اكتسب موضوع التعدّد الديني بشكل عام اهتماماً ومساحة كبيرين على مستوى الدارسين في العالم، خصوصاً في العصر الحديث، لما له من تأثير في بنية النظام المجتمعي وفي أساس العقد الاجتماعي، الأمر الذي ينعكس تبلوراً في جوانب النظام العام لأيّ دولة، أكان على المستوى السياسي أو الاقتصادي أو الاجتماعي أو الأمني. ولكن ماذا نعني بالتعدّد الديني؟ هل هو القبول بالتساوي بين الأديان والالتقاء على بعض القيَم السامية فحسب؟ لا شك في أنّ ذلك من موجبات التعدّد ولوازمه، إلّا أنّ فكرة التعدّد كمفهوم حديث، تتعدّى ذلك إلى تقبُّل احتمالية وجود طرق وسبل عديدة تؤدي إلى الله أو حتى الآلهة، وتقابلها فكرة «الإقصائية» التي يرفض أصحابها تقبّل الديانات الأخرى وقد يصل بهم الأمر إلى تكفيرها. إنّ التعدّدية ليست مجرّد اشتراك في قيم معيّنة أو اتفاق بشأن بعض القضايا الاجتماعية، كالاتفاق على قيمة الصدق ومساعدة الفقراء أو نبذ أفعال مشينة كالسرقة، إنما تتعدّى ذلك إلى اعتماد حقائق متعارضة، وقبول معتقدات متباينة بشأن الله والخلاص. انطلاقاً من ذلك، سنُحاول في هذه المقالة الموجزة أن نسلّط الضوء على واقع التعدّد الديني في لبنان لنرى تموضعه ممّا تقدم، ولنرى إذا كان التعدّد الديني في لبنان نعمة يمكن استثمارها أم نقمة يجب العمل على التخلّص منها. علماً بأنّ مقاربة موضوعٍ مثل هذا تحتّم علينا ممارسة الأركيولوجيا والحفر في الماضي وصولاً إلى البنية الأساسية التي تَشكَّل منها هذا النسيج التعدّدي، لرصد مكامن الخلل وشرارات الانزياحات والتحوّلات الأولى التي نتج عنها هذا الواقع. كما يُفترض بنا العودة إلى النصوص الأصيلة والأصلية لكلّ الأديان المكوِّنة للوحة الفسيفساء اللبنانية، بهدف تقصّي المؤتلف والمختلف بينها، وبالتالي فإننا نجد أنفسنا أمام الإشكالية التالية: هل ثمّة إمكانية لتعايشٍ وانصهار في لبنان تحمل في ذاتها قابلية الحياة والاستمرار؟ أم أنّه مجرّد تعايش نابتٍ على رمال متحرّكة مليئة بالشِّراك والفِخاخ، ما يلبث أن يخرج من قاعٍ حتى ينزلق إلى قاعٍ أعمق، وبالتالي نكون أمام استحالة مكوث التعدّدية الدينية فيه؟ وبما أنّه يتعذّر علينا التعمّق والتوسّع في مقالة مقتضبة كهذه، فإنّنا سندخل مباشرة على واقع التعدّد الديني في لبنان لنوصّفه ونفكّكه ثم نشخّصه محدّدين مشاكله ومقترحين حلولاً تناسبه.
إنّ التعدّدية ليست مجرّد اشتراك في قيم معيّنة أو اتفاق بشأن بعض القضايا الاجتماعية


إنّ الصورة الكلّية لواقع التعدّد الديني في لبنان تبدو مهشّمة وممزّقة، ولو محّصنا قليلاً وأنْعمنا النظر ملياً، لوجدنا أنّ ذلك لا يعود إلى عدم إمكانية تجاور الأديان وتداخلها وتعايشها، وقد أكدت ذلك مواقف وأحداث كثيرة؛ إنما يعود برأينا إلى سببين أساسيين هما:
السبب الأول: مصدره داخل ديني أو السلطة الدينية نفسها، إذ لا بدّ من التمييز بين الدين وما جاءت به النصوص المقدّسة والرُّسل، وبين الإكليروس أو السلطة الدينية التي نصّبت نفسها حريصة وحارسة على الدين، فكانت بغالبية أشكالها أكثر من أساء إليه، مرّة بسوء التفسير والتأويل ومرّة بسوء الاستخدام، ومرّات بتوظيفه للحفاظ على المكتسبات السلطوية، من خلال الإطباق الأيديولوجي المُحكم على المجتمعات التي يضمن لها ديمومتها. وهذا ما نراه بشكل واضح وجلي في لبنان، حيث تحوّلت الأديان إلى مؤسّسات طائفية رسمية، مهمّتها النضال في سبيل تحصيل حقوق الطائفة بحجة الحفاظ على التعدّدية، بدل أن تسعى إلى الانصهار والذوبان في مواطنة أساسها الإنسان الذي أكدت جميع الأديان احترامه، على اعتبار أنه المخلوق الأسمى في هذا الكون. فالماء مثلاً، لا يكون ماءً إلّا إذا اجتمع فيه عنصرا الأوكسيجين (شديد الاشتعال) والأيدروجين (شديد الانفجار)، وهذا الاجتماع المُولّد للحياة، لا يمكن أن يقوم ويتحقّق بأحد عنصريه إنما بالعنصرين معاً على اختلاف بنيتهما التكوينية. لذلك، فإنّ التعدّد الديني لا يمكن أن يقوم على التفاوت والتفاوُق في الدور والموقع بين الأديان، إنّما باشتراك جميع مكوّناتها في حوار إنساني فكري كرونولوجي مبنيّ على حقّ الاختلاف، تنتج عنه مقاربات وتوليفات جديدة يمكن تسجيلها كبراءة اختراع في قائمة القيم الإنسانية الحضارية.
السبب الثاني: التداخل بين السياسة والدين، ويمكننا الاستئناس هنا «بتدبير المتوحّد»، تجربة ابن باجة الأندلسي، الذي وقع ضحية لتداخل السلطة السياسية والسلطة الفقهية معاً، حيث رأى أنّ هاتين السلطتين غالباً ما تكون غايتهما ذات طبيعة عملية نفعية؛ وكثيراً ما تتبادلان المصالح، لتأثيرهما معاً في الأغلبية، خصوصاً في لحظات الحرب، والحاجة إلى المال والرجال. وهي مصالح أفرزت جملة من الإثباتات النظرية، وأعطت الأولوية للتقليد على التجديد؛ وركّزت على الفضائل الشكلية، ذات التأثير الانفعالي في العامّة، وبالتالي فإنّ المدن التي تحتوي على مثل هذه الخصائص تحمل في ذاتها عناصر تدميرها. إذن، فلو قمنا بإسقاط رؤية ابن باجة هذه على الواقع اللبناني لوجدنا أنّه يصيب في الصميم ويشخّص كما لو كان يعاين الواقع، إذ إن تداخل هاتين السلطتين أنتج النظام الطائفي ورسّخه بحجة الدفاع عن حقوق الطوائف والأديان من خلال الدولة، بينما لم يكن ذلك في الحقيقة إلا بناء سور شاهق لحماية المواقع السلطوية (السياسية، الدينية) التي تستعمل الدين والطائفة لتحريض العامة كلّما دعت الحاجة وكلّما شعرت بتهديد يلوح في الأفق.
إن واقع التعددية الدينية في لبنان بما هو عليه الآن، وانطلاقاً من السببين المُتقدِّمَين، يشكل عائقاً لا يمكن معه الولوج إلى الديمومة والاستقرار بل يؤكِّد البقاء في حال من المراوحة المصحوبة بالأزمات المتناسلة. وبالتالي، نحن أمام معضلة تحتاج إلى حل لا يكون مؤقتاً، إنما يشكّل أرضية صلبة للتعايش القائم على بناء الثقة واحترام وقبول الآخر، مهما كان هذا الآخر ومهما كانت ديانته، طالما أنّ الجميع متّفق على أنّ الطريق إلى الله يمرّ عبر الإنسان. فهل ذلك ممكن؟ إنّ بلداً مثل لبنان بواقعه الحالي، أشبه ببناءٍ مؤلّف من سبع عشرة طبقة، شُيّد على أرض متهالكة، كل طبقة فيه حكرٌ على طائفة من طوائفه، تعيش هاجس الحصار والقلق وتسعى إلى السيطرة على البناء كلّه لضمان أمنها ووجودها. وقد أثبتت التجارب جميعها في لبنان، أكان في الحرب أو السياسة، استحالة تحقيق الغلبة لفريق على آخر أو إقصاء أي مكوّن من مكوّناته، ولو حصل ذلك فسيكون لفترة مؤقتة، لن تُكتب لها الحياة، لأنّ المشكلة تكمن في البنية الفكرية اللبنانية التي راكمت على التباين والخوف من الآخر، وبالتالي فإن اللبنانيين جميعاً مدعوّون إلى إنتاج صيغة جديدة انطلاقاً من واقعهم التعدّدي، تقوم على الدولة المدنية التي تحترم خصوصية الأديان وتنوّعها وتحفظ لها حرّيتها طالما أنّها لا تنتهك حرية الآخرين، ويتساوى فيها الجميع أمام القانون وتكون المواطنة فيها معياراً وحيداً ومطلباً أساسياً تنادي به الأديان والطوائف كافّة لاعتباره الضامن الوحيد لوجودها، والشريان الوحيد لديمومتها. إنّ مثل هذا الطرح، يستدعي إعادة النظر في مقدّمات وأُصول النظام القائم في لبنان واعتماد آليات مرنة لتحويله تدريجياً من نظام قائم على المحاصَصة الطائفية إلى نظام مدني مبني على الكفاءة والمواطنة، يؤمن بالتعدّدية ويستفيد منها لإنتاج صيغة مبتكرة لحياة آمنة ومستقرّة. وهذا الانتقال محكوم بالضرورة بأن يبدأ من حقل البيداغوجيا على مستويين، الأول: تربية النشء على المواطنة والمدنية وحق الاختلاف والتعدّد. والثاني: العمل على إصلاح القطاع التربوي بتنقيته من كلّ ما هو طائفي والاستعاضة عنه بما هو وطني وجامع. كذلك، يتطلّب وضع قانون جديد للأحزاب اللبنانية يضمن تجريدها من الثوب الطائفي والمذهبي. وحتى يكون ذلك ممكناً، لا بدّ من اعتماد قانون انتخاب جديد قائم على النسبية المطلقة والدائرة الواحدة والبرنامج الوطني، لأنّ من شأن ذلك بالاستناد إلى التوزّع الديموغرافي الحالي للطوائف، أن يجعل من الانقسام اللبناني انقساماً وطنياً لا طائفياً ودينياً، إذ إنّ المسلم الذي ينتمي إلى برنامج سياسي معيّن يجد نفسه إلى جانب المسيحي الذي يؤيّد برنامجه، ولا يعنيه المسلم الذي ينتمي إلى برنامج آخر يعارضه. وبالتالي، يمكن توظيف التعدّدية الدينية في الواقع اللبناني خطاباً وممارسة، بحيث تؤدّي دورها من دون أن تنظر إلى الخلف، وتساهم في بناء وطنٍ متجذّر في نفوس بنيه لا تهزّه رياح ولا تقتلعه أعاصير مهما كانت عاتية.
* أمين سر اتحاد الكتّاب اللبنانيين