للمرة الثالثة، يتوجه سكان مناطق الـ 67 إلى صناديق الاقتراع لانتخاب ممثليهم في المجلس التشريعي الفلسطيني، تحت سقف اتفاقيات أوسلو السيئة الصيت والتي عملت على تصغير الشعب الفلسطيني إلى سكان الضفة المحتلة وقطاع غزة. يأتي ذلك لتثبيت واقع جديد تم تشكّله بعد عام 1993حيث تم الاعتراف (بحق) المستعمِر في 78% من أرض فلسطين في فضاء كولونيالي تخطّى هذه النسبة، ليشمل كل فلسطين التاريخية بين نهر الأردن والبحر المتوسط. الجديد-القديم يكمن في هيمنة حالة من الوهم بإمكانية تغيير طبيعة العلاقة بين المضطهَد الفلسطيني والمضطهِد المستعمِر من خلال عملية الانتخاب وفي تغليب فكرة إمكانية تحسين شروط القهر خارج السياق الاستعماري. فمن الملاحظ أن القوى السياسية البارزة من اليمين الديني واليسار الستاليني كانت قد امتنعت عن المشاركة في أول انتخابات مجلس تشريعي عام 1996، إلا أن تغيّراً هائلاً قد تغلغل في الثقافة السياسية الفلسطينية نتيجة هيمنة جرثومة أوسلو وترسيخ مفاهيم كانت قد حوربت من القوى نفسها سابقاً. وهذا ما مهّد لمشاركة أوسع في انتخابات 2006 على أساس إمكانية «التغيير من الداخل». والتأقلم مع الواقع الجديد الذي خلقته الاتفاقيات، والأمل في تشكيل معارضة قوية، إلخ. وتم تناسي الأسباب التي سيقت لتبرير عدم المشاركة في انتخابات 96. كما دخلت قوى مطلبية وعشائرية، وأخرى تتبنى سياسات الهوية الضيقة، على الخط الانتخابي دون أي أفق سياسي تحرري يرتبط بجوهر القضية الفلسطينية من حرية وعودة وتقرير مصير، مع تناسي كامل لاستحالة توفر (حرية) للناخب باختيار مرشحه تحت تهديد بندقية المحتل الغاشم، وإنكار أن مبدأ المشاركة في الانتخابات هو بحد ذاته موافقة ضمنية على الأسس التي قامت عليها. فالمجلس التشريعي هو إحدى المؤسسات التي تمخّضت عنها اتفاقيات أوسلو، ضمن العديد من المؤسسات الأخرى بما فيها السلطة الوطنية نفسها.
وعلى الرغم من أن نتيجة انتخابات 2006 كانت رسالة رفض واضحة للمنطق السياسي الأوسلوي، و على الرغم من أنها جاءت (مفاجئة) لجميع القوى، حتى الفائزة بأغلبية المقاعد، إلا أن جرثومة أوسلو استمرت في تغلغلها. المعادلة أصبحت واضحة بعد دورتين انتخابيتين(1996، 2006): التوجه إلى صندوق الاقتراع وانتخاب من يواصل (الحوار) مع إسرائيل، وإلا فإنك ستتعرض لحصار خانق متعدد الأطراف مصحوب بحروب إبادية.
لم تؤدّ انتخابات96 إلى إقامة دولة فلسطينية مستقلة ولا انتخابات 2006 أدت إلى تحرير أي جزء من أرض فلسطين التاريخية! على العكس من ذلك، في كلتا الحالتين ولدت سلطتان لا تتمتعان بأي شكل من أشكال السيادة، إلا إذا اعتبرنا العلم والبساط الأحمر وعزف النشيد الوطني، وألقاب الوزراء، أهم المظاهر السيادية.
انتخابات 96، على نحو ما، قامت بشرعنة تقسيم الضفة الغربية إلى بانتوستانات، على نمط نظام الأبارتهيد، معنونة بأسماء مناطق أ، ب، ج وخلقت سلطة بلا سلطة قامت بتصنيم فكرة الاستقلال، من منطلق التعامل مع شكل واحد من أشكال الاضطهاد الصهيوني ألا وهو الاحتلال العسكري للضفة الغربية وقطاع غزة اللذين تم تصنيفهما على أنهما (مناطق متنازع عليها).
أما انتخابات 2006 فقد فرّخت سلطة غير مرغوب بها استقرت في قطاع غزة وأتقنت دور شاويش السجن، أو كبير السجناء، الذي ينظم حياة 2 مليون سجين، بعد تغيير ميثاقها وقبولها بدولة فلسطينية مستقلة على حدود 67.
واليوم نتم الدعوة لانتخابات تخيرنا بين قوتين تمثلان اليمين الديني في مواجهة اليمين العلماني، مع غياب بديل ثالث ضروري. فما هي النتيجة المرجوّة من هذه الانتخابات؟ وهل تتميز عن سابقاتها جذرياً؟ بمعنى هل تمت معالجة الأخطاء المصيرية التي عانت منها، أو بسببها، الانتخابات السابقة؟وهل ستعبر هذه المرة عن حق تقرير المصير كما يُعرّف من قبل الكل الفلسطيني؟ بمعنى آخر، هل ستتعامل العملية الانتخابية عملياً مع كل مكوّنات الشعب الفلسطيني وتطلعاتها؟ أم ستكون كسابقاتها إقصائية ومحدودة؟وهل ستساعد على تخطي وتفكيك صنمية (الاستقلال) بعيداً عن التدخلات الخارجية؟
بكلمات أخرى، هل يمكن لانتخابات قبل الاستقلال، بمعناه التحرري، وتحت حراب الاحتلال، أن تكون نزيهة وشفافة؟وهل ستعبر عن الرغبة الحقيقية للشعب الفلسطيني المستعمَر؟ وماذا سيحصل لو تعارضت هذه الرغبة مع ما يريده المستعمِر، كما حصل عام 2006؟
إن البديل الديمقراطي هو ذلك الذي يعبر عن الإرادة الجمعية للشعب الفلسطيني. فالبديل يكمن في انتخابات المجلس الوطني الفلسطيني بعد إعادة بناء منظمة التحرير الفلسطينية على أسس ديمقراطية حقّة تكفل تمثيل كل فصائل العمل الوطني والإسلامي. انتخابات المجلس الوطني ستضمن أن يُمثل الشتات والداخل، بعيداً عن صنمية (الاستقلال)تحت قدم المحتل الغاشم. هي انتخابات تقرب الشعب الفلسطيني من حق تقرير المصير كما عرّفته الشرعية الدولية وتعيد الشرعية لحق المقاومة بأشكالها المتعددة.
لكل ذلك لن أشارك في انتخابات المجلس التشريعي في ظل سياسات الاحتلال والاستيطان والأبارتهيد الإسرائيلية. وسأشارك في انتخابات المجلس الوطني الفلسطيني، البرلمان الفلسطيني الوحيد الذي يمثل الشعب الفلسطيني بكل مكوّناته.
* محلّل في شبكة السياسات الفلسطينية «الشبكة»

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا