الفصل الراهن من حرب الإبادة ومن الإرهاب اللذين يتعرّض لهما الشعب الفلسطيني، ومن ثمّ، الكفاح المرير الذي يخوضه، لم يبدآ، فقط، منذ تأسيس الكيان الصهيوني (بالاغتصاب والقهر والمجازر والطرد...) على أرض فلسطين، قبل أكثر من سبعة عقود. الواقع أنّ معاناة وكفاح هذا الشعب قد بدآ قبل أكثر من مئة عام. على سبيل المثال، فإنّ المؤتمر الرابع الذي عقدته الحركة القومية العربية الفلسطينية في مدينة القدس، في 25 آب 1921، قد قرّر إرسال وفد إلى بريطانيا (الدولة المنتدبة) للبحث في تشكيل «حكومة وطنية» في فلسطين لمواجهة «وعد بلفور» وحملة الهجرة ونشاط العصابات التي كانت تنظمها الحركة الصهيونية. قبل ذلك بحوالى سنة كان قد وقع صدام دامٍ بين فلسطينيين ويهود صهاينة بمناسبة عيد الأول من أيار سقط فيه 95 قتيلاً من الطرفين. وزير المستعمرات آنذاك، ونستون تشرشل الذي استقبل الوفد، رفض تشكيل حكومة وطنية «لأنها تعرقل صك الانتداب وإقامة الوطن القومي اليهودي في فلسطين» (إميل توما: «ستون عاماً على الحركة القومية الفلسطينية»).قبل شرعنة الكيان الصهيوني عام 1947، لم تهدأ الصدامات بين الشعب الفلسطيني والصهاينة ومحتضني مشروعهم المنتدبين البريطانيين. شهدت العقود الثلاثة المنصرمة أشكالاً من الإضرابات والانتفاضات، كان أبرزها عام 1925 ضدّ زيارة الوزير البريطاني بلفور صاحب الوعد المشؤوم الشهير. تمرُّد العمّال الفلسطينيين حصل عام 1929. أمّا الإضراب الشهير عام 1936 فحصل في نطاق حركة نضالية واسعة ضد الخطر الصهيوني المتنامي في استقدام مئات آلاف المهاجرين وفي الاستيلاء على مزيد من الأراضي من خلال الشراء والضغوط والإغراءات، ودائماً، برعاية نشيطة من سلطة الانتداب.
في مجرى كفاحه المرير والمديد، كانت الانتفاضات المتلاحقة هي أحد أبرز الأساليب التي عبَّر من خلالها الشعب الفلسطيني ولا يزال عن استشعاره تنامي خطر الصهاينة وداعميهم على وجوده وحقوقه ومصيره. هذا ما حصل منذ حوالى أسبوعين عندما استأنفت السلطات الرسمية الإسرائيلية خطة طرد الفلسطينيين من بيوتهم وتأجيج وحماية عدوانية قطعان المستوطنين في استفزازاتهم الخطيرة ضد المسجد الأقصى. اندرج هذا التصعيد، أيضاً، في نطاق جهد ونهج بنيامين نتنياهو لتعزيز فرص عودته إلى رئاسة الحكومة من خلال استمالة القطاعات الأكثر تطرفاً بين الناخبين الإسرائيليين. هو بذلك حاول، أيضاً، تجاوز نكسته بعدم انتخاب حليفه دونالد ترامب لولاية جديدة، كذلك لدفع الإدارة الأميركية الجديدة لدعم مشروعه وسياساته، وبالتالي، عودته إلى رئاسة الحكومة ما يؤجل محاكمته بتهم الفساد حتى إشعار آخر!
مرةً جديدة، استشعر المقدسيون، على وجه الخصوص، الخطر فبادروا إلى مواجهة السلطة وقطعان المستوطنين في حي «الشيخ جراح» كما في باحات ومحيط المسجد الأقصى. هكذا اندلعت شرارة انتفاضة جديدة ما لبثت أن شملت، تقريباً، وبشكل مدهش، كل فلسطين وكل الفلسطينيين.
فاجأت الهبة الفلسطينية الشعبية (الأنضج حتى الآن)، والتي هي ثمرة احتقان ورفض متعاظميْن بالمخاطر والاستفزازات والانتهاكات والجرائم والتطبيع والخيانة... قادة العدو. فاجأتهم، خصوصاً، بجرأتها وشموليتها وتنوّع أساليب النضال فيها. فاجأتهم غزّة بالصواريخ البعيدة المدى والكثيفة والمحمية بإتقان وتنسيق بين الفصائل، ما أدى إلى شلل الحياة في معظم المرافق الحيوية للكيان الصهيوني. فاجأت الانتفاضة، أيضاً، الشريك العربي (الخليجي خصوصاً) في «صفقة القرن». حلفاء الصهاينة من العرب الذين هرولوا مسرعين لتطبيع علاقاتهم مع العدو ونسج حلف معه يتوخون من ورائه الحماية. خسرت تجارتهم مجدداً بعدما «طحّلوا» وفشل غزوهم لليمن بالحديد والنار. هؤلاء يبحثون الآن عن «تطبيع» من نوع آخر مع كل من إيران وسوريا، الدولتين الأساسيتين في محور «الممانعة»، سعياً لتفادي هزيمة صافية!
ليس الأمر على هذا النحو في الضفةِ الأخرى من الصراع. لقد تبيّن أنّ وراء صمود ومقاومة وتطور قدرات غزّة القتالية، مثلاً، دعماً لا يمكن إخفاؤه من قبل معارضي المشاريع الأميركية الصهيونية الرجعية. وهو جزء من علاقة متنامية بين القطاع المحاصر وهؤلاء أثمرت تعاوناً بالخبرات والمعدات والمساعدات المتنوعة التي تؤشر إلى وجود نهج وليس مجرد علاقات تكتيكية تمليها مصالح آنية متحوّلة ومؤقتة. في مجرى ذلك، تمَّ تجاوز الخلافات السابقة التي برزت في بداية «الربيع العربي» خصوصاً مع حركة «حماس» ليحل مكان ذلك نهج ثابت في العلاقة وفي التوجهات بشأن المعركة مع العدو الصهيوني على وجه الخصوص.
لا شك في أنّ إزاحة ترامب من البيت الأبيض قد ألقت بظلالها على مجمل المشهد في المنطقة عموماً وفي الساحة الفلسطينية خصوصاً. إدارة جو بايدن المنحازة مبدئياً للعدو الصهيوني، ككل الإدارات الأميركية، لم تبلور بعد سياساتها في المنطقة إلا ما تعلَّق بالتخلي عن مشروع «صفقة القرن» الذي تيتَّم بعد خسارة صاحبه موقعه الرئاسي في واشنطن. لكن في واقع الأمر، النفوذ الأميركي قبل ترامب وبعده، يتراجع بشكل مطّرد في المنطقة. الانسحابات هي أحد المؤشرات وليست الوحيدة أو حتى الأهم. ذلك يعني توفر مزيد من فرص التقدم لمصلحة شعوب المنطقة عموماً والشعب الفلسطيني، في الأساس. الانتفاضة الفلسطينية عزّزت هذه الحقيقة أكثر من السابق. هذا يُملي على الجانب الفلسطيني تجاوز الانقسام الذي تخطّته الانتفاضة بشموليتها وعفويتها وتصميمها، إلى وضع تتقدم فيه أسباب التعاون، وهي كثيرة، على مشاكل الخلاف وهي أقل أهمية. إن رأب الصدع بين القيادة السورية و«حماس» هو مثال على إمكانية التجاوز رغم أن خلافهما في شقٍّ منه عقائدي، وفي شق أكبر، سياسي على المستويين السوري الداخلي وعلى مستوى المنطقة. هذا ينطبق، أيضاً، على كل القوى المعادية للمشاريع الاستعمارية الصهيونية الممعنة تدميراً وتفتيتاً للمنطقة بهدف إخضاعها والهيمنة عليها. هذه القوى مطالَبة بالتشكّل في مشروع تحرري شامل وجامع ومتحرّر من الفئويات والعصبيات الطائفية والمذهبية.
إن برنامجاً كفاحياً، يجمع بين كل أساليب النضال ضمن أولويات وإطار، هو المطلوب. وهو، فقط ما يليق بانتفاضة وتضحيات وبطولات شعب فلسطين.
* كاتب وسياسي لبناني

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا