لم تعرف السماء السورية، وهي جزء عضوي ومحوري وصميمي من السماء العربية، طوال تاريخها الحديث، هنيهة صفاء واحدة. فترات «الصحو» النسبي التي نعمت بها كانت نادرة. فحالها الغالب كان المراوحة والتقلب بين المواجهات الخارجية والفتن الداخلية المدعومة من الخارج. ومع ذلك حافظت على صلابة مواقفها، ووضوح خيارات أبنائها الوطنية والقومية. مفصلية الجغرافيا الحاسمة وثقل التاريخ الممتد وغناه، كل ذلك جعلها، على الدوام، في مهب الأنواء والأعاصير التي لازمت سماءَنا مع جريمة استيلاد إسرائيل. فدمشق هذه، السابقة على البعث، وبما كانت تمثله، أو تختزنه من إمكانات وتطلعات كانت هدفاً ثابتاً في أجندة الحرب الغربية. فإسقاط هذه العاصمة المركزية أو استتباعها، هو السبيل الوحيد لديمومة مشروع إقامة إسرائيل، وتالياً لاستمرار العجز العربي وتأبيده. ولعل الدليل على أهمية دمشق أن إسقاط مصر، وهي الدولة العربية التي لا تقل مركزية عن سوريا، في فخّ كامب دايفيد وإخراجها الكامل من الصراع ذلك لم ينه القضية الفلسطينية ولا أخمد الصراع العربي ـ الإسرائيلي (الغربي). كذلك الحال مع اتفاق أوسلو الخياني، فهذا الاتفاق وبرغم كل ما تضمّنه وأوجده من وقائع ومعادلات، وبرغم «تمثيلية» صنّاعه لم ينجح، هو الآخر، في إسدال الستار على حقائق الصراع الصلبة وأُولاها فعّالية الموقع السوري ومفصليته في رسم الوقائع أو تكريسها. ولو كان الأمر خلاف ذلك، لسمح انهيار المشروع الناصري المجيد، بمضامينه التحررية والتنموية، وما تلاه، مصرياً وعربياً، من تجويف وتجريف للوعي والمقدرات والأخلاق وتعاظم الدور العربي الرجعي، بالتصفية الشاملة والكاملة لفلسطين ولقضيتها. ولقضى على كل أمل باستعادة المبادرة التي تولّتها فصائل المقاومة اللبنانية والفلسطينية بدعم سوري صريح ومكلف. ذلك أن الدوافع الوطنية الصحيحة والمنطلقات القومية العميقة الغالبة على سياسات دمشق تحول دون أي تفريط أو تساهل. ذلك أن السوريين مدركون لحقيقة أن مصيرهم ومستقبلهم مرهونان بهذا الدور وبهذه المساهمة التي لا مناص منها إذا ما أرادوا الإمساك بالحاضر ومعه المستقبل. الخيار السياسي الوطني والقومي المفروض بحكم الموقع والتاريخ والمصالح، معطوفاً على وعي المسؤوليات والواجبات فرض على دمشق أن تكون على خط النار التي لم تخبُ يوماً، بل إن اشتعالها تعاظم مع زرع الكيان الاستعماري الإحلالي. فالكيان الذي أقيم بالضد من تطلعات التحرر العربي جاء من ضمن سياقات عدة أبرزها الوعي الغربي القديم لخطر الفكرة العربية التي نهض بها جمال عبد الناصر، وعبّرت عنها، مطالع القرن الماضي، كوكبة من مثقفي العرب النهضويين. فكانت الوسيلة لترجمة السعي الهادف إلى قطع الطريق وتالياً إجهاض المشروع العربي الذي يتعذّر أن يقوم إلا من دمشق أو معها. فدمشق هي الحجر الأساس في أي بناء عربي يطمح، فعلاً لا قولاً، إلى الكسر مع الفوات المفروض والمحميّ بقوة النار الاستعمارية المسلّطة على ربوعنا. وهذا ما أدركه عبد الناصر، حين «استعجل» تلبية نداء الوحدة الدمشقي. وهي الوحدة التي زادت من استنفار الأعداء المعلنين والمستترين. وعليه بقيت دمشق، ومنذ لحظة اندحار الفرنسيين عنها منهمكة في صدّ الغزوات وجبه الاعتداءات.ما هي إلا أسابيع قليلة على أحداث درعا وتوتراتها وانتقال شرارتها إلى باقي المدن السورية، إلا وامتلأت بيروت (مقاه وحانات وشوارع) بالشباب السوري. كان الأمر غريباً بعض الشيء، فهؤلاء الذين وصلوا إلى بيروت عرّفوا أنفسهم بالطليعة المنتفضة على الاستبداد، وعليه كان السؤال: كيف للمنتفضين أن يتركوا انتفاضتهم. وكيف لأصحاب قضية بحجم القضية السورية أن يتخلوا عنها بهذه السهولة، وأن يستعجلوا المغادرة؟ لكن، وبما أن بيروت الرسمية، بيروت الجزر الطبقية المسوّرة بالمال والطائفية، والمبعدة، بقرار غربي وتواطؤ لبناني رسمي، عن هموم القضايا العربية، هي غير بيروت الفعلية، بيروت الناس، لم تتوقف عند تلك الأسئلة المشروعة التي أثارتها سلوكيات «أصحاب القضية» وأولها إخلاؤهم السريع لـ»الميدان» الذي كانت حاجته إليهم، في تلك الساعات الحرجة تتضاعف، فضلاً عن استبطان ممثليهم لسوء القراءة وخطل المراهنات. فبيروت يومها كانت مصرية وتونسية، وتعيش فرحة خلع حسني مبارك وفرار زين العابدين بن علي. لكنها وبرغم مظاهر الفرح التي عمّت بيوتها وزيّنت شوارعها كانت تتوجّس خيفة من أخبار الشام. فهي وبرغم موقفها السلبي من نظامها الحاكم إلا أنها بقيت قادرة، وحتى في أحلك الظروف، على التمييز بين سلبيتها منه وبين موقفها من الدولة. وما زاد من ريبتها كان نوع وبرنامج الاحتشاد العربي والدولي الذي انتظم من فوره في الحرب على سورية، وغيرها من الإشارات التي راحت تتراكم. فهوية المحتشدين فضحت أهدافه المستترة التي تتجاوز إسقاط النظام إلى إسقاط الدولة، ودلّ على الخلفية الحقيقية للاستهداف الكامنة في الموقف الوطني والقومي الرافض للإملاءات الغربية التي ما اهتمّت إلا بتعميم الهيمنة وبسط السيطرة وتغيير وقائع الاجتماع الرافض لها. موجة الشباب الأولى التي ملأت حانات المدينة ومقاهيها! لحقتها موجات أكبر منها، فصارت السيارات ذات اللوحات السورية تزاحم اللبنانية، إلى درجة خيّل معها للناظر أن الشام قد فرغت من ناسها. ومرة جديدة عاود السؤال المعلق طرح نفسه: كيف لصاحب قضية أن يبتعد عن قضيته؟ جواب «الثورة»: انتظار تكرار المثال الليبي والرهان عليه!
البيان ــ الوشاية يأتي على غرار تلفيقة «الصفر الاستعماري»، وقد أريد منها تهيئة الأرض السورية لملاقاة الاندفاعة العدوانية الأميركية التي حطمت العراق وكسرت إنسانه


ومع ذلك، حافظت المدينة على ودّها تجاه ضيوفها الذين والحقّ أنهم أغنوا نسيجها بمواهب وكفاءات. وفي الوقت نفسه فتح ذلك الواقع الأعينَ على الكثير من الحقائق التي تسبّبت سنوات التضليل الذي مارسته نخب لبنانية مغرقة في التخلف والعنصرية، فضلاً عن ممارسات الوجود العسكري السوري السابق في تغييبها. ومثّل التلاقي المفاجئ فرصة لكثير من اللبنانيين والسوريين لإعادة اكتشاف المشتركات المحجوبة، ومعرفة حجم الجريمة التي ارتكبها الفرنسي، ورعى تفاقمها، لاحقاً، عبر أدواته السياسية، التي عملت على تكريس التباعد وتعميقه بهدف الفصل التام بين أبناء اللغة والعادات والثقافة والمصلحة والمزاج الواحد. يومها تنبّه الكثيرون إلى مفارقة التلاصق الجغرافي ووهم المسافة النفسية، وعرفوا كم تأخروا في التواصل وفي معرفة بعضهم البعض. فالمشتركات التي تفرض اللقاء عميقة وممتدّة. المهم، أن هذا اللقاء المتأخر قد نجمت عنه الكثير من الإيجابيات المفقودة، فقامت صداقات كثيرة وانعقدت زيجات عديدة...
قبل أيام، وفي سياق ملتوٍ، مألوف ومعتاد، يراد منه استعادة ماء الوجه المسفوح، صدر بيان بعنوان الرسالة حمل توقيعات «مجموعة من الكتاب والمثقفين السوريين وغيرهم من المتضامنين معهم». البيان، وهو أقرب إلى الوشاية يحاول منح نفسه هوية يسارية، ليس بالبناء على الوقائع أو عرض الممارسات بل من خلال محاولة حجبها عن آخرين يناصبهم العداء. الغريب في البيان أنه يصمت عن حقيقة أن أطروحات أصحابه المتهافتة وممارستهم السياسية المشينة، هي صورة طبق الأصل عن الأطروحات والممارسات الأميركية والغربية، ناهيك بحقيقة اتصالهم الوريدي، أفراداً وجماعات، بمشيخات الخليج الصدئة.
البيان / الوشاية يأتي على غرار تلفيقة «الصفر الاستعماري» التي أريد منها تهيئة الأرض السورية لملاقاة الاندفاعة العدوانية الأميركية التي حطّمت العراق وكسرت إنسانه، فكانت النتيجة السورية الراهنة (ابنة التلفيقة الصفرية) احتلالاً أميركياً وبريطانياً وفرنسياً مباشراً لمساحات الغلال والنفط... وتجويعاً مجرماً للسوريين.
هو الذي ارتكب جريمته في لحظة هجوم غربي وصفر استعماري و... طار إلى واحدة من عواصم الرفاهية المسروقة. وهناك، حيث رغد العيش المموّل من دماء أبناء جلدته يتابع صاحبنا الصفري الخرف وصبيانه مهمّات التضليل النظري والتحريض على استمرار الحرب التي ربّما ما كانت لتأخذ هذه الأبعاد القيامية لولاه وأمثاله من المرتدين الطامحين، أو أقلّه الحد من تكاليفها الإنسانية والمادية والروحية الباهظة.
وعلى سبيل التأكيد وليس الرد، من المهم التذكير ببعض البديهيات: رفض العدوان غير الوقوف مع هذا النظام أو ذاك. ومعارضة الحرب والدعوة إلى مواجهتها وحتى المشاركة الميدانية فيها تنطلق من مسؤولية أخلاقية ووطنية وقومية ومن وعي مقرون بالتجربة أن الحرب المسلّطة على سوريا غايتها دوام الهيمنة المتراجعة والقبض على الثروات... ليس إلا.
يبقى أن نقول إنْ لا جديد في البيان / الوشاية. ولا يعدو أن يكون مجرد حلقة جديدة في مسلسل التهافت الذي اختصّت به هذا الحفنة التي عرفت حياة الفنادق فطابت لها وتخشى خسرانها. أما تكرار المعزوفة المشروخة إياها عن الثورة والثوار، فتكمن وظيفتها في دوام التمويل وتجديده بما يخفف من آثار السقوط الأخلاقي الذي بلغ قعراً فاق القعر العراقي الذي وقع فيه مثقّفوها. فمن المستحيل على من راهن على العدوان، ونادى بالحسم العسكري وأصرّ عليه وانتصر لـ «جبهة النصرة» ورفض الحوار يوم كان ذلك ممكناً وفرّ من المواجهة قبل طلوع الفجر أن يقول صدقاً. ثم إن المشكلة اليوم، وبعد هذا الخراب العميم لم تعد مشكلة النظام السوري ولا طبيعته ولا ممارساته السلطوية أو الاستبدادية. المشكلة اليوم، يا سادة هي في استمرار الحرب والاحتلالات المباشرة لأجزاء من سوريا، والسطو والحصار والتجويع المفروض على أهلها.
إن من خوّن عبد العزيز الخير، أنقى المناضلين السوريين وألمعهم، وهاجمه ولم يدن تغييبه، وتاجر باسمه، هو شخص لا يملك ذرّة من الأخلاق، ولا يملك حق الوشاية فكيف بحق... البيان!
البيان الرسالة تضليل بائس لم يعد ينطلي على أحد، ووسيلة صدئة لإثارة غبار التعتيم على عرض الخدمات وتجديد التطوّع في جهود الحرب الاستعمارية. وكل كلام (بيان أو رسالة) يغيّب المسؤوليات ولا يتضمّن اعترافاً بكارثية الرهانات ولا يلحظ مسؤوليته عن الدمار شبه الشامل الناجم عن حقيقة الهجوم الذي أراد تغيير وجه المنطقة وتجديد إلحاقها به، عبر ضرب مكمن قوتها السوري لا قيمة له. النقاش الحقيقي في مكان آخر يا... سادة!
كان الأجدر بهؤلاء «المثقفين والكتّاب»، وبدلاً من مواصلة لعبة التضليل وحجب الحقائق وتدبيج البيانات المستنسخة عن أصل تلفيقي، التوجه المباشر إلى عموم السوريين، وخصوصاً أولئك الذين فقدوا أحبّتهم، ودُمرت بيوتهم وقراهم، أو تناثروا في المنافي الداخلية والخارجية، بالاعتذار عمّا اقترفته عقولهم المجرمة وأيديهم الملوّثة بالمال النفطي الذي تولى تمويل أعمال القتل والاستباحة والتدمير، وطلب العفو عن دورهم غير القليل، والمكمّل، في حرق البلاد التي كانت وبرغم غياب الحريّات السياسية أو انعدامها تنعم بمقوّمات الدولة وتتمتع بنوع متقدم من الاكتفاء الذاتي ومتحررة من المديونية الخارجية المسؤولة عن خراب المجتمعات وتخلّف بناها...
القضية اليوم هي قضية وقف استمرار الحرب على سوريا وباقي دول المنطقة الرافضة أو المختلفة مع المشروع الغربي الذي تقوده الولايات المتحدة. إن هذه القضية توجب على كل ذي حسّ أو صاحب أخلاق رفض الحرب التي نشرت الخراب وعمّقت الأزمات وفتحت المنطقة على انهيارات اجتماعية وثقافية وتنموية... ومهّدت للصلف الخليجي في ارتكاب فعل التطبيع مع العدو.
وللإنصاف، فإن ما بدا كإخلاء مستغرب للميدان لم يكن كذلك. إذ سرعان ما تبين أنه كان ترجمة لعبقرية نضالية فذّة قضت بإفراغ البلد وتشريد الناس لتعرية «النظام المتهالك» قبل العودة المظفّرة ورفع الراية الجديدة، المستلهمة من «الفكرة الليبية»، وتقطع مع تلك القديمة.
المهم، أنه وبالتوازي مع استحكامات الحانات والمقاهي وعلب الليل الاستراتيجية التي تعزّزت عديداً وعتاداً التحفت مجاميع الفقراء السوريين العراء في قرى ومدن لبنان والأردن قبل أن يهرع مقاولو السياسة وسماسرة الحروب تنفيذاً لعجل دولي بحشرهم في مخيمات تحوّلت إلى منجم دولارات...