جميعاً. فما أنت إلا ممثل لطائفة لبنانية تتساوى في المكانة مع ممثل الطائفة العلوية كما باقي ممثلي الطوائف في لبنان. ومن وما الذي أجاز لك أن تختزل المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى في خطابك لتدّعي أنك تتحدث باسم اللبنانيين جميعاً. فها أنا فرد من ما يقارب المليون ونصف مليون مواطن لبناني من الطائفة الشيعية يرفضون أن تتحدّث أنت باسمهم. فلا يمثلنا طائفياً إلا رئيس المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى ولا نقبل أن يمثلنا أحد سواه. ولو سألت جميع اللبنانيين لوجدت الأكثرية الساحقة من المسلمين يرفضون أن تتحدّث أنت باسمهم وهم يشكلون خمساً وستين في المئة من اللبنانيين. خاصة أننا قد شاهدنا في مقرك البطريركي حين ألقيت خطابك بضعة آلاف هم أنصارك جلهم من رعيتك المسيحية. فكيف لك بهذا الوهم أن تقول بأنك تتحدث باسم جميع اللبنانيين.
ثانياً: يقول البطريرك إنه يطالب بالحياد من موقعه الوطني الجامع. هذا المصطلح بذاته «الوطنيً ينطوي على إشكالية قاسية جداً. فلكل طائفة في لبنان مفهومها الخاص عن الوطن، ولكل فئة سياسية تصورها الخاص عن الوطن، كما للبطريرك صبغته الخاصة عن الوطن. فكيف يتوهم بأنه يطالب من موقع وطني. والحقيقة أنه يتجسد الموقع الطائفي بكل أبعاد المجتمع المسيحي المذهبي. لذلك لم يستطِع أن يجد عشرة نواب ليقدّموا اقتراح مشروع القانون للمجلس النيابي، ولم نشهد فئة سياسية من المسلمين تتوافق معه على طرحه. فأين هو هذا الموقع الوطني الواهم.
يقول البطرك إنه يريد حياد لبنان عن كل الصراعات الدولية ويريد تخلّي اللبنانيين عن انتماءاتهم إلى دول أخرى


ثالثاً: يقول البطريرك إنه يريد حياد لبنان عن كل الصراعات الدولية ويريد تخلّي اللبنانيين عن انتماءاتهم إلى دول أخرى. ولكنك أيها البطريرك لم تقُل لنا ماهية هذا الحياد وعلى من ينطبق من اللبنانيين. لذلك يحقّ لنا طرح بعض التساؤلات مثلاً: هل سيقدم البطريرك الماروني اعتذاراً لجميع اللبنانيين عن ولائه التاريخي لدولة الفاتيكان ودول الغرب منذ الحروب الصليبية وحتى الآن. هل ستتوقف البطريركية المارونية عن مراسلة البابوية الرومانية للاستعانة بها كما فعلت في القرون الماضية، وكلّما مرت بأزمة سياسية أو أمنية تهدّدها كمجتمع مسيحي تسارع إلى مطالبة البابوية بحمايتها ومساعدتها. هل ستلغي البطريركية المارونية الاتفاقيات القائمة مع دولة الفاتيكان لمساعدة ورعاية المسيحيين في لبنان. هل سيعلن البطريرك أمام اللبنانيين عدم تبعيته للبابا في روما. أيها البطريرك اللبناني هل ستنزع صورة بابا روما من على الحائط خلفك وأنت جالس تصرح للإعلام من كنيستك. أم أنه يحقّ لك ما لا يحقّ لغيرك. أنت ترفض للآخرين أن يتبعوا إلى الولي الفقيه وتجيز لنفسك وللمسيحيين أن تتبعوا إلى بابا روما. أنت تريد أن تمنع عن الآخرين الانتماء إلى إيران والعراق وتطلب من المسيحيين الانتماء إلى روما وإلى أوروبا.
وهل ستطلب من الدولة اللبنانية إلغاء الاتفاقية مع الجمعية الفرنكوفونية للابتعاد عن الصراع القائم بين الفرنكوفونية والإنكلوفونية واعتبار لبنان عربياً فقط، لا فرنكوفونياً ولا إنكلوفونياً. وهل سترفض المساعدة التعليمية، الخمسين مليون يورو، التي قدمتها الأم الحنون أمّكم فرنسا للمدارس الكاثوليكية في لبنان. وهل ستمنع السفارة الفرنسية والجمعيات الثقافية الفرنسية من العمل الثقافي في لبنان وتعليم اللغة الفرنسية مجاناً، والتي كانت طوال القرن الماضي اللغة الأساس عند مسيحيي لبنان. وهل ستتمنى على المسيحيين اللبنانيين عدم اعتبار فرنسا الأم الحنون والتي لم نعرف حتى الآن من تزوجت فرنسا حتى أنجبت هذا الابن الذي اسمه لبنان، وهل هو ابن شرعي لها أم ابن... «غير شرعي». وهل ستمنع المطارنة من إرسال كتب إلى نساء فرنسا يستنجدون بهنّ لحماية الأمة المارونية كما فعل المطران عبد الله البستاني رئيس أساقفة صيدا في 20 كانون الأول عام 1846.
وهل ستنأى بنفسك عن مظلومية القضية الأرمنية ولا تأخذ موقفاً داعماً للشعب الأرميني في مطالبته لدولة تركيا، وخاصة أنه في لبنان فئة من اللبنانيين لا يقرّون بمظلومية وبقضية الأرمن مع الدولة التركية. وهل ستعتمد الحياد وتفرضه على مسيحيي لبنان من الطائفة الأرمنية في قضية أرمينيا. ولماذا لم تطلب من على منبرك الكنسي من مسيحييك الأرمن عدم الذهاب إلى أرمينيا للقتال ضد أذربيجان.
ولو أردنا مراجعة التاريخ للدلالة على المواقف المتطرفة التي اتّخذتها البطريركية المارونية والتي اعتادتها منذ تعاونها مع الاحتلال الفرنسي للبنان في بدايات القرن الماضي وانتمائها لفرنسا والغرب وحتى يومها هذا، لاضطررنا لفتح ملفات حروب وأزمات سياسية كارثية سبّبتها مواقف البطريركية المارونية في لبنان.
خطاب وهم يرتكز إلى معطيات وهمية لا يمكن أن يعتمد طرحاً سياسياً يقدمه البطريرك حلاً سياسياً للتخلّص من معضلة النظام وللخروج من الانهيار الاقتصادي ولبناء دولة قوية وعادلة يتساوى فيها جميع اللبنانيين. لذلك يحق لنا أن نسال «ولا نتّهم»، ما الخلفية التي شجعت البطريرك على هذا الخطاب؟ ما الأهداف التي يحاول البطريرك الماروني الوصول إليها؟ وهل هناك مشروع ما لدولة ما يعتمد عليها بطريرك الطائفة المارونية لتغيير المعادلات والتوازنات السياسية لمصلحة المسيحيين في لبنان؟
* كاتب لبناني