ليست هذه أول حرب عدوانية تشنها دولة الاحتلال الإسرائيلي على قطاع غزة، وربما لن تكون الأخيرة، لكنها مختلفة هذه المرة، وهذا ما سيحسب له الاحتلال الحساب في جولات قادمة، مع تمنياتنا بأن تحظى غزة بالهدوء، والشعب الفلسطيني كله بالحرية وتقرير المصير.لسنا واهمين ولا حالمين، لنعتقد أن هزيمة الاحتلال قريبة، ولكننا على اقتناع، كان وسيبقى، بأن هزيمته ممكنة وأكيدة، طال الزمن أو قصُر، إذا توافرت للنصر عناصر النجاح، وعلى رأسها إرادة القتال والمقاومة، وتكامل أشكال النضال، هنا وفي كل مكان يقيم فيه الفلسطينيون، وأحرار العرب والعالم.
استطاع الغزيون، بوسائلهم المتواضعة، أن يوجعوا الاحتلال، وأن يوقعوا به خسائر بشرية واقتصادية غير مسبوقة، بل وأدى، فيما أدى إليه، إلى "خلخلة" ما يسمى "المجتمع الإسرائيلي"، وأن يبادروا إلى ضربه، وهذا يحدث للمرة الأولى، بكل ما يعنيه من دلالات، وفشل دولة الاحتلال رغم غارات الطائرات وهدم البيوت على أصحابها وقتل الأطفال والمدنيين، من وقف قصف الصواريخ.
وفي ظني واعتقادي أن هذا المجتمع الذي تطرّف الى اليمين، في شكل جنوني، فأمعن في فلسطين والفلسطينيين قتلاً وخراباً ودماراً على مرأى من العالم، الذي لا يحرّك ساكناً، سيثوب إلى رشده، عاجلاً أو آجلاً، ويدرك الحقيقة التي كان يتجاهلها ويرفض الاعتراف بها، أن الفلسطينيين موجودون وسيبقوْن.
غزة لا تتلقى الضربات وتحصي الخسائر فحسب، كما في مرات سابقة، بل ترد وتوجع، وهو أمر يميّز جولة الصراع الحالي عن سابقاتها، وتبادر إلى ضرب دولة الاحتلال في مواقع توجعها.
من أول وأهم الاستنتاجات في هذه المرة، أن الاحتلال يمكن أن يُهزم، وهذا الإدراك العفوي بحد ذاته كان له فعل "السحر" في رفع معنويات الفلسطينيين أينما كانوا، وفي غزة نفسها، حيث تتساقط قذائف الحقد الاحتلالي على الرؤوس والمنازل، فتدمر المباني والبنى التحتية، وترفع عدد الضحايا، لكنها في الوقت ذاته ترفع منسوب المعنويات والإحساس بالفخر والعزة، وإمكان تحقيق النصر.
التحرك الفلسطيني المساند في كل أماكن وجود الشعب الفلسطيني، قدّم ويقدّم رسالة مهمة، أن الجسد الفلسطيني واحد، وأن كل محاولات التمزيق وطمس الهوية و"تنويم" المشاعر الوطنية/القومية لم تنجح، وأن ما كان يعتقده البعض "هدوءاً" أبدياً، ما هو إلا الهدوء الذي يسبق العاصفة.
وعندما يدرك العالم أن القضية الفلسطينية لا "تميتها" الضربات، ولا "تخدرها" المساعدات الهزيلة والوعود الزائفة، يمكنه أن يتحرك، مع أننا لا نعوّل كثيراً على مثل هذا التحرك، فالعالم لا يحترم الضعفاء ولا يقدم لهم الحلول على أطباق من ذهب، بل يحترم الأقوياء، ويرفع لهم القبعات، ويقدم لهم الاحترام، ولنا في التجربة الفيتنامية خير مثال، ما يؤدي بالضرورة الى تحقيق النصر.
من بديهيات النضال ضد الاحتلال، هو تكامل وسائل المقاومة، وعدم وضعها في تعارض، أو الركون إلى شكل واحد أوحد، وهذا ما حدث ويحدث في هذه الجولة من الصراع، حيث أدرك الناس بحسهم الفطري ضرورة التحرك بعيداً عن قيادات الأحزاب والقوى، التي عفى الزمن على قياداتها المتكلسة، فخرجت الجماهير، بما في ذلك قواعد تلك القوى، بأعداد لم تكن مسبوقة في تحركات سابقة، وفي أماكن ظنها الاحتلال، وحتى بعض القوى الفلسطينية، خارج معادلة الصراع، وأقصد بها الداخل الفلسطيني المحتل منذ عام 1948.
تظاهرات الآلاف في رام الله، وسخنين، والناصرة، والقدس، وأم الفحم، وعكا، وسائر مدن فلسطين، وفي الدول الأوروبية، وحتى في عاصمة الامبريالية الأميركية وفي عقر دارها، واشنطن، أعادت الثقة والأمل بأن الجسد الفلسطيني واحد، وأنه يتداعي بالسهر والحمّى والنضال، إن أصاب أحد أطرافه خلل أو تعرض للأذى، مع عدم إهمال أن تلك التظاهرات في أوروبا وأميركا شارك فيها غير الفلسطينيين أيضاً.
مع هذه الجولة من الصراع، أُصدِرَتْ شهادة وفاة رسمية لنهج "الاعتماد" على ما يقدمه الاحتلال من "تنازلات"، وما يمكن لراعيته (الولايات المتحدة) أن تقدم من وعود زائفة، أو وساطة "محايدة".
هزيمة الاحتلال ومن يدعمه ممكنة، لكنها ربما ليست قريبة، ومرة أخرى لنا في التجربة الفيتنامية، وتجارب شعوب أخرى، عبرة ودليلاً على ما نقول، فلم يحدث في التاريخ أبداً أن سكت شعب على محتليه، ورضي باستعباده، حتى وإن طال المدى.
سيتوقف إطلاق الصواريخ وهدير المدافع من كلا الطرفين، في جميع الأحوال، وستدق ساعة الحقيقة حينئذٍ، ويبدأ البحث عن حلول، مؤقتة أو بعيدة المدى، أو كلاهما، وهنا تبدأ معركة سياسية/ تفاوضية، أشد شراسة، تحتاج الى صبر "صائد السمك"، وحكمة الفلاسفة، وهذا ما يحتاج إليه الطرف الفلسطيني المفاوض، أيّاً كانت صفته أو اسمه، حتى لا تذهب التضحيات سدىً، وحتى يحافظ الشعب الفلسطيني في كل أماكن وجوده على دفعة المعنويات العالية التي أوجدتها جولة الصراع الحالية.
بعد هذا الاستعراض، يمكن إجمال النتائج والولوج الى استنتاجات، جُلّها بديهي، لكنه يحتاج الى التأكيد، و/أو أكدته جولة الصراع الحالية، ومن أهمها:
1- الاحتلال إلى زوال، مهما طال أمده، ولا نظن أننا نأتي بجديد في هذا المجال، بل هي بديهية، أكدتها جولة الصراع الحالية.
2- أن هزيمة الاحتلال ومن يدعمه ويسانده ممكنة، وأن الهزائم العسكرية والسياسية والمعنوية، التي أحاقت بالفلسطينيين والعرب عامة، ليست قدراً لا يمكن رده.
3- عندما تتوافر إرادة القتال، فإن أبسط الوسائل تفعل فعلها في مقاومة الاحتلال وهزيمته.
4- أن الحقوق لا تسترد من منطلق "المناشدة" وتقديم التنازلات، وإثبات حسن السلوك للعدو وحلفائه.
5- أن العالم لا يعير اهتماماً للضعفاء، ويحترم الأقوياء.
6- عندما تلمع بارقة أمل، فإن الشعب الفلسطيني لا يبخل بالتضحيات.
7- الجسد الفلسطيني واحد، من النهر الى البحر، وفي الشتات، ولم تنجح كل مشاريع "الأسرلة"، وطمس الهوية الوطنية/ القومية، للشعب الفلسطيني، ومشاريع التوطين.
8- لا يمكن التعويل على الأنظمة العربية القائمة، ومعظمها مُطبّعٌ مع دولة الاحتلال، سراً أو علناً.
9- ضرورة الانتقال من المراوحة والمراهنة على ما يسمى "الشرعية الدولية"، والانتقال في شكل حاسم وواضح الى محور المقاومة في الإقليم والعالم، ومقاومة الاحتلال بكل الوسائل المتاحة، بحسب الظروف الموضوعية والذاتية لكل ساحة ومكان.
10- لم يكن مقدّراً لغزة ومقاومتها إيلام العدو، ولا الصمود، من دون دعم ومساندة محور المقاومة في المنطقة، وهو تحديداً إيران وسوريا وحزب الله، وهذا ما يجب أن يؤخذ في الحسبان.
11- إذا كانت غزة بوسائلها وإمكانياتها المحدودة قد استطاعت أن تفعل ما فعلته في دولة الاحتلال، فكيف سيكون عليه الأمر في مواجهتها لمحور المقاومة كله، حينما "تدق" ساعة العمل.
12- دولة الاحتلال لا تستطيع الصمود والبقاء من دون الدعم الإمبريالي الغربي، وهي التي تمثل "مخلب القط" لذلك الغرب الاستعماري، وتحافظ على مصالحه.
13- ما بعد العدوان الاحتلالي على غزة ليس كما قبله؛ فعندما يكتب الفلسطيني التاريخ بدمه، لا بد أن تختلف الأمور، وهذا ما يذكرنا بمفاصل مهمة في تاريخ الصراع الفلسطيني - الاسرائيلي، والاسرائيلي - العربي، ولعل أبرزها حرب أكتوبر 1973، والانتفاضة الشعبية الكبرى 9/12/1987.
14- في معادلة الصراع مع الاحتلال، أي احتلال، لا بد من تقديم التضحيات ودفع الثمن، وإن غلا.
15- يجب أن يحافظ المناضلون على القاعدة الذهبية، بأن التناقض الرئيسي هو مع الاحتلال؛ فمهما كانت الخلافات في وجهات النظر، فالشعار الموحِّد هو "كلنا ضد الاحتلال، يداً واحدة"، خصوصاً وقت احتدام المعارك والمواجهات مع المحتل.
16- من المهم والضروري أن يتجسد الصمود الفلسطيني، و"الانتصار" المحدود في شروط وقف النار، لتحقيق مكاسب ملموسة، بحجم التضحيات المقدمة، وإلا فستذهب كل التضحيات من دون فائدة.
17- النصر السياسي له ثمن باهظ، ولنا في المثل السوفياتي في الحرب العالمية الثانية خير دليل، حيث بلغت خسائر الاتحاد السوفياتي نحو 20 مليون إنسان ما بين عسكري ومدني، وتدمير آلاف القرى والمدن، ثمناً لتحقيقه النصر على النازية ودحرها.
18- رغم قيود الأنظمة العربية وبطشها بشعوبها، لم تستطِع منع تظاهرات التضامن مع الشعب الفلسطيني، والمطالبة الجماهيرية بطرد سفراء دولة الاحتلال، ما يشير الى دورٍ محتمل للجماهير العربية في هزيمة دولة الاحتلال مستقبلاً، وكنس الأنظمة المرتبطة بها.
وبالإجمال يمكن القول إن فجراً جديداً سيشرق على فلسطين والمنطقة العربية بعد هذه الجولة من الصراع، وإن أنظمة ستتهاوى، ومفاهيم ستتجاوزها الأحداث، وعلى رأسها "الحياة مفاوضات"، واستبداله بأن الحياة "مقاومة" وصمود وكرامة، لتحقيق الآمال بالحرية.

*كاتب فلسطيني

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا