«دفعتُ ثمن أمومتي. عشرُ سنواتٍ كانت كفيلة لتحويلي من أنثى تفيض حباً وأملاً، إلى شبحٍ باردٍ يتنفّس»، هكذا قالت ياسمين. هي واحدةٌ من الفتيات اللواتي تزوّجن بـ«فارس أحلامهن» وكلّها أمل ببناء حياةٍ أسرية جديدة هادئة. تلقّت الصدمة الأولى في شهر العسل، ليتحوّل ذلك الفارس إلى «وحشٍ» كما تسمّيه، يفترسها بشراسةٍ وأنانيةٍ، فذَبُلت ياسمين واضمحلّ ربيعها واحترق. بعضُ الرجال، كنيتشه، يعتبرون أنفسهم وسيلة لتحقيق غاية المرأة بالإنجاب فقط، والبعض الآخر يؤمن أن للمرأة دوراً مهماً في الحياة على جميع الأصعدة وأنها تكمّله، وآخرون يجدونها جسداً جاهزاً لإشباع رغباتهم وإثبات ذكوريّتهم من خلاله، ويرون فيها مجرد وسيلة للتباهي.
تختلف الرؤية حول هذا الموضوع، ولكنّ الضحيّة واحدة: المرأة. إلا أن الأخطر في مقاربة هذه القضية هو أن تأثيرها المدمّر لا يقتصر على الأذى النفسي والجسدي الذي يلحق بالمرأة بل يمتد أيضاً إلى استقرار الأسرة التي ستعاني -بمن في ذلك الأبناء- من هذا النزاع حول الهيمنة واحترام الشريك الآخر والذي غالباً ما يقود إلى تراكم البؤس داخل الأسرة أو تفكّكها وانفصال الزوجين.
من هنا نرى أهميّة العلاج النفسي في احتواء مشكلة كهذه، والتقليل من مخاطرها ووطأتها على الزوجة والأبناء وحتى الزوج.

من أنواع الاعتداء الجنسيّ
يُشتق مصطلح “rape” من اللغة اللاتينية وهو كان يعني ابتداءً "أن تنتزع شيئاً ما أو تمسك بشيء ما وترحل". ومنذ القرن الرابع عشر، أصبح المصطلح شائعاً بمعنى أن تستولي على شيءٍ ما بالقوّة. فالاغتصاب هو نوع من أنواع الاعتداء الجنسي الذي يُرتكب بالقوّة والإكراه تجاه شخصٍ من دون موافقته بما يتعارض مع بديهيات حقوق الإنسان وكرامته.
المعاشرة الزوجية بالإكراه شكل من أشكال الاغتصاب، حتى لو اعتبرها كثيرون حقّاً من حقوق الرجل. وعموماً، ثمّة أوجه متعددة من امتهان المرأة يمثلها الإكراه الزوجي، وتُراوح بين العنف المباشر والابتزاز والتحقير وصولاً إلى الضغط النفسي، وكلّها أساليب تؤول إلى اغتصاب ليس الجسد فحسب، بل الروح والنفس أيضاً، وتأثيرها قد يكون أقوى وأعمق على الضحيّة الزوجة من تأثير الاغتصاب عموماً.
وتسبب المعاشرة بالإكراه ضرراً وأذى ومشاعر سلبية أليمة، من الصعب على المرأة التعامل معها أو غضّ النظر عنها وتجاوزها لتكمل حياتها بشكل طبيعي.
ويعتبر المعالجون النفسيون ممن يتولون مساعدة الضحايا على الشفاء من الضرر النفسي والعقلي الذي يتسبّب به الاغتصاب الزوجي أنه يُعد من أسوأ أنواع التعدي، لأنه يشكل خرقاً لحرمة جسد المرأة وانتهاكاً لكرامتها وطعناً واستهتاراً متعمّداً أيضاً بشخصها وكيانها...
ويرون أن أكثر ما يؤذي في مثل هذه الحالات هو العنف النفسي والمعنوي غير المُعلن الذي يجتاح الروح ويجرّدها من سلامها واستقرارها، بينما العنف الجسدي تكون آثاره ظاهرة وتُضمّد مع الوقت.
وبسبب طابع العلاقة الحميمة بين الزوجين يثير تصنيف المعاشرة بالإكراه جدالاً واسعاً بسبب صعوبة هذا التصنيف، إذ بينما درجت العادة على إنزال العقوبات بحق المعتدي إذا كان هذا المعتدي غريباً، إلا أن العقوبة تسقط غالباً إذا أُدرج الاعتداء في إطار مؤسسة الزواج وفي إطار ممارسة الزوج لحقه "البديهي" في المعاشرة الزوجية حتى ولو بدون رضى الزوجة، ومن دون مراعاة رغباتها وحقها في التصرف بجسدها. وهذا الإشكال يُبقي النسبة الكبرى من جرائم المعاشرة بالإكراه خارج إطار العقوبة، إما بسبب غياب التشريعات المناسبة، وإما بسبب عدم الاعتراف أساساً بوجود شيء اسمه الاغتصاب الزوجي وصعوبة وضع خط يفصل بين تصنيف الرضا والإكراه داخل علاقة حميمة يعيش طرفاها حياتهما معاً.
وتقر 150 دولة على الأقل اليوم بوجود مشكلة في المعاشرة بالإكراه، وفرضت عقوبات على الأزواج الذين يرتكبون هذه الأفعال. إلا أن هناك 36 دولة ما زالت تعتبر ممارسة الزوج بالإكراه لحقه بالمعاشرة الزوجية فعلاً لا يخضع للتجريم القانوني!
وتراوح تقديرات منظمة الصحة العالمية الخاصة بانتشار العنف الجنسي من قبل الزوج من 23,2 في المئة في البلدان المرتفعة الدخل و 24,6 في المئة في إقليم غرب المحيط الهادئ إلى 37 في المئة في إقليم شرق المتوسط و 37,7 في المئة في منطقة جنوب شرق آسيا.
وقد خلصت دراسة مشتركة أجرتها هذه المنظمة عام 2013 مع كلية لندن للصحة ومجلس البحوث الطبية في جنوب أفريقيا، واستندت إلى تحليل البيانات الموجودة في أكثر من 80 دولة، إلى أن ثلث النساء المتزوجات في العالم تعرّضن للعنف الجنسي من قبل الشريك بعيداً عن حماية القانون.
وتنطبق هذه الأرقام بشكل متفاوت على لبنان والعالم العربي، حيث لا تزال المسألة خارج إطار التشريعات جراء القيم الاجتماعية والدينية المحافظة السائدة، وبطء التشريعات.

تأخر سنّ التشريعات الرادعة
يعتبر القانون الفرنسي أن الاغتصاب الزوجي يكون أكثر تأثيراً وأشدّ ألماً، لهذا نجد أن الرجل إذا اغتصب امرأة لا يعرفها ينال عقوبة ١٥ سنة سجناً، أما إذا كانت زوجته فتُضاعَف عقوبته إلى 20 سنة! وتشير الإحصاءات إلى أن 35 في المئة من النساء المتزوجات حول العالم يتعرّضن لـ «الاغتصاب الزوجي». وتُعد هذه النسبة مخيفة بكل المقاييس، إذ أنها تظهر أن هناك أكثر من 1,2مليار امرأة على الأقل في عالمنا اليوم يتعرضن للعنف الجنسي، ولا سيما في العالم الثالث، حيث تفتقد المرأة المتزوجة غالباً إلى الحماية القانونية في ظل ضعف التشريعات المناسبة التي تحمي الضحايا من هذا النوع من العنف.
وتعتبر ميشال أندرسون، مؤلفة كتاب "قوانين الاغتصاب الزوجي عالمياً"، أن غالبية الدول حول العالم والتي تضم 2,6 مليار امرأة لا تجرم أساساً الاغتصاب الزوجي. وتشير إلى أنه فقط في المناطق المتقدمة من العالم يعتبر هذا النوع من الاغتصاب جريمة أكثر من غيره.
وتوضّح أنه بسبب تفاوت حق المرأة في قبول المعاشرة الزوجية قسراً وبالإكراه من بلد لآخر ومن ثقافة إلى أخرى، تتفاوت نظرة القانون في تجريم العنف الممارس ضدها باسم هذا الحق.

العلاج عامل مكمّل
تختلف صورة الزوج المغتصب الحقيقية عن الصورة التقليدية للزوج المخلص والمتفهّم الذي يحترم شريكة حياته ورغباتها. تتعدد أسباب هذا الخلل السلوكي بدءاً من انخفاض مستوى التعليم ووجود تاريخ من التعرض لسوء معاملة الأطفال، إلى مشاهدة العنف الأسري، واضطراب الشخصية المعادية للمجتمع، وتعاطي الكحول، وتعدد الشركاء، وصولاً بكل بساطة إلى أعراف المجتمع التي تمنح امتيازاً للرجل ومكانة أقل للمرأة.
بشكل عام، المغتصب هو شخصٌ مضطربٌ سلوكياً وجنسياً، ساديٌّ وقد يكون ذا ميولٍ إجراميةٍ، فاقداً للضمير الأخلاقي والتوازن النفسي. ربما كانت علاقته غير سويّة مع والدته والجنس الآخر، أو ربما تعرض للتحرش الجنسي هو أيضاً (5 إلى 10 في المئة من الذكور يتعرضون للعنف الجنسي في طفولتهم) فيقوم بهذه الاعتداءات كردّ فعل وإثبات وجود.
لذا يأتي التأهيل النفسيّ كعلاجٍ وحلٍّ ليعيده إلى صوابه واتّزانه ووعيه، وكعنصر علاج مكمّل للتغيير الثقافي أو سنّ التشريعات الزاجرة.
والعلاج النفسي هنا هو من العناصر الأساسية التي تسهم في معالجة الخلل في العلاقة بين الزوجين وفي زيادة نسبة نجاح الزواج وحماية مستقبل الأطفال أيضاً.

علاج الضحيّة
على صعيد الزوجة، يؤثر الاغتصاب الزوجي على مشاعر المرأة ونظرتها إلى نفسها وإلى شريكها، فتشعر بالإهانة والانكسار والخوف والنفور كما تفقد ثقتها وشعورها بالأمان معه.
وتتحوّل رؤيتها للعلاقة الجنسية إلى مجرد علاقة شهوانية عدوانية قذرة! وفي مواقف المعاشرة بالإكراه تواجه الزوجة لحظات رعبٍ تزلزل كيانها النفسي وتحدث تهتكات وشروخاً نفسية وعقليّة داخلها تبقى آثارها مدى الحياة...
التأثير السلبي الذاتي الذي تتعرض له المرأة من ناحية أخرى، هو أنها ستبدأ في كره جسدها، لأنها تلومه وتشمئز منه وغالباً ما يُترجم ذلك في اضطرابات نفسيّة، منها اضطراب ما بعد الصدمة (PTSD)، الاضطرابات النفسية الجسدية (Psychosomatic Disorders)، القلق، الاكتئاب، الانعزال، البرود الجنسي وصعوبات في النوم. أيضاً قد تنفجر غاضبة لتهدأ بعد قليل وأحياناً تدخل في نوباتٍ من البكاء وقد يصل الأمر إلى الانتحار. إضافة إلى أن نبذ الحميمية في العلاقة الزوجية مع اضطرار المرأة إلى البوح بمشكلتها لطلب المساعدة يعني أن علاقتها مع من هو زوجها ستصبح مكشوفة للآخرين وأنها تنازلت عن قدر كبير من خصوصيتها مقابل الحصول على الدعم من الآخرين. وهذا موقف مؤلم للغاية ويفاقم حجم معاناتها النفسية.
ويعتبر خبراء علم النفس أنه في حال عدم حصول الزوجة على تفهّم المجتمع لمعاناتها فإن ذلك سيزيد حتماً من حجم ألمها وسيفاقم ما تتعرض له من إذلال وامتهان لكرامتها وإنسانيتها واعتزازها بنفسها على يد شريك حياتها والأقرب إليها. ويشيرون إلى أن الضحية تتعرض لضغوط كبيرة حقيقية في بحثها عن كيفية إصلاح وضعها والإفلات من معاناتها المزمنة.
فإذا هي سكتت واختارت التزام الصمت، ستصبح المعاناة أكبر مع الزمن، ما يؤثر حتماً على علاقتها الزوجية وعلى سويّة تعاملها مع الأولاد والأهل.
أمّا اذا اختارت معالجة الأمر مباشرة مع زوجها، أو كشفت ما تتعرض له من عنف وقسر للآخرين، طلباً للمساعدة، فذلك سيتطلب جرأة وشجاعة وحنكة قد تفتقدها في إدارة علاقتها مع الآخرين (الأهل، الأصدقاء، الشرطة، الإعلام، أفراد الجسم الطبي، النيابة، القضاء، إلخ...). وفي هذه الحالة ستكون بحاجة إلى دعمٍ وإرشادٍ نفسيّين يساعدانها على تخطي التجربة الصعبة ويؤهلانها لاستعادة كيانها وموقعها أمام المجتمع واستكمال حياتها بشكلٍ طبيعيٍّ وثقتها بقدراتها وإعادة بناء احترامها لنفسها. ولعل أكبر مشكلة تواجهها الزوجة الضحية التي تلجأ إلى المؤسسات القانونية عادة هي الإقرار بأن صعوبة إثبات الجريمة لا تعني السكوت والتغاضي عنها مهما كان الثمن!
بالعودة إلى ياسمين وحالها كحال معظم الزوجات المعنّفات، ذهبت إلى الخيار الأول... فهي لم تجرؤ على المواجهة، حضنت روحها الهشّة والتزمت الصمت... تحمّلت الألم النفسي والجسدي على أن تقبل بتفكّك صورة الأب المثالي وتتسبب في خراب الأسرة وتدمير مستقبل بناتها الثلاث!

نموذج لبنان
في لبنان، يميّز قانون العقوبات بين أن تتعرض المرأة للاغتصاب من قبل الزوج وغير الزوج. فالأول هو أمر مشروع فيما الثاني هو جريمة يعاقب عليها القانون. إذ نجد أن قانون العنف الأسري لم يجرّم الاغتصاب الزوجي كفعلٍ، بل جرّم الأذى الجسدي الناتج عنه بعد إثباته بتقرير طبّي بتعطيل الزوجة المغتصبة لعشرة أيام وبعقوبة تصل إلى غرامة بـ ٥٠ ألف ليرة وبسجن الزوج المغتصب لـ ٤٨ ساعة فقط!!
من هنا نرى أن الضحيّة في بلادنا تُقتلُ مرّتين، إذ أن المجتمع هو المحتاج الأول إلى المحاكمة والعلاج... الاغتصاب الزوجي ليس قضيّة بسيطة يمكن للمجتمع إبقاؤها على الهامش ريثما يتم تغيير الثقافة الجندرية وسنّ التشريعات الزاجرة وبناء مؤسسات تحمي من العنف الأسري. يجب التعاطي معه على أساس أنه عامل يؤدي إلى تدمير المرأة ككائنٍ على المستوى الحياتي والاجتماعي والثقافي والعاطفي وحتى الجنسي، ويُعيق وجودها كأمّ وزوجة ويظل جرحاً يَصعُب التئامه ووصمة تحملها طيلة حياتها.
يتمثل الحلّ المساعد بانتظار تطوير التشريعات في إطلاق حملات التوعية، مع إقامة بنية للإرشاد والمساعدة النفسيَّيْن يقوم عليها متخصّصون لدعم النساء الضحايا في مواجهة تبعات العنف الجنسي الذي يُمارس من قبل أزواج لا يرون حرجاً في اعتباره حقاً أو وسيلة لفرض رغباتهم ووجودهم على نصفهم الآخر.

*باحثة في علم النفس العيادي

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا