البيان ــ الوشاية يأتي على غرار تلفيقة «الصفر الاستعماري»، وقد أريد منها تهيئة الأرض السورية لملاقاة الاندفاعة العدوانية الأميركية التي حطمت العراق وكسرت إنسانه
ومع ذلك، حافظت المدينة على ودّها تجاه ضيوفها الذين والحقّ أنهم أغنوا نسيجها بمواهب وكفاءات. وفي الوقت نفسه فتح ذلك الواقع الأعينَ على الكثير من الحقائق التي تسبّبت سنوات التضليل الذي مارسته نخب لبنانية مغرقة في التخلف والعنصرية، فضلاً عن ممارسات الوجود العسكري السوري السابق في تغييبها. ومثّل التلاقي المفاجئ فرصة لكثير من اللبنانيين والسوريين لإعادة اكتشاف المشتركات المحجوبة، ومعرفة حجم الجريمة التي ارتكبها الفرنسي، ورعى تفاقمها، لاحقاً، عبر أدواته السياسية، التي عملت على تكريس التباعد وتعميقه بهدف الفصل التام بين أبناء اللغة والعادات والثقافة والمصلحة والمزاج الواحد. يومها تنبّه الكثيرون إلى مفارقة التلاصق الجغرافي ووهم المسافة النفسية، وعرفوا كم تأخروا في التواصل وفي معرفة بعضهم البعض. فالمشتركات التي تفرض اللقاء عميقة وممتدّة. المهم، أن هذا اللقاء المتأخر قد نجمت عنه الكثير من الإيجابيات المفقودة، فقامت صداقات كثيرة وانعقدت زيجات عديدة...
قبل أيام، وفي سياق ملتوٍ، مألوف ومعتاد، يراد منه استعادة ماء الوجه المسفوح، صدر بيان بعنوان الرسالة حمل توقيعات «مجموعة من الكتاب والمثقفين السوريين وغيرهم من المتضامنين معهم». البيان، وهو أقرب إلى الوشاية يحاول منح نفسه هوية يسارية، ليس بالبناء على الوقائع أو عرض الممارسات بل من خلال محاولة حجبها عن آخرين يناصبهم العداء. الغريب في البيان أنه يصمت عن حقيقة أن أطروحات أصحابه المتهافتة وممارستهم السياسية المشينة، هي صورة طبق الأصل عن الأطروحات والممارسات الأميركية والغربية، ناهيك بحقيقة اتصالهم الوريدي، أفراداً وجماعات، بمشيخات الخليج الصدئة.
البيان / الوشاية يأتي على غرار تلفيقة «الصفر الاستعماري» التي أريد منها تهيئة الأرض السورية لملاقاة الاندفاعة العدوانية الأميركية التي حطّمت العراق وكسرت إنسانه، فكانت النتيجة السورية الراهنة (ابنة التلفيقة الصفرية) احتلالاً أميركياً وبريطانياً وفرنسياً مباشراً لمساحات الغلال والنفط... وتجويعاً مجرماً للسوريين.
هو الذي ارتكب جريمته في لحظة هجوم غربي وصفر استعماري و... طار إلى واحدة من عواصم الرفاهية المسروقة. وهناك، حيث رغد العيش المموّل من دماء أبناء جلدته يتابع صاحبنا الصفري الخرف وصبيانه مهمّات التضليل النظري والتحريض على استمرار الحرب التي ربّما ما كانت لتأخذ هذه الأبعاد القيامية لولاه وأمثاله من المرتدين الطامحين، أو أقلّه الحد من تكاليفها الإنسانية والمادية والروحية الباهظة.
وعلى سبيل التأكيد وليس الرد، من المهم التذكير ببعض البديهيات: رفض العدوان غير الوقوف مع هذا النظام أو ذاك. ومعارضة الحرب والدعوة إلى مواجهتها وحتى المشاركة الميدانية فيها تنطلق من مسؤولية أخلاقية ووطنية وقومية ومن وعي مقرون بالتجربة أن الحرب المسلّطة على سوريا غايتها دوام الهيمنة المتراجعة والقبض على الثروات... ليس إلا.
يبقى أن نقول إنْ لا جديد في البيان / الوشاية. ولا يعدو أن يكون مجرد حلقة جديدة في مسلسل التهافت الذي اختصّت به هذا الحفنة التي عرفت حياة الفنادق فطابت لها وتخشى خسرانها. أما تكرار المعزوفة المشروخة إياها عن الثورة والثوار، فتكمن وظيفتها في دوام التمويل وتجديده بما يخفف من آثار السقوط الأخلاقي الذي بلغ قعراً فاق القعر العراقي الذي وقع فيه مثقّفوها. فمن المستحيل على من راهن على العدوان، ونادى بالحسم العسكري وأصرّ عليه وانتصر لـ «جبهة النصرة» ورفض الحوار يوم كان ذلك ممكناً وفرّ من المواجهة قبل طلوع الفجر أن يقول صدقاً. ثم إن المشكلة اليوم، وبعد هذا الخراب العميم لم تعد مشكلة النظام السوري ولا طبيعته ولا ممارساته السلطوية أو الاستبدادية. المشكلة اليوم، يا سادة هي في استمرار الحرب والاحتلالات المباشرة لأجزاء من سوريا، والسطو والحصار والتجويع المفروض على أهلها.
إن من خوّن عبد العزيز الخير، أنقى المناضلين السوريين وألمعهم، وهاجمه ولم يدن تغييبه، وتاجر باسمه، هو شخص لا يملك ذرّة من الأخلاق، ولا يملك حق الوشاية فكيف بحق... البيان!
البيان الرسالة تضليل بائس لم يعد ينطلي على أحد، ووسيلة صدئة لإثارة غبار التعتيم على عرض الخدمات وتجديد التطوّع في جهود الحرب الاستعمارية. وكل كلام (بيان أو رسالة) يغيّب المسؤوليات ولا يتضمّن اعترافاً بكارثية الرهانات ولا يلحظ مسؤوليته عن الدمار شبه الشامل الناجم عن حقيقة الهجوم الذي أراد تغيير وجه المنطقة وتجديد إلحاقها به، عبر ضرب مكمن قوتها السوري لا قيمة له. النقاش الحقيقي في مكان آخر يا... سادة!
كان الأجدر بهؤلاء «المثقفين والكتّاب»، وبدلاً من مواصلة لعبة التضليل وحجب الحقائق وتدبيج البيانات المستنسخة عن أصل تلفيقي، التوجه المباشر إلى عموم السوريين، وخصوصاً أولئك الذين فقدوا أحبّتهم، ودُمرت بيوتهم وقراهم، أو تناثروا في المنافي الداخلية والخارجية، بالاعتذار عمّا اقترفته عقولهم المجرمة وأيديهم الملوّثة بالمال النفطي الذي تولى تمويل أعمال القتل والاستباحة والتدمير، وطلب العفو عن دورهم غير القليل، والمكمّل، في حرق البلاد التي كانت وبرغم غياب الحريّات السياسية أو انعدامها تنعم بمقوّمات الدولة وتتمتع بنوع متقدم من الاكتفاء الذاتي ومتحررة من المديونية الخارجية المسؤولة عن خراب المجتمعات وتخلّف بناها...
القضية اليوم هي قضية وقف استمرار الحرب على سوريا وباقي دول المنطقة الرافضة أو المختلفة مع المشروع الغربي الذي تقوده الولايات المتحدة. إن هذه القضية توجب على كل ذي حسّ أو صاحب أخلاق رفض الحرب التي نشرت الخراب وعمّقت الأزمات وفتحت المنطقة على انهيارات اجتماعية وثقافية وتنموية... ومهّدت للصلف الخليجي في ارتكاب فعل التطبيع مع العدو.
وللإنصاف، فإن ما بدا كإخلاء مستغرب للميدان لم يكن كذلك. إذ سرعان ما تبين أنه كان ترجمة لعبقرية نضالية فذّة قضت بإفراغ البلد وتشريد الناس لتعرية «النظام المتهالك» قبل العودة المظفّرة ورفع الراية الجديدة، المستلهمة من «الفكرة الليبية»، وتقطع مع تلك القديمة.
المهم، أنه وبالتوازي مع استحكامات الحانات والمقاهي وعلب الليل الاستراتيجية التي تعزّزت عديداً وعتاداً التحفت مجاميع الفقراء السوريين العراء في قرى ومدن لبنان والأردن قبل أن يهرع مقاولو السياسة وسماسرة الحروب تنفيذاً لعجل دولي بحشرهم في مخيمات تحوّلت إلى منجم دولارات...