تعقّد مسار تشكيل الحكومة اللبنانية حتى بلغت الأزمة أوْجَها في تصعيد لغة الخطاب، ودعوة فخامة رئيس الجمهورية الرئيس المكلّف سعد الحريري إلى زيارة قصر بعبدا للنظر في تشكيل الحكومة، وفق الأصول الدستورية والعرفية التي تؤمّن التوازن ووحدة المعايير في عملية التشكيل. وأضاف رئيس الجمهورية في خطابه المتلفز، أنه إذا كان الحريري عاجزاً عن هذه المهمة، فليترك الأمر لمن هو قادر عليه، أيْ في معنى يعتذر عن التأليف ويفسح المجال أمام سواه.لم يتأخر ردّ رئيس الحكومة المكلف على هذا الخطاب التصعيدي وتخييره بين أمرين: موافقة بعبدا على ما تريد أو التنحّي لشخصية أخرى بقبول الدعوة للقاء الرئيس والبحث في ما قدّمه له من تشكيلة كاملة في اللقاءات الستة عشر السابقة، وأنه إذا كان رئيس الجمهورية غير قادر لأسباب معيّنة على توقيع مرسوم تشكيل الحكومة فليُرح اللبنانيين بعد مصارحتهم ويوافق على انتخابات رئاسية مبكرة.
كانت هذه صورة الوضع الداخلي في شأن تشكيل الحكومة. والتي أظهرت أن الأزمة داخلية لبنانية وأنها صراع بين إرادتين تمثلان مواقع دستورية هي الأبرز في تركيبة الحكم اللبناني.
حيث كان الصراع حول السلطة في لبنان يتم في وجهه الرئيسي بين الرئاستين الأولى والثانية. استناداً إلى تركيبة متحقّقة بين تفاهم أو صراع كلّ من المارونية السياسية والسُّنية السياسية. والتي انتهت بعد الحرب الأهلية إلى اتفاقية الطائف، التي صارت مرجعاً دستورياً. والتي يسعى أهل السلطة إلى الدوران حولها في محاولة لتعديلها أو لتثبيتها مرجعاً غير قابل للتعديل والتغيير.
كان المسلمون الشيعة في موقع الشريك الذي دفع أثماناً عَالية في الحرب الأهلية ليجني أرباحاً ومكاسبَ محدودة في اتفاقية الطائف، والتي تركّزت حول صلاحيات إضافية لرئيس مجلس النواب. ثم حول مكسب إضافي كان لنا دور في تحقيقه يتعلق بمديرية الأمن العام داخل المؤسسة الأمنية والعسكرية.
والآن تمثل الثنائية الشيعية في قوتها المضافة بالمقاومة عنصر توازن قويّاً داخل تركيبة السلطة اللبنانية. حتى إنه لا يمكن تجاهل هذا الدور في شكل من الأشكال. ويذهب معارضون له للقول إن هذه الثنائية وحزب الله منها على وجه التحديد حاكم في لبنان وهو أمر لا يقبل الحزب بتوصيفه ولا يتحمّل مسؤوليته، ولذلك كان يزن خطواته بشأن الداخل اللبناني بميزان الكيميائي. وهو حريص أن لا يُدخل قوة المقاومة وسلاحها في لعبة السلطة الداخلية لأن هذه القوة في حساب استراتيجي هي لمصلحة لبنان وحمايته من كل عدوان.
إن تصعيد أزمة تشكيل الحكومة وتعقيدها وانسداد أفقها ولعب الأطماع في الرؤوس الحامية فيما الشعب اللبناني يئنّ تحت وطأة ارتفاع الدولار وغلاء الأسعار وتفشي الوباء، وتعرض البلاد لشتى الأخطار، وتدخل قوى خارجية تفرض العقوبات وتهدد بالحرب الأهلية وما أدراك ما الحرب الأهلية التي يعرف اللبنانيّون ويلاتها والتي شاهدوا أخطارها في بلاد شقيقة قريبة وبعيدة وعرفوا أنها تؤدي إلى الجحيم حقاً، فيما السلام الداخلي والتضامن الوطني يؤديان إلى النعيم حقاً وحقيقة.
أمام التطورات الخطيرة، برز دور الثنائي الشيعي في موقع الحريص على تحقيق التوازن الداخلي والعمل لتشكيل الحكومة، في عملية نظم أوركسترا التشكيل عبر تدخل متوازن حصل على الشكل التالي:
إصدار بيان عن مكتب الرئاسة في حركة أمل جاء فيه أنه لا توريث للسلطة في لبنان، وأن لبنان لكل اللبنانيين وليس لأطراف معينة منهم. وذلك يعني في صريح العبارة أنه محاولة تهدئة التصعيد من قبل قصر بعبدا. وتهدئة الرؤوس الحامية في إدارة رئيس الجمهورية، وبين مستشاريه وتياره ومناصريه. وقد يكون لهذا الموقف أهداف أخرى مضافة. لكننا نقف عند هذا الهدف الصريح لعلاقته بمقاصد هذا المقال.
ترافق هذا البيان مع خطاب سماحة الأمين العام لحزب الله في ذكرى يوم الجريح، والذي كان محيطاً بكل أبعاد الأزمة الداخلية والحكومية. ونتوقف عند محاولة تهدئة التصعيد في محيط الرئيس الحريري، ومحيطه ومستشاريه وتياره ومناصريه. وذلك عن طريق تقديم النصح له بأهمية قيام حكومة واقعية في لبنان مؤيّدة من القوى السياسية في البرلمان. لا يقف فيها أحد على التلّ يتفرج على حرب الفقر والمرض والجوع والغلاء والإفلاس التي شارك في صناعة مراحلها.
كان خطاب سماحة الأمين العام محيطاً من ناحية تحديد موقف حزب الله من مخاطر الحرب الأهلية وأنها مستحيلة، لأنه لا إرادة فيها ولا قدرة لأحد عليها ولا مصلحة للبنان بها وأنه يلزم حل مشكلة الحكومة بالتوافق والتفاهم. وليس بالتصعيد والسقوف العالية لأن لكل سقف علوّه المحسوب.
لم يتراجع حزب الله عن الاتفاق بشأن الحكومة بل أكد على ضرورته والعمل على تطويره إذا أمكن بالاتفاق الوطني. وهدف ذلك حثّ الأطراف على التفاهم والاتفاق وتهدئة النفوس وتصفية النوايا، حيث استطاع هذان الموقفان إعادة التوازن إلى اللعبة الداخلية. وإذا تحقّق تشكيل الحكومة تكون هذه التجربة هي الدليل الصريح على الدور الأساسي في الداخل اللبناني للثنائية الشيعية السياسية. وهو دور يحفظ لبنان من الانزلاق إلى المأزق السياسي والصراعات ومخاطر الأزمات والحروب ويحميه من نفسه ومن الأعداء وهو أمر لافت ومهم. والإشارة إليه لا تعني أنه مكسب لأصحابه بقدر ما هو مكسب للبنان. نأمل أن يتحقق ذلك في تشكيل الحكومة والخروج من الأزمة، وحصول الفرج للبلاد والعباد، وإتمام الأمر بمسيرة الإصلاح والبناء على السواء.

* كاتب ووزير سابق

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا